د.عرفات الرميمة
كثيرة هي الكتب التي ينتقد فيها مفكرون وفلاسفة غربيون الحضارة الغربية على اعتبار أن أهل تلك الحضارة أدرى بشعابها، وعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ ينتقد الفيلسوف هربرت ماركيوز في كتابه ( الإنسان ذو البعد الواحد ) إنسان الحضارة الغربية بالقول إنه إنسان استغنى عن الحرية بوهم الحرية وأن الحرية الوحيدة التي منحته إياها الحضارة الغربية تشبه حرية العبد في اختيار أسياده فقط ولذلك وسم الإنسان الغربي بأنه ذو بعد واحد فقط.
وقد صف روجيه جارودي كذلك في كتابه ( حفاروا القبور.. الحضارة الغربية تحفر قبرها ) الحضارة الغربية بأنها تحفر قبرها بيدها من خلال بعض المظاهر ومنها التعامل مع الإنسان باعتباره مجرد شيء مادي ، ترس في عجلة كبيرة ، سلعة لها ثمن ويمكن أن يكون له تاريخ صلاحية و تاريخ انتهاء، وما هو حاصل اليوم في الغرب ـ جراء انتشار فيروس كورونا ـ يثبت صحة ما قاله، فالأخبار الواردة من الغرب تقول إن أوروبا وأمريكا وعبر شركات التأمين ربما تحاول التخلص من كبار السن باعتبارهم عالة مكلفة بالنسبة لأسرهم وللدولة ولشركات التأمين أيضا وربما كان ظهور الفيروس سبباً للتخلص منهم خصوصا أن عدد الوفيات في إيطاليا وإسبانيا وأمريكا هم من كبار السن ، لأن الأطباء كانوا ينزعون أجهزة التنفس من فوق وجوه كبار السن ويعطوها للشباب وكذلك كانت تفعل المستشفيات حال استقبالها للمرضى ، تفضيل الشباب على كبار السن باعتبار أنهم قد اخذوا نصيبهم من الدنيا ويجب أن يرحلوا ويفسحوا المجال للشباب، وهذا التعامل هو بخلاف تعامل الشعوب الشرقية والإسلامية مع المسنين ،لقد جعل الإسلام احترام كبار السن ـ خصوصا الوالدين ـ من ضمن تعاليمه التي حرص على تلقينها للشباب وقرن بين عبادته والإحسان للوالدين وجعله سر السعادة في الدنيا والآخرة ، انظروا كيف تعاملت دولة إيران الإسلامية مع انتشار فيروس كورونا باهتمام مبالغ فيه مع كل الأعمار ـ وخصوصا كبار السن رغم الحصار وشحة الإمكانيات مقابل تعامل إيطاليا وإسبانيا وأمريكا لتعرفوا الفرق بين الحضارة المادية الغربية وتعاليم الإسلام الراقية .
لم يكن فيروس كورونا ديمقراطياً في تعامله مع الدول ولم يفرق بين أنظمة تدعي الديمقراطية وأخرى يتم وصمها بأنها ديكتاتورية ولا تحترم حقوق الإنسان، فضح كورونا كل تلك البروباجندا وأثبت أن دولة مثل الصين اكثر احتراماً لكرامة الإنسان وصحته ولا تفرق في نظامها الصحي بين مواطنيها على أساس السن كما فعلت الأنظمة التي تتشدق بحقوق الإنسان متى ما كان غربياً وابيض وشاباً أيضا .
لقد كشف فيروس كورونا عورة الحضارة الغربية المادية برمتها وفضح هشاشة نظامها الصحي والاجتماعي الذي يعتمد على عولمة الاقتصاد وخصخصته وعرى اقتصادات كبرى تتكئ على الخدمات اكثر من اتكائها على الإنتاج ـ وهي الدول التي قوّت الشركات وأضعفت الدول نفسها فجعلت من الدولة شركة صغيرة في مهامها ومن الشركات دولاً كبيرة تقوم بكل أدوار الدولة ـ وأثبت أن دولاً بحجم الصين وروسيا وإيران وكوبا لديها أنظمة صحية متفوقة على أنظمة دول تصنف على إنها عظمى بمراحل ، وكشف أقنعة لدول صنع الإعلام حولها هالة مزيفة .
تفوق نظام الدولة المركزية القوية المرتكز على أسس اشتراكية معدلة والمعتمد على قوة الأيدي العاملة المنتجة للسلع على نظام الشركات الرأسمالية المتوحشة العابرة للقارات المعتمدة على قوة رأس المال المنتج للخدمات والتي تسعى نحو الربح لأجل الربح فقط ولا قيمة للإنسان لديها ووفقاً لمعلومات، تستورد الولايات المتحدة “80 إلى 90%” من لقاحات المضادات الحيوية المختلفة من الصين و “70% من الأدوية المسكنة للآلام.” (شبكة فوكس نيوز 19 مارس، نقلاً عن مجلس العلاقات الخارجية)، وأجهزة التنفس الاصطناعي والكمامات .
كم كان الفيلسوف الأمريكي ـ من أصل ياباني ـ فوكوياما مخطئاً عندما تصور في كتابه ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير) في بداية تسعينيات القرن المنصرم أن التاريخ قد توقف عند النموذج الليبرالي الرأسمالي الأمريكي على وجه الخصوص وأن العقل البشري وصل إلى أقصى تطوره مع ذلك النظام، وأن الإنسان الأخير هو الكابوي الأمريكي الذي سوف يسيطر على العالم ويفرض قيمه عليه ولم يكن يتوقع أن فيروساً لا يُرى قد أنهى تاريخ النظام الرأسمالي المتوحش وجعل الكابوي الأمريكي هو الأخير فعلاً في حلبة السباق التي تصدرها الصيني والروسي والإيراني .
لقد سعت الحضارة الغربية نحو الربح المادي وخسرت الإنسان .