الـ 26 من مارس 2015، يومٌ لا يغيب من ذاكرة اليمنيين، طائرات تصب حقدها على رؤوس لم تنحن إلا لبارئها، وأبواق تنفث سمومها في كل منزل، معلنة عاصفة ظاهرها الخزي والعار وباطنها قتل ودمار واحتلال، ولكن حين تفتش أجيالنا الآتية في تاريخها ستجد في أنصع الصفحات حفاةً داسوا بأقدامهم فخر الصناعات وأفتك الأسلحة وأقوى الجيوش.
الثورة / عبد القادر عثمان
المتتبع لما يجري في اليمن منذ مارس من العام 2015، يدرك أن ما يتعرض له البلد الأعرق في الجزيرة العربية ليس مجرد حرب عابرة تهدف إلى إعادة ما تسمى بالشرعية إلى صنعاء، بل هي استماتة عدوانية – تقودها أمريكا وأياديها في المنطقة (السعودية والإمارات) – لإبادة الحرث والنسل بشتى الوسائل، ومحاولة ملحة منهم على تحويل الأرض إلى معسكرات يستطيع العدو من خلالها التحكم بممرات التجارة العالمية، وتحويل الإنسان إلى آلة تطوّعها الأوامر الليبرالية لخدمة المشروع الصهيوني.
سبع سنوات من العدوان والحصار حاول العدو خلالها استخدام الحرب العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية والنفسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية والسيبرانية والمخابراتية وغيرها من أشكال الحرب الناعمة والحصار الخانق ولا يزال في تصعيد مستمر رغم تسببه بأكبر أزمة إنسانية معاصرة في العالم، بوصف أممي.
شعار جانبي
منذ اللحظة الأولى لإعلان بيان العدوان على اليمن من واشنطن العاصمة على لسان السفير السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية – وقتذاك – عادل الجبير، انطلقت أسراب من طائرات العدوان بشكل مباشر لقصف المدنيين في صنعاء والحديدة وصعدة وعدد من المحافظات، إلى جانب تدمير البنية التحتية اليمنية العسكرية منها والأمنية والصحية والتعليمية والخدمية والدينية والثقافية والإعلامية والتكنولوجية وسواها.
حمل مشروع العدوان شعار «إعادة الشرعية المزعومة» إلى صنعاء – بعد ثورة 21 سبتمبر 2014، التي أسهمت في طرد جنود المارينز من اليمن – لكن سرعان ما بددت جرائم غارات العدوان أكاذيب تلك الشعارات، غارات هيستيرية بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا ظلت تتساقط على رؤوس المدنيين في كل بقعة من اليمن طيلة سبع سنوات، بلغت بحسب إحصائية وزارة الدفاع «274 ألف و243 غارة فتاكة ومدمرة» حتى مطلع مارس الجاري، بينما تذهب بعض التقديرات إلى أن عدد الغارات يتجاوز الـ 579 ألف قنبلة وصاروخ.
أرقام ودماء
في إحصائية حديثة تنشر بالتزامن مع ذكر اليوم الوطني للصمود عن مركز عين الإنسانية للحقوق والحريات، تشير أرقام الضحايا إلى أن الغارات المباشرة أسفرت عن قتل وجرح 46,262 بينهم 17,734 قتيل و28,528 جريح بينهم أكثر من 14 ألف قتيل وجريح من الأطفال والنساء.
لقد أدت الغارات التي شنها تحالف العدوان على اليمن إلى تدمير 590 ألف منزل بشكل كلي أو جزئي، من بين تلك الغارات القنبلة الفراغية التي ألقيت يوم 24 أبريل من العام 2015 على منطقة فج عطان في صنعاء وخلفت دمارًا هائلًا في أكثر من سبعة آلاف وحدة سكنية.
كما دمر القصف 11,901 منشأة تجارية و9,721 حقل زراعي و11 ألف وسيلة نقل وشاحنة و404 مصنع و969 سوق وألف مخزن غذائي و416 محطة وقود و433 مزرعة دواجن وماشية، وهو الأمر الذي أسهم إلى جانب، الحصار ونقل البنك المركزي إلى عدن في خلق أزمة غذاء حادة، صُنِّف اليمن إثرها أسوأ كارثة إنسانية معاصرة، وصلت إلى الحد الذي يموت فيه طفل كل 10 دقائق من سوء التغذية.
