اندلعت الاحتجاجات الشعبية في العام 2011م نتيجة تراكم الأزمات في جنوب الوطن وشماله ، وعجز النظام القائم عن حل القضايا الاجتماعية ومنها التنموية والبطالة وعن فتح أفق للانتقال السياسي والتداول السلمي للسلطة الذي وصل إلى نقطة حرجة في العام 2009م.
فجاءت الثورة الشبابية الشعبية نتيجة حاجة ملحة إلى التغيير في اليمن، ومجيئها في سياق انتصار الثورة في مصر وسقوط مبارك لا يعني أنها مجرد تقليد أعمى من خارج خصوصية الواقع اليمني.أنس القاضي / سبأ
بدأت الثورة الشبابية الشعبية السلمية بزخم ثوري عظيم، وطموحات عالية وأحلام كبيرة، إلا أن القوى المعادية للشعب اليمني -الأجنبية والمحلية – عملت على إعاقة التحول السياسي عن طريق المبادرة الخليجية وضربت الديمقراطية التوافقية التي جسدها مؤتمر الحوار الوطني، وفي كل مرحلة من ممانعة التغيير والانتقال السياسي الوطني والتدخلات الأجنبية المدافعة عن النخبة الحاكمة العميلة ، كانت تولد الوحدة الشعبية.
عبرت ثورة 11 فبراير 2011م عن أروع صور وحدة الشَعب اليمني، حيث تجاوزت الثورة الشبابية الشَعبية اليمنية كل الأطر الضيقة الجهوية والمذهبية، وكذا الاصطفافات الحزبية السياسية القديمة، مُعبرةً عن اللوحة الجديدة المُتشكلة في الوطن القائمة على الأخوة اليمنية، ومؤكدة على جوهر اجتماعية التدافع والصراع نافيةً العناوين والفرضيات الطائفية والعرقية والجهوية التي ترفع في واقع اليوم، ويُفسر فيها النزاع والاستقطاب الداخلي الراهن المرتبط بشكل وجودي بالحرب العدوانية الأجنبية، التي تتزعمها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وهما الدولتان اللتان وقفتا ضد ثورة فبراير.
كانت الوحدة الشعبية اليمنية من أهم المسائل التي أكدتها ثورة فبراير؛ فعلى الرغم من استخدام السُلطة السابقة العميلة في سيطرتها واستبدادها الاقتصادي الخدماتي السياسي على آليات عصبوية وتنمية هذه العصبيات لتفكيك المجتمع وإعاقة توحد المحرومين المنتمين إلى كل هذه الأعراق والقبائل المذاهب الجهويات – على الرغم من تلك الاستراتيجية الخبيثة – إلا أن ثورة فبراير أثبتت الجوهر الاجتماعي للظلم والاستبداد، هذا الجوهر الاجتماعي للتدافع والصراع، تجلى في التمازج الشعبي في ثورة 11 فبراير للمواطنين اليمنيين من مختلف انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية وجهاتهم، وقد دلل ذلك التمازج على أن الأزمات اليمنية يجب أن تُحل ضمن الإطار الاجتماعي الديمقراطي الوطني. وهذه الوحدة الشَعبية أخافت السُلطة الحاكمة بمختلف أجنحتها، كما مثلت تهديداً للقوى الدولية الغربية المهيمنة ووكلائهم الخليجيين.
حرف المسار الثوري
عبرت الجماهير المنخرطة في ثورة 11 فبراير، عبر نشاطها الميداني والذهني عن وعي الطبقات الشعبية اليمنية بالقضايا السياسية حيث قدمت نفسها عفوية عبر هتافاتها بأنها القوى الاجتماعية صاحب المصلحة من التغيير الاجتماعي الوطني، وهي ما يُطلق عليها نظرياً بـ الكتلة التاريخية وتسمى سياسياً بـالحركة الوطنية الديمقراطية، فتلك الجماهير كانت هي الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية والتيارات السياسية المحرومة، والقادرة على إنتاج الجديد في الحياة الاقتصادية والفكرية ضد ظلامية القديم وفساده، وبالتالي فقد مثلت خطراً على السُلطة الحاكمة، مما جعل مراكز النفوذ الحاكمة ومن خلفهما السعودية وأمريكا تسعى نحو تفكيك هذه الوحدة الشعبية ونحو الاستفادة من الاندفاعات الثورية وحرفها عن المجرى الثوري في مواجهة القديم كمنظومة متكاملة، إلى مجرى الصراع التنافسي بين أقطاب السُلطة الحاكمة.
