المقالح عبد الكريم
-1-
عَلّ الارتحال والتنقل الصفة الأبرز والأهم لأهل اليمن منذ غابر العهود وحتى عصرنا الحاضر، بغض النظر عن الأسباب التي لا بد أنها كانت تختلف من زمن إلى آخر.
وقد عرف التاريخ الإنساني، الكثير من الرحالة اليمنيين المشهورين، إما بسبب ما دونوه في أدب الرحلات، أو لانتقالهم من موطنهم الأصل -اليمن- إلى بلدان أخرى أقاموا فيها بصفة دائمة.. بحيث أصبحوا جزءاً من نسيجها الوطني على مستويات عدة تميزوا من خلالها وبرعوا فيها مثل: العلوم الشرعية- الفكر- الأدب… إلخ
وتخبرنا مصادر ومراجع مختلفة في التاريخ.. أن ثمة الكثير والكثير من الرحالة اليمنيين مازالوا طي النسيان، بسبب عدم ذيوع وانتشار أخبارهم ورحلاتهم، إلا ما ورد على شكل مختصر أو مجزوء في سياق دراسة أو بحث، أو إشارة في ترجمة/ سيرة ذاتية للرحالة نفسه..!
وإذا ما شئنا تعداد الكتب المنطوية تحت عنوان “أدب الرحلات”، فإننا لن نبلغ الشيء الكثير، خاصة على مستوى الرحلات التي دونها أصحابها، إذ أنها لا تمثل إلا النزر القليل مما يمكن احصاؤه في مجال مساهمة أهل اليمن في الرحلات وأدبها..!
-2-
لكن ثمة استثناءات نادرة.. َعلّ من أهمها وأولها حالة الرحالة “القاسم بن الحسين أبو طالب”.. والذي انفرد عن كثير من الرحالة اليمنيين بميزتين رئيسيتين:
الأولى: شغفه اللامحدود بالرحلات. الثانية: تدوينه تلك الرحلات سواء كانت داخلية -في أنحاء وجهات داخل اليمن- أو خارجية تعدى بها وفيها حدود الوطن.. ولعل هذا راجع لكونه بالدرجة الأولى أديب وعلامة، وإن كانت رحلاته الداخلية أكثر بكثير من رحلاته الخارجية، الا إن هذه الأخيرة كانت علامة فارقة في أدب الرحلات يمنياً وعربياً، كونها سجلت لنا وحفظت الكثير من الوقائع والمشاهدات، خلال فترة زمنية سابقة هي بداية القرن العشرين..!
الطريف هنا.. أنها ورغم كونها واحدة من ثلاث رحلات لـ “أبو طالب” الوحيدة خارج اليمن، إلا إنها حملت كثيراً من المفارقات، وعلى رأسها: تبدل الخارطة وتمدد الوجهة واتساع مدى الرحلة المقررة، وهو ما زاد من روعة الرحلة، وتالياً متعة متابعتها ومصاحبة أبو طالب في شتى مراحلها، بعد كل هذه الفترة الزمنية الطويلة التي قد تصل إلى أكثر من مائة عام.
-3-
أما السبع النواحي المحيطة بصنعاء وهي: بنو الحارث وبنو حشيش وسنحان وبلاد البستان وبلاد الروس وبني بهلول وهمدان، فقد تكرر التردد فيها، البعض من ذلك لأمر دولي والبعض الآخر وقفي والبعض لأمر خصوصي، ثم ما كان من جهة الجنوب من صنعاء فإلى مدينة ذمار مراراً عديدة وإلى رداع وإلى يريم مراراً عديدة وإلى إب مراراً عديدة، وما إليها من جبلة ثم عزلة دلال وما يليها..
ويستطرد أبو طالب في ذكر رحلاته الداخلية فيذكر منها:
– تعز.
– الجند ( وعرفنا جامعه المشهور الذي عمره معاذ بن جبل ).
– قضاء القماعرة.
– الشرمان : وهناك عرف وادي بنا.
– لحج : رحل إليها أيام حصار عدن من قبل الجيش العثماني بقيادة سعيد باشا، وخلال فترة إقامته في لحج، يسجل لنا أبو طالب المشاهدة التالية (كانت تخرج الطائرات من عدن إلى لحج، وعند خروجها ودورانها على لحج وإسقاطها للقنابل كان يحصل معها الرعب العظيم مع إتلاف وقتل).
– صنعاء:
• شمالاً : أرحب- ذيبين- ظفار- عرام- جبلة- خيار- حوث- قفلة عذر- ريدة- خِمْر.
• شرقاً : الكبس- المديد – نهم.