إلى ذلك، أسهم القصف المستمر على المنشآت الاقتصادية اليمنية، خاصة مصانع المواد الغذائية، في حرمان الشعب اليمني من بعض الاحتياجات الضرورية أو لجوئه إلى المنتجات القادمة من دول العدوان بأسعار تفوق قدرته الشرائية، خاصة في ظل انقطاع مرتبات منتسبي الوظائف الرسمية، نتيجة نقل صلاحيات البنك.
عذابات وطن
خلال سبع سنوات قصف طيران العدوان السعودي الأمريكي الإماراتي الإسرائيلي نحو 6,743 طريق وجسر حيوي و2,091 منشأة حكومية و2,799 خزاناً وشبكة مياه و340 محطة ومولداً كهربائياً، ما ضاعف من معاناة الشعب اليمني وأدى إلى نزوح ملايين الأسر من مناطق أصبحت غير قابل للعيش بعد فقدانها سبل الحياة واحتياجاتها الضرورية.
وفيما كان اليمنيون يعانون من عذابات الحرب والحصار، كان المعتدون يتلذذون بتلك المعاناة تارة، ويمارسون أساليب الدجل عبر المنابر الإعلامية الساقطة تارة ثانية، وينفذون المزيد من الهجمات العدوانية التي استهدفت المطارات والموانئ والمعابر البرية وشبكات الاتصالات الهاتفية والإعلامية تارة أخرى، حيث دمرت غارات العدوان 31 مطارًا وميناءً و609 شبكة اتصال هاتفي وإنترنت وكذا 60 منشأة إعلامية، كانت جميعها تهدف إلى عزل اليمن عن العالم؛ ليتسنى للعدو ممارسة أبشع الجرائم خفية عن أنظار أحرار العالم، وترافق مع ذلك حرب نفسية وإعلامية تمثلت في نشر الشائعات والأكاذيب التي تروج للمحتل وتبث الرعب في نفوس أبناء الشعب.
عدوان شامل
لم يكن العدوان على اليمن عسكريًا فحسب، بل عدواناً شاملًا؛ فقبيل إعلان العدوان كانت الحرب السياسية بمثابة التمهيد للهجمة العدوانية من خلال إجبار كافة دول العالم على سحب سفاراتها من العاصمة صنعاء، ليعقبها عدوان عسكري شمل – إلى جانب ما مضى ذكره – المستشفيات والمدارس والجامعات والمعاهد الفنية والمهنية والمساجد، حيث دمرت الغارات العدوانية أكثر من 1,396 منشأة تعليمية و410 مستشفى ومرفق صحي و1,612 مسجد، تسببت في تسرب ملايين الطلاب من المدارس والجامعات، وأخرجت نصف المنظومة الصحية عن الخدمة.
وإلى ما سبق، تؤكد إحصائيات مركز عين الإنسانية أن طائرات العدوان استهدفت 375 منشأة سياحية و253 موقع أثري و139 منشأة رياضية، منها اسطبلات الخيول، وهدفت بذلك إلى طمس الهوية اليمنية التي تشكل مصدر إزعاج لفاقدي التاريخ والتراث.
ضحايا وخسائر
وعلى الرغم من أن غالبية اليمنيين لم يقعوا في فخ العدوان ولم يستسلموا لمخططاته الرامية إلى إخضاعهم واحتلال بلدهم، إلا أن العدوان لم يترك بيتا يمنيا دون إدخال الحزن فيه، حيث راحت طائراته تصب الموت على رؤوس اليمنيين في المحافظات الحرة في القرى والمدن والوديان والشواطئ وغيرها، ولم يسلم من غارات العدوان مأتم أو فرح ولم ينج سجين أو مريض أو ميّت أو مهاجر.