لم ينحصر خطاب جماهير ثورة 11 فبراير، على إسقاط قوى الاستبداد والفساد الحاكمة في اليمن، بل تجاوزه إلى رفض هيمنة القوى الإقليمية الداعمة لسلطة الاستبداد وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد عبر الثوار عن موقفهم هذا من القوى المحلية والأجنبية بالهتافات واللافتات وكذلك الأعمال المسرحية التي كانت تقام في ساحات الثورة والتغيير في صنعاء وتعز وصعدة وعدن.
انضمام المعارضة التقليدية إلى الثورة
حين تصاعدت الاحتجاجات الشعبية في 2011م وجدت أحزاب المعارضة السياسية للقاء المشترك أن هذه الاحتجاجات الشعبية فرصة من أجل الضغط على النظام، للقبول بالتداول السلمي للسلطة وتحريك عجلة الديمقراطية التي توقفت في العام 2009م إلا أن التجمع اليمني للإصلاح وهو أحد أحزاب المعارضة السياسية وجد في الثورة فرصة لزيادة حصته في السلطة حيث أن هذا الحزب الذي كان سياسيا في موقع المعارضة كان له نفوذ عميق في بنية الدولة البيروقراطية المدنية والعسكرية والاقتصادية ومطالب التغيير والانتقال إلى الحكم الرشيد لم تكن تهدد فقط نفوذ الحزب الحاكم المؤتمر الشعبي العام بل وتهدد نفوذ التجمع اليمني للإصلاح.
في 17 أغسطس 2011م دخلت أحزاب المعارضة السياسية اللقاء المشترك في الاحتجاجات وسعت إلى تشكيل مجلس يمثل قوى الثورة والذي تمخض عنه إعلان قيام المجلس الوطني لقوى الثورة السلمية.. وجدير بالذكر أن المعارضة الشعبية الفاعلة التي لها قضايا عميقة ممثلة بحركة أنصارالله والحراك الجنوبي، لم تكن مشاركة في هذا المجلس.
وقد عمل هذا المجلس على التوجه نحو تسوية سياسية مع النظام والتعامل مع الواقع كأزمة سياسية تصلح النظام المتهالك وتعيد توزيع السلطة فيما بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة السياسية ، ونفي الطابع الشعبي للثورة وتجاهل المعارضة الشعبية الفعالة الحوثيين (أنصار الله) والحراك الجنوبي. وهذا النظام لأحزاب المعارضة السياسية هي التي انتصرت في نهاية المطاف فيما سُمي بالمبادرة الخليجية.
مجزرة جمعة الكرامة
في 18 مارس 2011م، نظّم المتظاهرون اليمنيون مظاهرة أطلقوا عليها اسم “جمعة الكرامة” ومع انتهاء المتظاهرين من صلاة الجمعة، قام العشرات من الرجال بثياب مدنية، مسلحين بأسلحة آلية عسكرية بالتجمع حول الاعتصام من اتجاه الجنوب ثم فتحوا النار.
وعلى مدار ثلاث ساعات، قتل مسلحون ما لا يقل عن 45 متظاهراً – أغلبهم من الطلبة الجامعيين وأصابوا 200 آخرين، وأثبتت الأحداث في ما بعد أن علي محسن الأحمر قام بتدبير هذه المجزرة، حيث اختفى المسلحون الذين ألقى الشباب القبض عليهم وتسليمهم للفرقة الأولى مدرع التابعة لعلي محسن الأحمر.
