أعظم مترجم في التاريخ العربي وكان يعطيه المأمون وزن ما يترجم ذهباً

ابن إسحاق .. الطبيب الذي أثرى أوروبا وألّف أقدم مرجع في العيون وأول كتاب في طب الأسنان

عبد الملك الشرعبي

أنارت الحضارة الإسلامية دروب العالم المظلم، بما قدمته له في مختلف جوانب الحياة، ومنها في المجال الطبي، فكان أطباؤها الأوائل في تخصصاتهم، مثل أبو القاسم الزهراوي الذي يُعد أول طبيب جراح في العالم، وابن سيناء والرازي وابن الجزار القيرواني وغيرهم.
في هذه السطور سنتعرف على أحد أطباء الحضارة الإسلامية الكبار، الذين أسهموا في إثراء الطب الحديث، وهو الطبيب والمترجم حنين بن إسحاق الذي اثرى الطب في أوروبا، وألف أقدم مرجع في طب العيون وأول كتاب في طب الإسنان.
سنعود بالزمن إلى الوراء قليلاً، وتحديداً بعد 150 عاماً على ظهور الإسلام، في بغداد، المدينة التي أصبحت مركزاً تعليمياً عالمياً خاصة في مجال الطب في ظل الدولة العباسية، حيث انقسم الأطباء إلى مجموعتين: مجموعة الممارسين الذين اهتموا في المقام الأول بتشخيص المرض وعلاجه معتمدين على المشاهدات والملاحظات، ويمثل هذه المجموعة الطبيب أبوبكر الرازي الذي كان رئيس البيمارستان في بغداد في عهد الخليفة العباسي المعتضد.
أما الفريق الثاني فهو فريق الأطباء الذين درسوا الطب على أنه جزء من المعرفة لا غنى عنه، وسعيهم إلى استكمال المعرفة هو ما دفعهم إلى تحصيل الطب بأسلوب علمي ومنطقي ولهذا أُطلق عليهم اسم “الفلاسفة الأطباء” وأشهر من يمثل هذا الفريق هو الطبيب حنين ابن إسحاق الذي عمل في بلاط الخليفة العباسي المأمون.
مولده وبداية حياته
وُلد أبوزيد ابن إسحاق العبادي المعروف بحُنَين بن إسحاق في مدينة الحيرة بالعراق عام 810 ميلادية لأبٍ مسيحيّ نسطوري كان صيدلانياً يعمل في مجال العقاقير الطبية، وكانت لغة ابن إسحاق الأم هي اللغة السريانية.
أحب ابن إسحاق العلم منذ صغره فسافر إلى مدينة البصرة لتعلم اللغة العربية، حيث التحق بأكبر معهد لعلوم اللغة العربية وتتلمذ هناك على يد الخليل ابن أحمد الفراهيدي أعظم علماء اللغة العربية وأكثرهم شهرة.
بعد ذلك سافر ابن إسحاق إلى بغداد من أجل تعلم الطب وهناك دخل مدرسة يوحنا ابن ماسويه، كبير الأطباء في زمانه وطبيب الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل، ولكن بعد مدة من الوقت ضاق ابن ماسويه ذرعاً بابن إسحاق بسبب كثرة أسئلته، إذ كان يستفهم عن كل شاردة وواردة فقال له مرة: «ما لأهل الحيرة والطب؟ عليك ببيع الفلوس في الطريق؟» وطرده من داره.
السفر إلى بلاد الروم
خرج ابن إسحاق حزيناً من عند ابن ماسويه ولكن هذا الطرد شجعه على المزيد من الدرس والاجتهاد، حيث سافر إلى بلاد الروم من أجل دراسة الطب؛ ففي بداية الأمر تعلم اللغة اليونانية حتى أتقنها وبعد ذلك اطلع على أمهات الكتب اليونانية في الطب والمنطق والهندسة والرياضيات، وبعد أن أنهى تعليمه عاد إلى بغداد، ولكنه لم يظهر نفسه ولم يذكر ما أحرزه وآثر أن يبقى مغموراً إلى حين، وفي ذلك الوقت تعرف على جبرائيل بن بختيشوع طبيب السلاطين الأول وابن مدرسة جنديسابور في الطب.
عمل ابن إسحاق لدى جبرائيل بن بختيشوع، إذ تعلم منه ممارسة الطب وفي الوقت ذاته ترجم له أشهر الكتب اليونانية في الطب مثل: كتب التشريح لجالينوس، وكتاب الفصول الأبُقراطية في الطب لمؤلفها أبقراط، أبو علم الطب الذي يعود إليه أصل قَسَم الأطباء حين تخرجهم، وكتاب تدبير الأصحاء، وكتاب حيلة البرء.
طبيب للخليفة المتوكل
بعد عمله لدى جبرائيل بن بختيشوع وترجمته الكثير من كتب الطب اليونانية ذاع صيت ابن إسحاق بين الأطباء حتى وصل للخليفة المتوكل الذي أمر بإحضاره وقطع له راتباً جيداً، ولكنه في أحد الأيام رآه يرتدي الصليب فتوجس منه خيفة وظن أنه مدسوس عليه من ملوك الروم البيزنطيين، فتملكه الشك وقرر اختبار ابن إسحاق ليتأكد من أنه ليس مندساً عليه، لذلك طلب منه مرة أن يصف له دواءً يقتل عدواً دون أن يتبين سبب موته، فرد عليه حينها حنين: «ما تعلمت غير الأدوية النافعة، ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها».
