قدمت الهيئة العامة للزكاة ما يقارب مليارين ونصف المليار ريال لنحو 563 معسراً وغارماً
“مشروع الغارمين”.. حين تعود الحياة لفاقدي الأمل
في غياهب السجن، ثمة من ضاق بهم الحال وتقطّعت بهم السبل ولم يجدوا ملجأ لدفع ما أُلزِموا بدفعه من أموال الغير التي عليهم، سوى الاستسلام للبقاء خلف قضبانٍ لا تعطي فقيرا ولا تغني من جوع.. موتٌ، ولكن بطريقة أكثر إيلاماً، أن تصد في وجوههم كل السبل المؤدية إلى الخلاص من ذلك الجحيم، وهم يمنّون أنفسهم بيوم يعودون فيه للحياة من جديد؛ من أجل هؤلاء وغيرهم حمل الإسلام قيم المودة والرحمة، من أجل هؤلاء أراد الله تطهير أموال ونفوس الأغنياء، من أجلهم فرض الله الزكاة.
الثورة / عبدالقادر عثمان
في فناء السجن المركزي بصنعاء تنتظر أسرة السجين سلطان الجمل (42 سنة)، رب أسرة من ستة أفراد، خروج والدهم ليعودوا سوياً إلى المنزل بعد أربع سنوات قضاها خلف شبابيك السجن بعد عجزه عن دفع ما عليه من دين، وقدره ستة ملايين ريال، لأحد أصدقائه كان قد أقرضه إياه إلى أجل مسمى.
يقول سلطان إنه اشترى “أرضية في منطقة المساجد في بني مطر غرب مدينة صنعاء، في العام 2016م، بمبلغ 49 مليون ريال لكن أهالي المنطقة بسطوا عليها وكل منهم ادعى أن جزءاً منها يتبعه”، ويضيف في حديث لـ”الثورة”: “لم أستطع فعل شيء؛ تكالب عليّ الكثير وتخلى عني آخرون وبقيت بمفردي أحاول دون فائدة ثم وجدتني خلف قضبان سجن لا سبيل للخلاص منه سوى دفع المبلغ المذكور”.
بعد الغياب
كان وقت الظهيرة موعداً للقاء الغارمين مع أسرهم، أطفال يحملون الورود وآخرون يحملون لهفة الاشتياق لمن أحرمتهم الظروف وحالهم البائس من لقائهم لسنوات. أمهات وزوجات وبنات تنسكب دموع الفرح من محاجرهن وطلقاء يسجدون لله الذي أخرجهم من السجن.
يردف الجمل قائلاً: “عندما وافقت هيئة الزكاة على سداد المبلغ الذي عليّ كدت لا أصدّق حتى حصل ذلك حقيقة. أرسلها الله في الوقت المناسب لتعيدني إلى أسرتي من جديد، ولتفرج عني كربة لا يمكن وصفها أو وصف لحظة الحرية”، لافتاً إلى أنه منذ عرف نفسه لم يسمع عن مشروع كهذا، وقال: “هذا عمل إنساني كبير يصرف أموال الزكاة في مكانها الصحيح”.
لم يكن سلطان وحده من أجبرته الظروف على المكوث في السجن، فقد بقي وليد الحيدري (30 سنة)، أربع سنوات في السجن لعجزه عن دفع 12 مليون ريال، تكاليف المستشفى والأرش الذي حكمت عليه المحكمة بدفعه بعد حادث مروري.
كان وليد في أحد أيام العام 2016م، يقود باصا خصوصيا في منطقة التحرير وسط أمانة العاصمة، لكن مشواره لم يكتمل حتى اصطدم بمواطن أراد عبور الشارع أثناء مروره، ليصاب هو بحالة نفسية نتيجة الصدمة بينما فقد المصدوم قدرته على الحركة وأصيب بالشلل. يقول الحيدري لـ “الثورة” بعد تحسن حالته النفسية: “طلب مني أهالي الرجل مبلغا خياليا، قدره 12 مليون ريال، وحكمت المحكمة عليّ بدفع ذلك، لكني لم أستطع دفعها وبقيت في السجن حتى دفعت هيئة الزكاة عني ذلك، ولها كل الشكر على جهودها وتعاونها معي”.