كانت أبرز جرائم العدوان خلال سبع سنوات، جريمة الصالة الكبرى بصنعاء، التي راح ضحيتها أكثر من ألف رجل بين قتيل وجريح وكذا جرائم سجون: صعدة وذمار والشرطة العسكرية بصنعاء والزيدية بالحديدة، وصالة عزاء سنبان وحافلة أطفال ضحيان صعدة ومدرسة الراعي بسعوان صنعاء وجريمة اغتيال الرئيس صالح الصماد واستهداف مكتب الرئاسة بصنعاء، وصالات أعراس أخرى في الحديدة وحجة، ومخيم عزاء في أرحب والصيادين في جزيرة عقبان بالحديدة والمهاجرين الأفارقة في الدريهمي ومجزرتين في نقم وفج عطان ومجزرة الحي الليبي والرقاص ومخيمات النازحين ومدينة العمال في المخا وأسواق خلقة في نهم صنعاء وشاجع في زبيد الحديدة وغيرها المئات من المجازر المنسية عالميًا الحاضرة في أذهان وقلوب كل يمني حر.
مأساة حصار
ولمّا عجز كل ذلك عن إركاع اليمنيين راح يبتكر أساليب جديدة للحرب الاقتصادية من خلال إجبار سلطة الارتزاق والعمالة على طباعة العملة المزورة وضخها للسوق اليمنية من أجل التضخم وانهيار الريال اليمني، كما منع استيراد الكثير من الاحتياجات الضرورية ومنها المواد الغذائية والمشتقات النفطية والأصناف الدوائية، حتى وصل به الحال إلى منع وصول المساعدات الإغاثية إلى الشعب اليمني.
خلق الحصار المطبق على اليمن أزمة خانقة في المشتقات النفطية بشكل غير مسبوق انعكس أثرها على القطاعات الحيوية والخدمية والحياة اليومية، حيث تتعالى نداءات الاستغاثة من القطاع الصحي والحيوي والاتصالات والمواصلات والطاقة بصورة يومية، غير أن العدو أرعن والمجتمع الدولي أخرس.
لقد أدى الحصار إلى حرمان ربع مليون يمني – يعانون من أمراض مستعصية – من السفر لتلقي العلاج في الخارج، ما جعل البعض يلجؤون إلى السفر عن طريق المحافظات المحتلة رغم المخاطر التي تواجههم وفي مقدمتها الاعتقالات التي تمارسها مليشيات الارتزاق بحق الكثير منهم.
علاوة على ذلك، حاولت أياديه الخفية خلخلة الجبهة الداخلية واستهداف النسيج المجتمعي من خلال المنظمات المدعومة أمريكيا، غير أن حكمة القيادة والتوجه الصادق من الشعب كانا سببًا في نجاة اليمنيين من كل ذلك الجنون العدواني الذي يمارسه تحالف يضم 20 دولة من أقوى وأثرى دول العالم في العصر الحديث.
أيادٍ كثيرة
يتزعم التحالف العدواني ظاهريًا النظام السعودي ومعه النظام الإماراتي، بينما تقف الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني وبريطانيا وفرنسا خلف الكواليس، وعلى الرغم من أن أمريكا، وهي القوة المصنفة عالميا بالأولى من حيث التسليح والاقتصاد، لا تجد حرجًا من المجاهرة بمشاركتها الفاعلة في العدوان الفاشل ضد ما يوصف بأنه البلد الفقير في المنطقة (اليمن)، إلا أنها لم تكتف بإدارة المعركة وتقديم الدعم الفني واللوجستي والاستخباراتي لقيادة تحالف العدوان، بل دفعت بجنود مرتزقة من السودانيين والأفغان والبلاك ووتر والبلاك شيد والجنجويد والمرتزقة اليمنيين وحتى أصحاب القبعات الخضراء، وجيوشاً مرتزقة من مختلف بلدان العالم، كانت الأرض اليمنية محرقة لأفواجهم وأسلحتهم الحديثة.