• وغرباً: متنة- الخميس- مفحق- حراز- شبام كوكبان- ثلا- الطويلة- حجة- كحلان- عفار… إلخ، إضافة إلى أقضية ومديريات تهامة مثل: باجل- المراوعة- بيت الفقية- زبيد – حيس الحديدة: والتي (وقع الوصول إليها سبع مرات أيام العزم إلى الحج)
وإذا كانت هذه الرحلات الداخلية لم يسجلها أبو طالب في معظمها لأسباب لا نعلمها، الإ إن ثمة رحلات أخرى اعتنى بها أبو طالب وقام بتدوينها على نحو موجز، أو في “رسائل قصيرة” حسب المؤرخ محمد بن محمد زبارة.. والذي ذكر لنا بعضاً منها في ترجمته لأبي طالب مثل:
– ” محادثة الجليس بصفة العزم إلى ابن إدريس” عام 1441هـ.
– “حديقة النظر في ذكر أحوال السفر” عام 1313هـ، وهي عن رحلته إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
أما رحلته إلى العراق، فهي وحسب المؤرخ الحبشي تعد ( السمة البارزة في رحلاته العديدة كأطول رحلة قام بها خارج الوطن) وقد دونها أبو طالب في كتاب بعنوان “غاية الأشواق في ذكر السفر إلى أرض العراق” وما يزال الكتاب في شكل مخطوطة محفوظة في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وحسب المؤرخ الحبشي فهي ( أول رحلة دونها رحالة يمني إلى العراق القديم والحديث وفيها الكثير من انطباعات المؤلف عن العراق وأهله ومظاهر الحضارة الحديثة التي بدأت تدب فيه).
-4-
في مقدمة كتابه يسوق لنا الرحالة أبو طالب هدف الرحلة بقوله ( المقصود ذكر كيفية السفر في البحر والبر وكم أيام البقاء في النجف وكربلاء وكيفية المشاهد المباركة ونحو ذلك ليكون تبصرة لمن عزم على مثل هذا السفر وتوضيحاً لمن رام حيازة الأجر وإبلاغ الوطر) وهكذا وفي يوم الخميس 10شوال سنة 1323هـ الموافق 1906م، غادر رحالتنا أبو طالب صنعاء متجهاً إلى الحديدة وذلك بمرافقة مجموعة من الحجاج اليمنيين، وقد وصل مناخة يوم السبت 12 شوال، أما باجل فوصلها يوم الاثنين 14 شوال، وهناك استراح في “مقهاية جابر”، بعدها بيومين كان في الحديدة، وتحديداً في مجمع التجار والبضائع، وشرع في البحث عن مركب يقله إلى عدن، بعد انتظار دام فترة من الزمن ليست بالوجيزة ولم تكن طويلة، قَدِمَ أحد المراكب الأجنبية الكبيرة واسمه “فتقوه” حسب لفظ رحالتنا أبو طالب، والذي ساعده في تخفيف قيمة السفر فيه قنصل العجم الشيخ أبو الحسن محمد بن علي رضا العجمي.
وهكذا وما بين الجمعة والأحد كان رحالتنا أبو طالب قد أصبح في عدن، وقد مر بالمخا وباب المندب (وهو مضيق بين جبلين اسم أحدهما الشيخ سعيد وهو مما يلي اليمن تحت ولاية الدولة العثمانية، والآخر ميون في جهة الغرب مما يلي الحبشة تحت ولاية الانكليز) أما وصوله إلى عدن فقد كان قبيل دخول وقت العصر، وذلك (في نهار يوم الأحد 19 شوال).
“التواهي” كانت محطة رحالتنا أبو طالب الأولى، حيث أقام عند (جماعة من أهل صنعاء المعروفين لدينا).
“المعلا” كانت محطته الثانية بحثاً عن مركب يحمله إلى العراق.. ميناء البصرة. وخلال انتطاره وصول المركب قام رحالتنا أبو طالب بمهمتين، الأولى: التطواف داخل مدينة عدن يقول: (تعرفنا على البندر وأحواله، وهو محل عليه الجبال المنيعة محيطة به من كل جانب، لم يكن له طريق إلا من ثلاثة أبواب: “باب البحر” و”باب البر”وباب مشترك بين البر والبحر).
المهمة الثانية كانت متعلقة بشراء الاحتياجات الشخصية مثل : الأرز- الدقيق- الفحم- البصل.. إضافة لعدد من أواني الطبخ.