لحظة حياة
معين الطيري (35 سنة)، بدأ في العام 2016م العمل في تجارة الغاز المنزلي، واستمر لعدة أشهر، يقوم بنقل الغاز من مارب إلى المحافظات الحرة، وبعد مرور فترة على سير العمل بشكل طبيعي منعه المرتزقة الذين يسيطرون على مارب من الدخول عبر الطريق الرسمي الممتد من محافظة البيضاء، حد قوله، يضيف الطيري في حديث لـ”الثورة”: “منعونا من الدخول وحين عدنا قال لنا أحدهم أن لديه طريقاً آخر للوصل إلى المجمع. كانت صحراوية، لكنا عبرناها ووصلنا إلى منطقة اسمها العلم وهناك تقطع لنا مسلحون ونهبوا اسطوانات الغاز التي كانت معنا وعدنا مكتوفي اليدين”.
“بعد ذلك شاءت الأقدار أن أتسبب بإصابة ثلاثة مواطنين بكسور في أقدامهم في حادث مروري بمنطقة العشاش في أمانة العاصمة، حينما فقدت عربة النقل (الدينّة) السيطرة على مكابحها واصطدمت بجدار كان يقعد خلفه الثلاثة الضحايا وأدى الاصطدام إلى تحطيمه”، كما يردف، وبحسرة يقول: “بعت كل ما تبقى لديّ من ممتلكات في مصاريف علاجهم وبقيت عليّ ستة ملايين ريال من قيمة الدينة واسطوانات الغاز؛ لأنني اقترضت قيمتها وعلى ذلك سجنت حتى جاءت لجنة من الهيئة العامة للزكاة ودفعوا المبلغ بعد مراجعة ملفي”.
لا تختلف قصة عدي عبد الله (23 سنة) من أبناء شبوة، وهو صاحب مكتب نقل للبضائع من صنعاء إلى مختلف المحافظات، عن قصة معين؛ إذ قضى عدي أربع سنوات متنقلا بين السجن المركزي والاحتياطي والمحكمة بعد أن تحمّل المكتب مسؤولية سرقة أحد السائقين الذين يتعامل معهم بضاعة تاجر بقيمة 10 ملايين ريال، على حد قوله.
يقول عدي: “في البداية طلب التاجر توقيفي في القسم إلى حين إلقاء القبض على السائق في أي منفذ، لكن تعذر إلقاء القبض عليه وعجزي عن سداد المبلغ كان سببا في بقائي داخل السجن هذه الفترة الطويلة”، ويضيف في حديث لـ”الثورة”: “رفعت قضية إعسار وأعطيت الهيئة العامة للزكاة أوراق المحكمة، والحمد لله على نعمة الحرية التي كان لله الفضل الأول فيها ثم مشروع الغارمين الذي أعادنا إلى الحياة من جديد”.
أربعة برامج
يقول القاضي حفظ الله علي زايد، رئيس لجنة الغارمين في الهيئة العامة للزكاة: “إن اللجنة مستمرة بدراسة الملفات الواصلة إلينا وفق معايير شرعية محددة كأن يثبت الغارم المديونية وأن تكون في عمل مشروع وغير محرم وأن يكون هو معسراً، وهناك لائحة تنظم عمل مشروع الغارمين”.
ويضيف زايد في حديث لـ”الثورة”: “عملت اللجنة على أربعة برامج، أولها برنامج “إفراج” ويستهدف السجناء على ذمة قضايا جنائية في السجون المركزية والاحتياطية ولهذا البرنامج معايير محددة، منها أن تنتهي مدة العقوبة القانونية في الحق العام وأن تكون الجريمة غير مخلة بالشرف والآداب الإسلامية، بالإضافة إلى أن كبار السن والمرضى ومن عليهم مبالغ قليلة هم أصحاب أولوية بحيث نتمكن من الإفراج عن أكبر عدد من الغارمين.
بينما البرنامج الثاني بحسب القاضي زايد برنامج “إطلاق”، “ويستهدف السجناء على ذمة قضايا تنفيذية في المحاكم، سواء كان على نفقة أو إيجار أو دين، فيما الثالث هو برنامج “تفريج” ويستهدف من لزمه دين أو تحمّل ذلك في عمل مشروع وليس بسجين في النيابة أو المحكمة”.
أما البرنامج الرابع “فيستهدف الحالات الطارئة والعاجلة، ويستفيد منه المرضى الذين لم يستطيعوا سداد الديون التي عليهم للمستشفيات وغيرهم”.
كما أضاف: من بين المستفيدين، مسنّ فقير لا يملك في داره سوى قوت يومه، وهو محمد القيداني (52 سنة). أصيب محمد في العام 2019م بسكتة قلبية أسعف على إثرها إلى المستشفى الفرنسي، حيث أجريت له عملية لتركيب دعامات القلب بعد أن رهن صديقه سيارته في المستشفى، على حد قوله.
