رانيا رسام
أيُشرخ الماء؟! أينشق على نفسه ويبعث أنصافاً؟! أم هو مار على أرض جدباء؟!
ظللت أتأمل عنوان الرواية ومخيلتي تغوص عميقاً فيما أراده الروائي من هكذا عنوان، ظللت أفسر الكثير حتى غصت فيها.
تبدأ الأحداث من مركز البحوث والدراسات – شارع بغداد في العاصمة صنعاء ثم المرور على باب اليمن ومن هناك يأخذنا صوت السارد إلى أرض تهامة إنما في زمن آخر.
رواية (شرخ الماء) تعد سيرة تاريخية لفترة ما قبل ثورة 62، تحكي عن الثورات اليمنية، عن التواجد المصري، عن نشأة الأحزاب والولاءات، عن الفكر الشيوعي والاشتراكي والماركسي والرأسمالي.
ما تطرحه هذه الرواية يدعونا للتفكير.. سؤال تتمحور حوله كل الأحداث: ما حقيقة الولاء؟! كيف تتجذر الأفكار؟! كيف تتكون العلاقات والصلات؟! ما الذي يغير المبادئ؟! كيف يصبح الفرد غريباً حتى عن هويته؟!
الرواية وفي ثلاثة وعشرين فصلاً تنقلنا بين أحداث سياسية تاريخية لم يعاصرها بعضنا، ما أتاح لنا معرفة التفاصيل بترابط جميل.
– الزمان والشخصيات: تنتقل الرواية بين عدة أزمنة وبصورة موازية لتعرض لنا حياة (عبدالملك) والأشخاص حوله.. قصة حب حسام وهديل، تكفل جارتهم (مليحة) بتربيته بعد وفاة والده ووالدته وأخته، والأحداث التي تبدأ وهو في الثامنة من عمره عند قدوم المصريين ، فترة بناء المدارس والمشافي ودور السينما.
حياة عبدالملك بدءاً من قريته الصغيرة ثم سفره للمدينة (الحديدة) وتتصاعد الأحداث في حياة عبدالملك.. بين انتماءه السياسي، ولائه، اعتقاله، وإلى مآل غير متوقع.
وفي ذات المستوى المتوازي حياة (مراد) المتميز علمياً والذي انتمى كغيره من رفقائه لفكر يؤمن به وكيف أنه شغل مناصب في القطاع الخاص ثم أصبح من المطلوبين حتى آلت حياته لمصير غير متوقع أيضاً ودور زوجته في خلق هذا المصير.
شخصية (عبدالستار) جاء ذكرها كرفيق سابق لم يعرف مصيره، تردد اسم (عبدالستار) بخجل بين فاتحة الرواية وفي المنتصف والخاتمة.
بجانب هذه الشخصيات الرئيسية عاصرت شخصيات أخرى تفاصيل حياة كل منهم، قصة حب حسام وهديل عرجت على قضايا اجتماعية عديدة، منها:
دور الشيوخ وبطش بعضهم، زواج القاصرات، الحب المستعصي أمام مريديه، “الستر” الذي لايناله المستضعفون القابعون في “عشش” لا تستر تفاصيل حياتهم الحميمة.
– تناولت الرواية كذلك الرؤية الاجتماعية التي كانت نتاج أحداث وصراعات السياسة والتي أثرت بدورها على الرؤية الدينية كذلك.
المحور التي ارتكزت عليه الرواية هو (الفساد) والشرعنة للسرقة وكيف أن الشريف تناله المضايقات حيثما كان.
– تعددت أصوات الرواة، فهناك سارد يكتب هذه الأحداث لكنه شارك في الحدث الرئيسي فيها، فرحلته إلى صنعاء وبحثه عن صديق قديم يدعى (عبدالستار) سيجعلنا نربط التداخل بين أزمنة جميع الشخصيات والتشابك بينها.. وهناك صوت عبدالملك وصوت مراد.. وفوق كل هذه الأصوات كان الكاتب الذي يلملم التفاصيل لنكتشف أنه هو السارد وهو الكاتب الذي ذكره في محفل الأحداث وهو الباحث عن الصديق المختفي (عبدالستار).