لم يكن الجيش السعودي أو الإماراتي – كل على حدة – قادر على تحقيق أهداف تحالف العدوان سواءً تلك الظاهرة على هيئة إعادة المرتزقة إلى صنعاء أو الخفية الرامية إلى احتلال البلد وسلب تاريخه وتطويع شعبه ونهب ثرواته – على غرار ما يجري في المحافظات الجنوبية التي تذهب واردات نفطها وغازها إلى خزينة البنك الأهلي السعودي – فكان الأمل في تحقيق ذلك في اليمن كله مقرّون باستئجار الجيوش المرتزقة لكن المقاومة الشرسة لليمنيين وفي مقدمة صفوفهم الجيش واللجان الشعبية والانتصارات التي تحققت خلال سبع سنوات بددت كل الآمال.
جاءت الجيوش الغازية إلى اليمن بانية أحلامها على أن مهمتها لن تستغرق مدة أسبوعين، كانت أكثر قبحًا وسفورًا من الطائرات، انتهكت حقوق الإنسان والأعراض وداست على كرامة الذين جعلوا من أنفسهم ودمائهم سجاجيد حمراء للغزاة في المحافظات المحتلة، ثم أقامت السجون السرية، ثم زجت فيها بالكثير من المناوئين لسياستها وأطماعها ومارست بحقهم صنوف شتى من العذاب النفسي والجسدي والجنسي كما كشفت تحقيقات وكالة الأسوشيتد برس الأمريكية في العام 2018.
صفقات محرمة
ولتهيئة البيئة الملائمة للجنود المرتزقة، أبرمت دول العدوان صفقات أسلحة جعلتها أكثر الدول استيرادا للأسلحة في العالم، خلال سنوات العدوان على اليمن، حيث أبرمت السعودية في العام 2017 صفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة 110 مليارات دولار من أصل 470 مليار دولار على مدى 10 سنوات، غير أنها عززت الأعوام التالية لهذا التاريخ بصفقات أخرى من ألمانيا وتركيا وروسيا وأمريكا والصين وغيرها من الدول المصنعة لأحدث الأسلحة بمئات المليارات من الدولارات.
«على مدى السنوات الخمس الماضية سجّل الشرق الأوسط زيادة ملحوظة في استيراد الأسلحة بنسبة 25%، إذ أصبحت المملكة العربية السعودية أكبر مستورد للأسلحة في العالم، باستحواذها على 11% من واردات الأسلحة العالمية، 79% منها مصدرها الولايات المتحدة، بينما تحل الإمارات في المرتبة الثامنة عالميًا من حيث استيراد الأسلحة»، بحسب تقرير صادر عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام منتصف العام الماضي.
شملت صفقات الأسلحة المبرمة بين دول تحالف العدوان والدول المصنعة أحدث الأسلحة الذكية وأكثرها فتكًا وتدميرًا، إلى جانب القنابل العنقودية والصواريخ المحرمة دوليًا كقنابل «سي بي يو» بأنواعها وصواريخ «آستروس2» و«إم 26» و«زد بي 39»، إلى جانب طائرات الإف 16 و35 والمقاتلات التجسسية وغيرها، حتى بات اليمن مسرحًا لتجارب الأسلحة العالمية بمختلف أنواعها والتي خلفت إلى جانب الدمار والضحايا تشوهات خلقية في بعض المواليد في المناطق التي تعرضت للقصف في صعدة وحجة وذمار وصنعاء.
قادمون في العام الثامن
مع دخول العدوان عامه الثامن، يواصل العدوان هيستيريا القصف والقتل الممنهج دون تحقيق أطماعه، ومع ذلك يعزز من حديثه في وسائل الإعلام عن مساعي السلام المزعوم، غير أن كارثية الوضع الذي أوصل إليه اليمن وحجم الهجمة العسكرية وصفقات الموت وما خلفته يفضح تلك الادعاءات ويكشف زيفها.
في مقابل ذلك يعزز اليمنيون صمودهم بمزيد من الخيارات الاستراتيجية على الصعيد العسكري ومعادلات الردع بأعصير يمانية تكسر الحصار وتحيل الأطماع سرابًا وترسم ملامح عام جديد من الصمود والإنجاز في طريق نصرٍ محتوم يراه العدو بعيدًا ونراه قريبا.