يقول القيداني في حديثه لـ “الثورة”: “استطعنا توفير مبلغ الرقود للمستشفى وبقيت تكاليف العملية والدعامات عجزت عن توفيرها لكنني لم أفقد الأمل بالله”، ويضيف: “بعد تحسن حالتي الصحية توجهت إلى الهيئة العامة للزكاة وبفضل الله تكفلت الهيئة بسداد ديني، وإلا لما كنت قادرا على فعل شيء”.
52 مليار ريال
وكانت الهيئة العامة للزكاة دشّنت الخميس الماضي، المرحلة الرابعة من مشروع الغارمين تحت شعار “عودة إلى الحياة”، بدفع 330 مليون ريال يمني عن 140 غارماً من بينهم امرأتان، وتمكنت من إخراج السجناء منهم من السجون المركزية والاحتياطية ومراكز التوقيف، وتتطلع إلى مواصلة المشروع في السنوات المقبلة.
وتأتي هذه المرحلة بعد ثلاث مراحل نفذتها الهيئة بين ديسمبر 2018 ونوفمبر 2019م، حيث شملت 563 معسراً وغارماً، بدفع مبلغ قدره ملياران و154 مليون ريال يمني، وهذا جزء بسيط من مشاريع الهيئة العامة للزكاة على مدى السنوات الثلاث الماضية والتي بلغت تكلفتها 52 مليار ريال يمني، بحسب ما جاء في كلمة رئيس الهيئة الشيخ شمسان أبو نشطان أمام المعسرين.
يقول فايز مقحط، مدير عام الشؤون القانونية في الهيئة العامة للزكاة: “وافتنا النيابات والمحاكم بمستندات ووثائق وأحكام الإعسار للمستحقين وتم دراستها من قبل لجنة الغارمين ومراجعتها وفحص أوراقهم وقبول عدد منهم”، ويضيف في حديث لـ”الثورة”: “اليوم نفرج عن 140 غارماً، منهم 37 من أصحاب القضايا الجنائية و44 ممن كانوا سجناء في المحاكم على ذمة قضايا مدنية كنفقات وإيجارات وغير ذلك، إضافة إلى 45 من المعسرين الذين لزمتهم ديون في قضايا مشروعة، و14 غارماً كانت عليهم ديون لمستشفيات نتيجة أمراض مستعصية وعجزوا عن سدادها”.
ينتظرون الحياة
رغم ذلك لا تزال الإصلاحيات المركزية تضم مئات النزلاء الذين عجزوا عن دفع مبالغ مالية كبيرة، يقول رئيس مصلحة التأهيل والإصلاح اللواء عبد الله الهادي إن: “عدد السجناء الباقين على ذمة أموال خاصة داخل السجون المركزية 400 نزيل وهؤلاء أصبحت قضاياهم جاهزة ويملكون أحكاماً نافذة، وهناك عدد من السجناء لا زالت قضاياهم رهن المحاكمة، وهناك مؤشرات كبيرة على أنه سيتم إصدار أحكام تلزمهم بدفع ديات أو أموال خاصة”.
يضيف الهادي في حديث لـ”الثورة”: “نأمل من القضاء التسريع بالإجراءات للنزلاء لأن هناك نزلاء مضى على دخولهم السجن سنوات طويلة”.
ولفت الهادي إلى ما تقدمه الهيئة العامة للزكاة من مشاريع للإصلاحيات المركزية ومنها العيدية (جعّالة العيد) وغيرها، وقال إن “هذه واحدة من ثمار ثورة الـ 21 من سبتمبر، والتي ما جاء هذا العمل إلا من بعدها، وتحديدا منذ أول مشروع في العام 2018م، قبل ذلك لم يكن هناك مصرف واضح للزكاة، بل كانت تسمى الواجبات وكان يأخذها المشائخ والمسؤولون”.
من جانبه يقول مقحط: “طالما والمكلفون يؤدون الزكاة، فمشروع الغارمين مستمر في تفريج كربة المعسرين من غياهب السجون وإعادتهم إلى الحياة”.
ويردف القاضي زايد: “الشكر الكبير للمكلفين من أصحاب الأموال الذين يبادرون إلى دفع ما عليهم من زكاة أموالهم، وبغيرهم لا تستطيع الهيئة أن تفعل شيئاً، ولذا أوجه رسالة إلى كل المكلفين من أبناء الشعب اليمني بأن يبادروا إلى تفريج كرب هؤلاء وغيرهم من الأصناف الثمانية بدفع ما وجب عليهم من زكاة أموالهم ليطهروا أموالهم وأنفسهم ولينقذوها من نار جهنم”.