وجاء المركب المطلوب.. وهو عبارة عن سفينة تجارية صغيرة.. وقد ساعد رحالتنا أبا طالب في حمل أمتعته إلى ظهر السفينة عدد من أصدقائه.. ويخبرنا الرحالة عن الركاب فيقول:( لم يكن في هذا “البابور” ركاب إلا أنا ورفيقي في السفر العزي محمد بن محمد العطاب من أهل “الروضة” وقبطان البابور ومن تحته من الصرنج والعمال حوالي ثمانية وعشرين نفراً.. ونصراني أرنوطي فقط).
-5-
وانطلقت السفينة نحو العراق تمخر عباب البحر وتسابق الرياح، في الطريق شاهد رحالتنا أبو طالب الكثير من المدن.. كما حط رحاله في البعض منها.. مثل مسقط التي يسميها.. “مسكت” إضافة إلى بندر عباس وميناء بشير والمحمرة (نزلنا إلى محمرة في السنبوك وشرينا من سوقها قليلاً من الخبز والتمر… وهي متَّسعة حيث توجد فيها أسواق كثيرة ونخيل كثيفة).
ولاحت أطراف البصرة.. وما هي إلا حوالي ساعتين بعد شروق الشمس وكان رحالتنا أبو طالب فعلياً في ميناء البصرة (وصلنا مرسى البصرة وفيه خمسة بوابير “سفن تجارية” أما السفن والسنابيك فكثيرة يتعسر حصرها).
قبل الدخول إلى البصرة كان لا بد من التفتيش الصحي.. وهكذا، فقد ظل ركاب السفينة عليها حتى أتاهم الإذن بالنزول منها.. وعندها توجهوا (إلى محل الكرنتينة- الحجر الصحي- فأخذ من الزوار الجبايات: قرشين فرانصي على كل نفس) وبعد ليلة كاملة في الحجر الصحي كان التوجه إلى مكان يسمى “العشار” وهناك قابلوا المأمور المختص والذي سجل بياناتهم وأخلى سبيلهم.. وهو ما يعني إنهاء جميع المعاملات الروتينية.. بحيث أصبح رحالتنا أبو طالب جاهزاً لأولى خطواته في مشوار رحلته إلى العراق.. فالبصرة في انتظاره.. وهو ما قام به على أكمل وجه.
-6-
على الرغم من أن رحالتنا أبو طالب لم يفصح في مقدمة رحلته عن سبب اختيار العراق بالذات.. وعلى الرغم من أنه لم يحدد الهدف الرئيسى لهذه الرحلة.. لكن ومن خلال استقراء انطباعاته التي سجلها عن المدن والأماكن التي زارها في العراق.. يتضح لنا- ولو على نحو ضمني- غرض هذه الزيارة.. والذي لا يعدو أن يكون متمحوراً حول موضوع واحد وأساسي هو: “السياحة الدينية”.. وهو استنتاج بوسع كائن من كان استخلاصه بل وتأكيده بمجرد الإطلاع على كتاب رحالتنا أبي طالب المسمى: “غاية الأشواق في ذكر السفر إلى أرض العراق”.
ولعلنا سنتعرف بجلاء على حقيقة ذلك الاستنتاج من خلال ملاحظات رحالتنا أبي طالب نفسه حول ما شاهده في زيارته هذه للعراق.. وذلك على النحو التالي:
1 – تطواف: زار رحالتنا أبو طالب عدداً من المدن العراقية مثل البصرة – بغداد- الكوفة – النجف – كربلاء.
2 – مشاهد خاصة: إذا ما رصدنا انطباعات رحالتنا أبي طالب عن المدن التي زارها فإننا سنحصل على خط بياني متذبذب بين مؤشرين هما: إعجابه وعدم إعجابه بها وذلك من منطلق معين يمكن اعتباره المعيار الأساس للرحلة.
كانت البداية مع البصرة.. الصلاة في مساجدها.. التنزه في حدائقها.. والتجوال بين أرجائها.. إلا أنها وحسب رحالتنا أبي طالب عبارة عن (بلدة قليلة العلماء خالية عن الدرس والتدريس.. الميل فيها إلى الدنيا وإلى المتاجرة.. ففيها أسواق كبيرة وفي أهلها نخوة)
محطة رحالتنا أبي طالب الثانية بغداد.. حيث نزل في موضع بها يسمى “الكاظمية”.. وهناك زار العديد من المشاهد والمآثر المعروفة.. وهو ما تكرَّر عند وصوله إلى “كربلاء” بل إنه – حسب المؤرخ الحبشي- قد أطال في وصف المشاهد التي زارها في “كربلاء”.. لدرجة أنه (استطرد إلى حوادث تاريخية مناسبة لتلك المشاهد) إضافة إلى تحدِّثه عن الحركة العلمية داخل المدينة (وفيها مدارس العلوم والعلماء الجم الغفير) ولعل أكثر ما لفت نظره هو مكانة العلماء في المجتمع.. فهو يؤكد لنا بلهجة يقينية: (نعم.. العلماء في العراق معظمون محترمون).