– ما يتركه الكاتب بين أيدينا هو محاكمة للضمير وما سيؤول إليه مستقبلنا حين ذكر حدثاً صغيراً له- كسارد لهذه الرواية – بين طفلين (ابنة الكاتب ذات الأعوام الثمان المنهمكة في واجبات دراسية ثقيلة جداً لا يقوى عليها طفل) و(ابن شيخ القرية في تهامة الذي ضمن إكمال دفاتر امتحانه في الثانوية عن طريق نفوذ والده وضمان حصوله على معدل مرتفع يتيح له الحصول على مستقبل واعد).. ويدور السؤال: وكأننا سنعيد الكره لندور في نفس العجلة التي أنتجت مصير مراد وعبدالملك.
– ولأن الجمال لا يكتمل دون موسيقى، أتت الأحداث ممزوجة بأغاني الثورة.. بأغاني الحب .. بأغاني القرى، صوت فيروز: ولي فؤاد إذا طال العذاب به.. هام اشتياقاً إلى لقيا معذبه، النشيد الوطني، فيصل علوي، الآنسي، وأم كلثوم .. والكثير، ومن الأحداث التي تتضارب فيها المشاعر مشهد تعذيب (عبدالملك) الذي لم يدرك أنه في ليلة عيد ولم يستشعر بهيبة وجمال هذه الليلة إلا عند استماعه لكوكب الشرق واستماعه ل (آنستنا يا عيد).
– يختتم الكاتب الرواية بين لقاء السارد عبدالستار الملاحق .. ويعود بنا إلى شوارع صنعاء حيث هذا اللقاء، يضع عبدالستار قصاصة في يد السارد القاص الكاتب (عبدالرحمن) مكتوب فيها:
(توقف عن هذا الذي تكتبه يا عبدالرحمن ومزق ما كتبت.. أشفق عليك في مجتمع ” لايقرأ اليوم” وأشك أنه “سيكتب غداً)… وهنا كانت الرسالة التي بلغتني كقارئة.
حين تنسج السياسة والحياة الاجتماعية .. الفكر الفلسفي والثقافة الغنائية.. لعبة غسل الأفكار وتغيير الولاءات تأتي رواية كشرخ الماء تفسر ما حدث وما يحدث، تدعونا لنكون أحرار فكر.. نقرأ لنكتب تاريخاً حقيقياً كما نعاصره، وهنا استشهد بجملة من هذه الرواية:
(الخاتمة دائماً معجبة بالنص ومن الإعجاب ما قتل، لندع النص مفتوحاً بين دفتي كتاب فنحن نعتقله هناك).
للرواية جمالها وبالنسبة لي كقارئة كنت أفضل أن أرى بنية السرد الروائي متجذراً أكثر كون التقريرية طغت على بعض فصول الرواية، وبعض أجزائها كان أقرب للسيرة التاريخية لكن هذا الأمر لم ينقص من قوة محتواها ومدى تأثيره.
كما كنت أتمنى أن أرى شخصية (عبدالستار) – الشخصية الشريفة التي ذاقت صنوف العذاب وتشوية السمعة عمداً نظراً لنزاهتها – تحتل حيزاً أكبر ويكون لها نصيباً في رسم الأحداث لكنني تراجعت عن أمنيتي حين أدركت أن للكاتب مآرب أخرى ومقاصد قد لا ندركه وهو بهذا يكشف مصير الشرفاء المعرضين للتهميش والإقصاء.
إذاً، فلندع عنوان هذه الرواية مفتوحاً .. فالماء يشرخ كما تشرخ أرواحنا وأفكارنا.. الماء حياة ويمكن للحياة أن تكون مشروخة ولا تعاش.