قراءة في كتاب.. (فئران الأنابيب) لـ(ميشال كليرك)
صلاح الشامي
* إنها لعبة (النفط) وأمرائه البدو، الذين لا يملكون منه إلا ما يجعلهم ينتقلون من حياة البداوة – بلا وعي وبسرعة فائقة – إلى حياة الترف، أما عائداته فهي في خزائن (واشنطن) وفي أسواق بورصة (نيويورك) وبورصة معظم عواصم أوروبا ،وفي مشاريع عززت من سيطرة أمريكا اقتصادياً -صناعياً وتجارياً- ناهيك عن صفقات السلاح الحقيقية والزائفة للدولة السعودية الناشئة ودول الخليج المنفتحة على العالم بغباء مرصَّع بالذهب والألماس ، وملطَّخ ببارات ومواخير (لندن وباريس وجنيف ونيويورك).
* لعنة (النفط) الذي جعل الأمراء السعوديين ينسلخون من الإسلام وتعاليمه، ويغوصون بين أفخاذ النساء الأوروبيات وغيرهن من جميع الجنسيات ، حتى الزنجيات، وفي مستنقعات المسكرات من شتى الأنواع ، والمؤامرات والاغتيالات، وهو (النفط) ما جعل طائرات خاصة تقلع من العواصم الأوروبية ، لا تحمل إلاَّ الشقراوات إلى (جدة والرياض) وغيرهما، لمتعة أمراء (النفط).
* وفي الحين الذي كانت أمريكا تستفيد من عوائده ، في تعزيز اقتصادها وقدرتها العسكرية ونفوذها السياسي ، كان العرب يغوصون أعمق في محيطات الضياع ويزدادون ضعفاً ووهناً وجهلاً.
* هذه خلاصة استباقية ، أو مقدمة لموضوع مستفيض تتقرح منه صفحات تاريخهم الأسود الموبوء بالذهب الأسود، الذي لم يرفع من مكانتهم، ولا من بلدانهم، ولا من أوضاع مجتمعهم، فظلوا وما زالوا مجرد فئران، فئران الأنابيب، أنابيب النفط الذي يُضَخَّ بكميات هائلة لتحريك المصانع الأمريكية والأوروبية وإضاءة مدنها، وتجميد المشروع العربي وإخماد كل قبس فيه من الخليج إلى المحيط.
* (ميشال كليرك) في روايته (بخشيش) أو (فئران الأنابيب) الصادرة بطبعتها العربية في بيروت، في يناير 1978م ، والتي صدرت قبل ذلك باللغة الفرنسية تحت عنوان (BAKCHTCH) (بخشيش) في باريس 1976م.. رسم –بدقة- ذلك العالم من التغيِّرات التي طرأت على السعودية من بعد استخراج النفط، وذلك البذخ الفاحش ،أو الفجور المبالغ لأمراء النفط، وهم يبدِّدون الأموال في صالات القمار، بالدولار الأمريكي ، والفرنك الفرنسي والسويسري ، والجنيه الإسترليني في عواصم أوروبا وفي أمريكا ، بأيديهم المثقلة بخواتم الذهب التي يرصِّعها الألماس.. ويشترون القصور التاريخية في مدن أوروبا، ويثقلون صدور المومسات بعقود الألماس ويبرمون العقود الاستعراضية مع أباطرة الاقتصاد الغربي.
* يركبون “الكاديلات” ، ولا يستثمرون إلاّ في مجال الأزياء النسائية لإرضاء نزوات الشبقات الانجليزيات والفرنسيات والأمريكيات ، وفي الصالونات والملاهي الليلية ، والتشبع من السيقان والأجساد الرشيقة المثيرة ، والنهود البارزة ، والأرداف المستديرة ، والأجساد شبه العارية.
* كانت الاتفاقية السرية المالية والنفطية، بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية تنص على عدة قضايا أهمها ما يلي:
1- إذا حافظ الفائض بالحساب الجاري لميزان مدفوعات المملكة العربية السعودية على مستواه، فإن 5% من هذا الفائض يضاف كل عام إلى احتياطات البلاد.
2- توظف نسبة 50% من الفائض السنوي في ميزان مدفوعات المملكة العربية السعودية في استثمارات طويلة الأجل في الولايات المتحدة الأمريكية.
3- 87% من الموجودات السائلة النقدية للمملكة العربية السعودي الفائضة عن احتياجات الحكومة السعودية لاستثماراتها في المملكة توظَّف بشكل مشابه في أسواق المال الطويلة الأجل في الولايات المتحدة الأمريكية.
4- تتمتع هذه الاستثمارات بفائدة لمعدل 7.5% ،وبإمكان السعودية أن تسحب على مدفوعات الفوائد لتسوية حساباتها بصدد مشترياتها من الآليات والأجهزة من مورِّدين أمريكيين ، بما في ذلك مشتريات المعدات العسكرية.
5- تتعهد المملكة العربية السعودية بعدم زيادة السعر المعلن للنفط بأكثر من 5% في أية سنة من السنوات حتى 31/12/1984م، ويسري هذا الالتزام، بصرف النظر عما إذا اتفق عليه أو نفذت أية زيادة في السعر من قبل منظمة (أوبك) في أي وقت خلال هذه المدة، وإذا طبقت (أوبك) زيادات أكبر بصورة فعلية، فإنها لن تكون قابلة للتطبيق على مبيعات النفط السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
6- تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية باستعمال جميع إمكانياتها السياسية والعسكرية والاقتصادية لمساعدة الحكومة العربية السعودية بأية طريقة في ضوء الظروف المتطورة.
