شهداؤنا.. بين الذكرى والقطيعة
عبدالجبار الحاج
ظل يوم الـ11 من فبراير معروفاً بيوم الشهداء بما هو ذكرى سنوية يحتفل شعبنا اليمني بهذه المناسبة منذ أعلنتها حكومة الثورة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يوما وطنيا للشهداء .
ليست مصادفة بل تيمنا بهذا اليوم اختارت الجبهة الوطنية الديمقراطية هذا التاريخ يوم إعلان تأسيسها في 11 فبراير 76 .
بقي يوم الشهداء من المناسبات الوطنية التي احتفى بها اليمنيون في كل عام منذ إعلانها وعقب إعلان الاستقلال .
بعيدا عن اختلاف النظامين السياسيين في شطري اليمن قبل الوحدة وبحكم تبعية نظام صنعاء للرياض ، فإنه كان يتم التعامل مع يوم الشهداء 11 فبراير كمناسبة سياسية محرمة لم يعترف بها ويُحتفى بها في عموم اليمن إلا في ظل السنوات الأولى للوحدة حيث فرضت نفسها كمناسبة وطنية وواحدة من المناسبات الوطنية المحتفى بها ، إلى أن كانت حرب 94 وما ترتب عليها من ضرب و تصفية طرف رئيسي في إعلان الوحدة وطرف وازن في التطور الاقتصادي الاجتماعي وطرف وازن في توجيه السياسة الحافظة لجوهر الوحدة والسيادة والعدالة حيث كان لهذا الطرف خيار وموقف مبدئي في تبنيها . وعقب الحرب لاقت هذه المناسبة ما أصاب غيرها مما كان يمثل كل ما هو وطني وجميل في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والفني وقد تعرض للإلغاء والتصفية.
الاحتفاء بالشهداء ليس فعلاً ترفياً بقدر ما تعكس دلالته في مكانة الشهداء في الوعي الجمعي وفي الذاكرة الوطنية الجامعة ومن سمو الهدف من أفعال استرخاص الأنفس في سبيل القضية الوطنية أو في سبيل الدفاع عن قضايا الشعب عامة كون الشهادة أعلى مراتب التضحية والفداء في الدفاع عن كرامة شعب واستعادة حق وتحرير أرض في وجه أي عدوان أجنبي أو احتلال بغيض وهو ما تعرضت وتتعرض له اليمن بحكم موقعها الاستراتيجي على ( المخنق ) مضيق باب المندب وكذا من موقعها للأسف جوار وجنوب ممالك ومشيخات الشر والنفط الطارئة .
تظل هذه المناسبة حاملة معاني ودلالات أفعال الاستشهاد في كل مرحلة على حدة وتبقى الذكرى حافظة الشهداء التي دوّنت وتدوّن التاريخ بالدم كقافلة واحدة على طريق الكرامة والتحرير .
مع ما للشهداء من حق علينا وما لأسرهم من واجب الرعاية فإننا مدعوون في ذات الوقت أن نأخذ فورا بإعداد قوائم المفقودين والمخفيين وإعلانها فما اشد عذابات أهالي هؤلاء من جراء استمرار مصيرهم المجهول …
مع كل المظاهر التي نشاهدها احتفاء بهذه الذكرى لا يسعنا إلا أن نشيد بالقائمين على المناسبة وأن لا نزر وازرة وزر أخرى ….
ومع ذلك كله ، حري بنا أن نبقى على هذه المناسبة ضمن تاريخها وسياقها الوطني خاصة إذا علمنا أن الاحتفال بهذه الذكري هو احتفال لكل اليمنيين وحامل في معناه تاريخاً واحداً وشعباً واحداً ووطناً واحداً و محطات واحدة من تاريخ الكفاح من اجل السيادة والتحرير والعدالة والوحدة والاستقلال .
أما أن يكون التقويم الهجري ذريعة للانقطاع عن ذات المناسبة الوطنية وإقامة مناسبة ذات لون خاص وتقويم خاص، فأمر يضع شهداء القضايا الوطنية الواحدة وشهداء العدو الواحد أمام خيارات التجزيء بقطع المحطات عن بعضها قطعاً تعسفياً وخطيراً بآثاره على الذاكرة الجمعية لليمنيين .
فمن دلالات الالتزام بالوطنية اليمنية ومحطاتنا الوطنية والثورية أن نقف على مناسباتنا الوطنية واحدة لا أن يكون لكل فصيل سياسي مناسبته أو مزاجه الخاص في تفصيل المناسبات كل على رغبته ووجهته الخاصة .
((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)).. هذه الآية تصدرت بيانات وصور شهداء حرب التحرير الوطنية ضد الاستعمار البريطاني ابان مرحلة الكفاح المسلح حتى نيل الاستقلال.
وبهذه الآية تتصدر أسماء وصور شهدائنا اليوم في حرب التحالف العداوني الإحتلالي ضد اليمن في عامها العام السادس .