ولما ألح عليه الخليفة المتوكل في صناعة الدواء استمر رفض ابن إسحاق حتى أمر المتوكل بسجنه وبعد عام قضاها ابن إسحاق في السجن أتى به الخليفة وطلب منه نفس الطلب وهدده بالسيف هذه المرة، فرد عليه ابن إسحاق بأنه له رب سيأخذ له حقه في اليوم الأعظم، وهنا ابتسم المتوكل وقال له: «يا حنين طب نفساً وثِقْ بنا، فهذا الفعل منا كان لامتحانك، لأننا حذرنا من كيد الملوك فأردنا الطمأنينة إِليك والثقة بك لننفع بعلمك».
أقدم مرجع لطب العيون
برع ابن إسحاق بقوة في طب العيون، وكان أشهر مؤلفاته كتاب “عشر مقالات في العين” الذي اعتبره المستشرق ماكس ما يرهوف أقدم مرجع قُدم بشكل منهجي لتعليم طب العيون، إذ احتوى على أدق وأقدم صورة لتشريح العين، وقد اهتم مايرهوف بدراسة تأثير كتاب ابن إسحاق على كتب الطب في أوروبا، وفي مقدمة كتابه يذكر ابن إسحاق أن مؤلفه هذا جاء نتاج خبرة 30 عاماً بالعمل في طب العيون.
ومن أهم إبداعات ابن إسحاق في هذا المجال نقله للكثير من المصطلحات الطبية الخاصة بالعين من اليونانية إلى اللغة العربية بشكل دقيق والتي ما زالت تستخدم حتى يومنا هذا مثل: الشبكية، والمشيمية، والقرنية، والملتحمة، والصلبة، وإلى ابن إسحاق يرجع الفضل في توحيد تلك المصطلحات الطبية بعد أن كانت متباينة بين المؤلفين والمترجمين في زمانه.
كما أنتج ابن إسحاق مؤلفات طبية أخرى مثل كتاب «في اختيار أدوية العين» و«العين أو الحجة» و«كتاب في الرمد»، ولم تقتصر خبرة ابن إسحاق في مجال طب العيون ولكن امتدت إلى أقسام أخرى ولذلك كتب المؤلفات التالية: «أوجاع المعدة» و«امتحان الأطباء» و«تحفة الأولياء وذخيرة الأطباء»، وله موسوعة شهيرة في علم الطب بعنوان “تاريخ الأطباء”.
وكان لابن إسحاق أيضاً خبرة كبيرة في مجال الصيدلة مثل أبيه، حيث ألف كتباً «في أسرار الأدوية المركبة» و«خواص الأدوية المفردة» و«الأدوية المحرقة»، وكذلك «في أسماء الأدوية المفردة على حروف المعجم».
ويعتبر كتاب حنين ابن إسحاق «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها» أول كتاب مستقل يتناول طب الأسنان لدى العرب، وقد دون ابن إسحاق هذا الكتاب بعدما توفرت لديه حصيلة ثرية من الخبرة والتجارب الطبية المتنوعة، ويرتكز كتاب ابن إسحاق على محورين هما: سبل وقاية الأسنان وحمايتها، والمحور الثاني وصف أمراض الأسنان واللثة واستعراض العلاج الدوائي المناسب.
المأمون وابن إسحاق
يقول ابن النديم في كتابه «الفهرست» وابن أبي أصيبعة في «أخبار الحكماء» إن ابن إسحاق هو أعظم مترجم في التاريخ العربي، إذ كان يتقن اللغات السريانية واليونانية والعربية والفارسية الإغريقية وقد بلغ حبه للترجمة مبلغاً عظيماً، إذ كان يجوب الأقطار بحثاً عن الكتب الأصلية وخاصة اليونانية منها؛ ففي القرن الثالث الهجري جاب ابن إسحاق أرجاء مصر والعراق والشام وبحث فيهما بحثاً مظنياً عن كتاب «البرهان» لجالينوس حيث كان الكتاب نادر الوجود، وفي النهاية لم يظفر سوى بنصف الكتاب في دمشق وعكف طويلاً على ترجمته.
وبسبب ولعه الشديد بالترجمة عينه الخليفة العباسي المأمون مسؤولاً عن «بيت الحكمة» وديوان الترجمة، ويقول ابن أبي أصيبعة إن المأمون كان يعطيه وزن ما يترجمه إلى العربية من الكتب ذهباً، وقد ترجم ابن إسحاق حوالي 260 كتاباً من اليونانية إلى العربية وكانت ترجمته فصيحة سلسة لا يعتريها غموض أو ركاكة.
ولم تقتصر ترجمات ابن إسحاق على مجال الطب بل امتدت أيضاً إلى مجال الفلسفة، إذ نقل إلى العربية كتب أرسطو وأفلاطون وثيودوسيوس ومنلاوس وأوطوليقوس وأرخميدس وإقليدس، كما ترجم أيضاً كتباً في الكيمياء مثل كتاب «المعادن» لأرسطوطاليس الذي ظل لوقت طويل جداً من أهم المراجع في دراسة الكيمياء.

قد يعجبك ايضا