أما في “النجف” فقد وجد الحياة العلمية مختلفة عنها في “كربلاء”.. حيث أن العلماء والمتعلمين فيها -سواء من أبناء المدينة أو من المهاجرين إليها- يصل تعدادهم إلى أرقام كبيرة.. وقد أخبره بعضهم أن عدد الطلاب في “كربلاء” يفوق (خمسة آلاف طالب) الأمر الذي دعاه إلى تأكيد تلك المعلومات بقوله :(وعلى الجملة إن النجف يسمى في العراق بدار العلم) إضافة إلى سرده أسماء جلة علماء ”النجف” الكبار الذين التقى بهم هناك.. لكن لعل أهم اللقاءات هو لقاؤه بالعلامة علي بن محمد الرضي، والذي يمتلك مكتبة كبيرة ضمت كثيراً من المخطوطات اليمنية.
3 – وسائل ومواقيت : تنقله بين مختلف المدن العراقية.. أمد رحالتنا أبو طالب بالكثير من المعرفة وذلك على صعيد المسافات- زمنياً- بين المدن.. إضافة لنوعية وسائل المواصلات التي استخدمها هو شخصياً أو عرف بوجودها.. وهي معلومات يمكن عَدّها بحق أرشيف وثائقي متكامل ودقيق لما كان عليه الحال في “عراق 1906م”، فعلى مستوى المسافات بين المدن.. يخبرنا رحالتنا أبوطالب بالآتي :
– (بين الكاظمية وبغداد دون ساعة).
– (ثلاث ساعات تقديراً) هي المسافة بين “كربلاء” و “النجف”.
أما بالنسبة للمواصلات فقد توزعت على نوعين البري منها والبحري، وإذا ما كانت الأولى – البرية- فإنها محدَّدة الشكل عموماً.. كونها مقتصرة على العربات التي تجرها الخيول.. فإن الثانية متنوعة ومتفاوتة من حيث الشكل والحجم والمسمى.. وهو ما استدعى عند رحالتنا أبو طالب حاسة الاهتمام بتفاصيل هذا النوع من المواصلات والتي اعتنى بوصفها لنا على نحو يكاد يكون تفصيلياً.
فهو يخبرنا عن السفن المتنقلة بين البصرة وبغداد.. والتي تبلغ (ثماني، منها اثنتان للإنكليز وست للدولة العثمانية) ومن هذه الأخيرة عدَّد لنا رحالتنا أبو طالب أربعاً هي: “حميدية”- “رصافة”- “موصل”- و”فرات”.
4 – مواقع وأماكن: عرف رحالتنا أبو طالب عدداً من الأماكن الثانوية كالقرى والبلدات والضواحي.. إما داخل المدن أو في ما بينها.. كمحطات على الطريق.. لكنه حرم من التجول في بعض الأماكن الأخرى لأسباب سيأتي ذكرها لاحقاً.
لذا وما بين البصرة – بداية الرحلة – والنجف.. تحدَّث رحالتنا أبو طالب عن التالي:
– “العمارة”: وهي مدينة بين البصرة وبغداد.. وقد نزل إليها رحالتنا أبو طالب.. واشترى من سوقها (زاداً وتمراً ولحماً وفحماً) وبرغم أنه لم يتمكن من المكوث فيها طويلاً.. كونها محطة ترانزيت.. لكنه وصفها باختصار قائلاً: (والعمارة عبارة عن محل مبني من الآجر.. بيوته وأسواقه في غاية الانتظام).
– “المحمودية” و”المسيب” : تقعان على الطريق ما بين بغداد وكربلاء.. وقد نزل في الأولى.. حيث أكل هناك واستراح حتى تم إبدال دواب العربة.. أما “المسيب” فيراه رحالتنا (محلاً لا بأس به.. فيه نخيل كثيرة.. وفي وسطه خليج في شط الفرات).
– البساتين والحدائق: عرفها رحالتنا أبو طالب في البصرة وكربلاء.
– الحمامات البخارية: وتوجد في الكاظمية ببغداد (ثمانية حمامات، أربعة للرجال وأربعة للنساء) إضافة إلى كربلاء وفيها قرابة 20 حماماً.. أما في النجف فأقل من كربلاء بخمسة حمامات.
– الفنادق : كان رحالتنا أبو طالب يسميها “خانات”.. وقد كانت خدمة متاحة للجميع ،للمبيت والطعام والراحة بمقابل نقدي.