جرى تنفيذ مجزرة الكرامة بناءً على مبدأ الصدمة الذي ظهر أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفقا لهذا المبدأ فالأحداث والمتغيرات الكارثية والمأساوية تسبب صدمة نفسية ومعاناة داخلية، تجعل الجماهير والمكونات السياسية مهيأة للقرارات والتدخلات التي تأتي تحت دعوى رفع الضرر وحماية مصالح المجتمع ، فتحت ضغط الصدمة غالبا لا تجد الجماهير والمكونات فرصة للبحث والتفكير من أجل التعامل مع الحدث ، فيما القوى التي قامت بهذه الصدمة أو كانت معدة نفسها للاستفادة من الحدث الصادم، تكون حاضرة في هذا الوقت العصيب، وتقدم فكرتها وحلها، وهكذا قدم علي محسن الأحمر نفسه كحامٍ للثورة بعد هذه المجزرة، وأياً كان الذي ارتكبها فقد أفضت المجزرة إلى تسلق علي محسن على الثورة.
تسلق علي محسن للثورة
في 21 مارس 2011م، انضم الجنرال علي محسن الأحمر إلى الاحتجاجات الشعبية بحجة حماية الثورة، وكان انضمامه تعبيراً عن الرغبة السعودية الأمريكية في شق قوى الثورة وتفريق الجماهير والاستفادة منها في الصراعات البينية لأقطاب السُلطة.
من بعد انضمام علي محسن، سيطر التجمع اليمني للإصلاح على منصات الساحات وشكل لجاناً أمنية كانت تعتدي على الشباب وتحول دون بروز الموقف والرأي الثوري الآخر الرافض للنهج الرجعي الذي يفرضه الاخوان و محسن على الثورة. وعلى الرغم من أن قوى الثورة كان مطلوباً منها الاستفادة من انقسامات السلطة إلا أنها (قوى الثورة في فبراير) عجزت عن الاستفادة من هذا الانقسام السلطوي ووقعت في شِراك السُلطة الحاكمة ومصالحها وصراعها التنافسي، وسبب العجز يكمن في افتقارها للقيادة الثورية الواعية والمُتحررة من ثقل مصالح السلطة والتصورات الانهزامية عن فاعلية الشعب وقدراته.
وفعلياً.. فإن علي مُحسن شق قوى الثورة أكثر من شقه للنظام القديم (الذي هو أحد أركانه)، فكان الانقسام الأول لقوى الثورة هو اجتذاب علي محسن والإخوان لقطاع جماهيري واسع باتجاه مصالحهم لا مصالح الثورة.
والشَق الثاني تمثل في استعادة صالح جزءاً من شَعبيته، وفي عجز الثورة بعد انضمام محسن عن اجتذاب قطاعات جماهيرية جديدة للمشاركة في ثورة التغيير إلى جانب أحد أقطاب النظام ورموز فساده واستبداده.
والشَق الثالث تمثل في تخلي الجنوبيين عن مساندة الثورة عموماً، والعودة إلى رفع شعارات الحراك الجنوبي، وهم الذين كانوا قد أسقطوها في بداية انطلاقة ثورة 11فبراير.
المؤامرة الخليجية على الثورة
كانت المبادرة الخليجية، أول رد فعل خارجي استعماري ومحلي رجعي ضد الحراك الاجتماعي في 2011م، وهي في جوهرها مؤامرة أمريكية، لكنها قدمت باسم مجلس التعاون الخليجي.
من حيث اسمها تبدو المبادرة الخليجية وكأنها مبادرة من طرف موقعه خارج الظروف التاريخية للأزمة، طرف محايد وجار لليمن تربطه به مصالح مشتركة، يريد أن تستقر اليمن ولا يهمه أي قوى اجتماعية وسياسية سوف تصل إلى السلطة وما هي سياسة القوى الجديدة التي ستأتي بها الثورة.
والأهم عنده أن يتم الوصول إلى حل بين اليمنيين، بهذا المضمون تم تسويق المبادرة الخليجية.
في 3 أبريل 2011م قُدمت المبادرة الخليجية من قبل دول مجلس التعاون الخليجي إلى الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة السياسية، تمثل جوهرها في تقاسم السُلطة بين المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك، ونقل السُلطة عبر انتخابات بمرشح وحيد إلى نائب الرئيس آنذاك عبدربه منصور هادي، وتشكيل حكومة مناصفة بين المؤتمر الشعبي العام وأحزاب اللقاء المشترك.