في تلكم صورة تعكس منبعنا الثقافي الإسلامي الواحد وهذه واحدة من العلامات الايجابية في أحد أهم منابعنا الثقافية …
كان الزامل هو اللون الشعري أو الغنائي المواكب للإحداث الكبرى أو الحروب ويرتبط تاريخه بتاريخ اليمن قبل الإسلام بحسب ما توصل إليه الفنان محمد مرشد ناجي في كتابه عن الأغنية اليمنية .
وفي تاريخ اليمن الحديث والمعاصر فإن الأغاني والأناشيد الوطنية وقد واكبت تطور الآلة الموسيقية وعصرنة الأناشيد بقصائدها الملحمية في تبني القضايا الكبرى بأصدق الكلمات المعبرة وفي بالغ تأثيرها التعبوي أو التحريضي في مختلف مراحل الحرب أو البناء التي مرت بها اليمن على الأقل في غضون العقود الستة الأخيرة وما جرت فيها من مراحل حرب ومحطات بناء على قصر عمرها قياسا بطول عمر مراحل التبعية والحروب بنوعيها الداخلية أو مع العدو الخارجي .
فلم محاولة إيجاد القطيعة بين الزامل والنشيد بعزل مفتعل ثم توجيه احدهما لغير وجهته الوطنية؟ .
لا نرى في القطيعة الثقافية الفنية مع الأغنية ( الأناشيد الوطنية اليمنية ) إلا موقفاً عدمياً يتنافى وحقيقة ترابط الأحداث ووجهتها وأهداف العدو الواحد تجاه وطننا الواحد في محطات تاريخية مختلفة.
فمنذ الستينيات عاشت تعيش اليمن أحداثا وطنية يتماثل فيها العدو تماثلا من التشابه ما فيه من أطماع العدوان ومصادره يصل حد التطابق .
حيث كانت السعودية تتصدر مشهد الحرب ضد الثورة اليمنية المشتعلة وكانت بريطانيا تخوض حربها العدوانية الاشرس ضد شعبنا اليمني وهو يقود كفاحه المسلح ضد المحتلين .
وكانت السعودية رأس حربة وقلعة الرجعيات العربية والثورات المضادة ومهمتها وأد الثورة في الشمال ولم تكن بعيدة ..
مثال :
رددي ايتها الدنيا نشيدي
ردديه وأعيدي وأعيدي
واذكري في فرحتي كل شهيدِ
وامنحيه حللاً من ضوء عيدي
كم شهيد من ثرى قبر يُطلُ
ليرى ما قد سقى بالدم غرسه
ويرى جيلاً رشيداً لا يضل
للفداء الضخم قد هيّأ نفسه
ويرى الهامات منّا كيف تعلو
في ضحى اليوم الذي أطلع شمسه
يا بلادي.. …..
يابلادي نحن أبناءُ وأحفاد رجالك
ألسنا نحن الأبناء والأحفاد …..
في هذا النشيد وغيره من الأناشيد الوطنية تجسيد حي للذاكرة الوطنية الجامعة والوعي الوطني الجمعي كما هو تجسيد لتطلعات وطموحات وطنية وشعبية .
ففي جُل الأناشيد الوطنية لـ”الآنسي ، ايوب ، السمة ، المرشدي، احمدقاسم، عبدالباسط ،عطروش” وفي ألحان ابن غوذل وفي الملاحم الشعرية الفنية الوطنية لـ” : عبدالله عبدالوهاب ، ومطهر الارياني، وذي يزن ، وصبرة، ولطفي أمان، والمحضار ، وعباس الديلمي” وكثيرون هم على قدر من المكانة الرفيعة مما لا يتسع لذكرهم المقال ..
كما هو الأمر في كثير من أعمال الشهيد لطف القحوم وفي أعمال عيسى الليث في الزوامل بصرف النظر عن اختلافنا هنا وهناك وفي الموجه الثقافي الخاص منه والعام.
ففيم القطيعة مع منتج تلك القصيدة والأغنية الوطنية الأكثر وضوحا والمجسدة لحال الوطن والشعب وما يتعرض له من حرب واحتلال ولم مع هذا الإرث الوطني الحامل لروح الفداء والتضحية .؟!!
الأهم في سيرة هؤلاء الشعراء والفنانين أنهم لم يكونوا مجرد شعراء يتغنون بل كانوا المحاربين في جبهات القتال ضد الانجليز وضد حروب الرجعية السعودية وحلفائها في حرب الستينات وحرب اليوم .
فكانوا الواقفين على خطوط النار وكانوا المعتقلين السياسيين ومنهم من هدد ومنهم من سجن وعذب ، ومنهم من أُخفيَ قسراً في عهد نظام العمالة والتبعية في صنعاء .. ومنهم من اغتيل في وضح النهار وآخر من أستشهد بسبب قصيدة أو أغنية وطنية شاعراً كان أو فناناً.