* كل هذه البنود المجحفة في الاتفاق السري، والتي تصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية ، وافقت عليها الحكومة السعودية طواعية ، حتى وصلت الودائع السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية في 1977م إلى أكثر من 20 مليار دولار ، بينما بلغت الاستثمارات والعقود السعودية في الولايات المتحدة 20 ملياراً أخرى، وحصلت صناعة الأسلحة الأمريكية من 77- 1984م على 30 ملياراً من الدولارات ..بالإضافة إلى هذا فإن 30 ألف أمريكي من تقنيين وخبراء ومستشارين آنذاك كانوا يعملون في السعودية.
* وسط هذه المعمعة من اللعب بالثروات العربية، يقف سماسرة النفط أو (فئران الأنابيب)، سواءً ذلك اللبناني الذي اختطف واغتيل من قبل أمراء النفط، أو ذلك الأمير الذي يقضي حياته مسافراً في الجو داخل (البوينج) الملَكَيَّة ، وسط خليط من المومسات من شتى الجنسيات ، متنقلاً بين المدن والعواصم الأوروبية والأمريكية والآسيوية وحتى الأفريقية، لعقد الصفقات وتوقيع الاتفاقيات ، ودفع العمولات ، وحفظ حصص كبار الموظفين والوزراء المعنيين بكل صفقة.
* وفي مجال توظيف الأموال ، فلقد أصبحت هناك مكاتب رسمية، في طول أوروبا وعرضها ، وفي أمريكا ، تتولى توظيف أموال النفط، وتتنافس تلك المكاتب فيما بينها، ويتآمر بعضها على بعض في عملية سباق ضخمة يمولها هذا المصرف أو ذاك ، وهذه الشركة أو تلك، فنقرأ عن شراء جزيرة، أو قصر قديم، أو شاطئ بأكمله ، وشارع، وحي، وناطحة سحاب، وباخرة ، وذلك بأموال أباطرة النفط وملوكه.
* يتساءل (سامي ذبيان) في المقدمة: لماذا يقبل الغرب الأوروبي والأمريكي باستثمار الثروة البترولية في بلادنا العربية؟ ويرد قائلاً: إن الشركات الأمريكية تستخرج الذهب الأسود من رمالنا وصحارينا، وتبلغ قيمته البلايين من الدولارات، فإذا لم تضمن عودة 85% من هذه الثروة إلى خزائنها وخزائن دولها ، ومصارف تلك الدول وأسواقها فلا تستمر في عملها، بل وتهدِّد بتدمير منابع النفط وغزوها بالقوة ، إذا ما حُرِمَتْ من معظم إنتاجها؟.
* إن كتاب (بخشيش) أو (فئران الأنابيب) يتناول بإلمام وبشكل أدبي، هذا العالم ، عالم البترول ، وما أفرزه ويفرزه من صفقات ومؤامرات ودسائس وعوالم من المال والجنس، لأمراء وملوك ما زالوا حتى وقتنا الحالي في القرن الـ 21 يعتبرون هذا الثروة ملكاً خاصاً، يتصرفون بها بالشكل الذي عرضه هذا الكتاب، بدلاً من أن يحولوا هذه الثروة البترولية إلى ملك وطني وقومي، ويوظفوها في خطط إنماء تطال الأرض الحبيبة في شبه الجزيرة العربية وما حولها، وفي خطط دفاع وتعبئة تطال الدول العربية التي تحتاج إلى دعم ومساندة.
* إذا كان الغرب لا يفهمنا إلا بترولاً ، ولا يخافنا إلاّ بترولاً، فإنه يحاول استلابنا هذه الثروة حسب خطة مدروسة ، عبر بعثرة العائدات وإعادتها إليه، في صفقات السلاح وتوظيفات ومشتريات تصب في مصارفه وخزائنه ، وجعل سادتها غارقين في وحول البخشيش، وخليط قذر من الجنس والتآمر والجاه الكاذب.
وإذا كان من حل .. فيقترح مقدِّم الكتاب (سامي ذبيان) أن البداية هي في مواجهة خطة بعثرة الثروة البترولية، ثم التوجه لنزع الملكية الخاصة لهذه الثروة ، وجعلها ملكية وطنية قومية.
* أخيراً.. تتجسَّد قمة مأساة الرواية في شعور طياري البوينج بأنهما في سجن ولكنه سجن فخم، كما يعبِّر عنه الطيار لمساعده ، وهو يقول: إنك منذ خمس سنوات في هذا السجن الفخم ، مثلي أنا، وأنت ترى من كل الألوان عارضات أزياء نيويوركيات ، وفتيات من (هارلم) وفتيات ذوات رموش رطبة ، وأخريات من نوع الجيمس بوند ، ذوات الاختصاص بالتدليك الشرقي، وبغايا يحتذين جزماً تصل إلى السرة، وكل الطيور الداجنة التي يجمعها عبدو، من هونغ كونغ إلى الكاريبي، وأتت لا تميِّز الفرق.
* إن سيطرة ملوك وأمراء النفط على هذه الثروة واعتبارها ملكاً شخصياً هو ما أوصل البلدان العربية إلى ما وصلت إليه الآن ، وهو ما جلب عليها كل هذا العدوان ، وهو ما جعل الغرب وخاصة أمريكا وربيبتها إسرائيل تتنمر على العرب.. ولا بد من عودة هذه الثروة إلى مسارها الصحيح لخدمة الدول العربية وشعوبها إن عاجلاً أو آجلاً.. وسيتم ذلك في القريب العاجل حين تزول سلطة ملوك وأمراء النفط عليها، ويتحوَّلوا من (فئران الأنابيب) إلى مجرَّد (فئران).. فئران فقط.