تم توقيع المبادرة الخليجية في الرياض بتاريخ 23 نوفمبر 2011م واستلم الرئيس هادي مسؤولياته بعد ذلك بثلاثة اشهر. وقد سوقت أحزاب المعارضة التقليدية بأن المبادرة الخليجية هي الحل الأمثل لحل الأزمة في اليمن.
المبادرة الخليجية وردود الأفعال
رفضت المكونات الشبابية في الساحة وأنصار الله وقوى الحراك الجنوبي المبادرة الخليجية لأنها تعتبر التفافا على الثورة، وظلت هذه القوى في الساحات مواصلة الثورة من أجل التغيير العادل كمعارضة ثورية خارج الحكومة التي شكلتها المبادرة الخليجية.
فما قامت به المبادرة الخليجية هي أنها أعاقت تطوير الفعل الثوري لحِراك 11 فبراير 2011م ، حيدت جزءاً كبيراً من الجماهير، ونقلت الصراع من الحقل الميداني الاحتجاجي إلى الحقل السياسي، لكن هذا النقل لم يكن عكسا لواقع الصراع، فلم تنقل التناقضات الاجتماعية إلى الحقل السياسي من حيث جوهرها، وإن حدث ذلك لكانت المبادرة الخليجية تقدمية، لكن ما فعلته هوَ أنها تناولت القضية الاجتماعية، كأزمة سياسية بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، وهذا التسطيح للقضية الاجتماعية حَكم على المبادرة الخليجية بالفشل، وفشل كل ما ترتب عليها من ممارسات سياسية، لأن هذه المبادرة لم تعكس جوهر الأزمة، ولم تضع أسس حلها، بل حاولت التهرب منها وإعادة ترسيم الطبقة المسيطرة.
إضافة إلى الانقسامات التي أحدثها تسلق علي محسن للثورة، جاءت المبادرة الخليجية الأمريكية، لتزيد من تفتيت ما تبقى من جماهير الثورة.
كانت المبادرة الخليجية الأمريكية في رؤيتها السياسية مُعبرة عن الصراع التنافسي بين أقطاب السُلطة القديمة ، ولم تكن معبرة عن صراع أوسع القوى الشعبية ضد السُلطة القديمة برمتها، وهكذا فقد قامت المبادرة الخليجية على توزيع السُلطة بين أقطابها المتنافسة، بين صالح والمؤتمر الشعبي العام وحلفائه، وبين الإخوان وبيت الأحمر وحلفائهم ؛ وقد عمل هذا على إحداث الشق الأكبر في أوساط قوى الثورة.
وكان هذا الشق عميقاً ومؤثراً، حيث انصرفت جماهير شعبية كثيرة عن الفعل الثوري مؤملة بالمبادرة الخليجية وخداع القوى السياسية المعارضة، ولم يتبقَ في ساحات الثورة بعد المبادرة الخليجية إلا تيارات بسيطة: ليبرالية يسارية وقومية تحت شعار جبهة إنقاذ الثورة، وشباب مدنيون مُستقلون عن الانتماءات الحزبية ومعظمهم من طلاب الجامعات وخريجين في مختلف المحافظات، والحركة الشبابية.
بقاء ذات السُلطة التي كانت سابقة لثورة 11 فبراير واستمرار الممارسات السلطوية الفاسدة في عهد حكومة باسندوة ، وعدم تحقق آمال الجماهير، اشترط استمرار النشاط الجماهيري في كيفية جديدة، بانخراط قطاعات واسعة من الشعب بالعملية السياسية، من خلال تناولهم القضايا اليومية الجوهرية في الجرائد والمقايل، جعلتهم أكثر قدرة على إدراك الواقع، الأمر الذي كثف الإجماع الشَّـعْـبي حول مسألة التغيير ورفض الواقع، المشوه، أي القناعة بالحاجة إلى ثورة جديدة تصحح مسار فبراير 2011م فكانت ثورة 21 سبتمبر 2014م.