عندما توقفت الفتوحات لم تتوقف قوافل الشعب اليمني في جوب الأرض شرقا وغربا، ولكن لم يكن ذلك عن طريق الجيوش الجرارة التي كانت تفتح السهول والمدن، بل كان عبر قوافل التجارة التي لم تدع سلعة إلا ورحلت في بيعها أو شرائها أو استجلابها، بل إن من قوافل التجارة تلك من استوطن بلادًا قاصية بعيدة وبقي فيها حتى هذه الساعة.
لا يوجد تاريخ دقيق يؤرخ لرحلات التجارة اليمنية إلى العالم، ولكن الثابت أن معظم الهجرات اليمنية استقرت في جنوب شرقي آسيا، وكان بعض منها جاب الهند والسند والصين، ولكن لا يوجد دلائل تشير إلى وجود جاليات يمنية استقرت في تلك البلاد، ما يؤكد أن التجارة التي مارسها اليمنيون في تلك البلاد ( الصين والهند والسند ) كانت رحلات عابرة لا رحلات استيطان.
أما أندونيسيا وتايلند وبورما وماليزيا فقد حظيت بأكثر الرحلات اليمينة استيطانا، وما تزال حتى هذه الساعة جاليات يمنية كبيرة ذات ألقاب عربية يمنية واضحة تتخذ من تلك البلاد مستقرًا.
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الهجرات اليمنية إلى جنوب شرقي آسيا بدأت تتكثف إبان عصور الفتنة والضعف التي مرت بالخلافة الإسلامية، وتوقف الفتوحات الإسلامية التي كان يشكل اليمنيون جزءًا كبيرًا من الجيش العربي فيها، ولما ابتدأت الخلافة الإسلامية في الاستعانة بالأتراك والفرس بدأ نفوذ اليمنيين يتضاءل حتى بلغ حضيضه إبان الخلافة العثمانية التي لم تجعل للعرب أي دور في الفتوحات التي قاموا بها.
لم يجد اليمنيون بدًّا من ممارسة دورهم العالمي عن طريق مهنتهم الأصيلة التي تلقوها عن أجدادهم كابرًا عن كابر، ألا وهي التجارة.
بدأت أولى الطلائع التجارية التي رغبت في استيطان بلاد الشرق منذ القرن الثامن الهجري على التحديد، حينما اتسع نفوذ المسلمين في الهند والسند والصين.
كانت جزر إندونيسية كبرى لم تطأها قدم أحد من دول العالم القديم، حتى وصلتها قافلة تجاربة بحرية من اليمنيين، عرضوا بضائعهم الغريبة على قبائل إندونيسية كانت معظمها تعتنق الديانة البوذية والوثنية المختلفة، كما كانت كثير من تلك القبائل بدائية لم تعرف المدنية البتة.
مكث هؤلاء التجار في أندونيسيا يعرضون تجارتهم حتى استهوتهم الإقامة في تلك البلاد عندما رأوا سهولة دخول الناس في دين الله ( الإسلام ) أفواجا، فأنشؤوا يقيمون خططهم الطويلة الأمد في استيطان تلك البلاد وتوسيع دائرة الدعوة الإسلامية، حتى شملت كل الممالك في أرخبيل اندونيسيا، الذي كان يضم حينها أرخبيل الفلبين.
دخل الإسلام تلك المنطقة بسرعة هائلة، ولم يصل القرن العاشر الهجري إلا وقد كان أرخبيل أندونيسيا والفلبين بأسره يضم ممالك إسلامية ذات نفوذ واسع امتد حتى شمل الممالك الإسلامية في ماليزيا ( جزر الهند الصينية ) واستوطن الإسلام في جنوب شبه جزيرة الهند الصينية أيضا وغدا الوجود الإسلامي في تلك المنطقة قدرا محتوما.
لم تنس القبائل اليمنية المهاجرة أصلها، فحافظت على تراثها ونقلت كل التقاليد العربية إلى المسلمين في دول جنوب شرق آسيا، بدءا من الإزار اليمني الشهير وانتهاء بالمذهب الشافعي الذي كان سائدا في اليمن آنذاك ونقل بحذافيره إلى دول المنطقة باعتباره الممثل لدين الإسلام.
يتكثف الوجود اليمني في جزيرة جاوه في أندونيسيا، حيث تقيم جاليات يمنية تتمتع بالجنسية الأندونيسية، ولكن غالب أفرادها تبدو ملامحهم العربية واضحة جدا، بل إن بعضا منهم ما يزال يحافظ على اللغة العربية كلغة تحادث في بيته ومع عشيرته، ومنهم طائفة كبيرة ما تزال ترسل أبناءها إلى اليمن ليدرسوا الشريعة الإسلامية في جامعاتها وفاء بالأصل الأصيل الذي ينحدرون منه.
يشتهر اليمنيون بالتجارة في تلك الدول، وقد واكبوا التطور الذي حدث في المنطقة فأقاموا تجارة كبيرة في سنغافورة حيث يوجد حي عربي كامل معظم قاطنيه من اليمنيين ذوي الأسماء والعائلات اليمنية الشهيرة.
ويتخذ اليمنيون من الدول النشطة تجاريا مراكز تسويق لأعمالهم، مثل تايلند وسنغافورة وماليزيا والصين، ولا توجد دولة من دول الشرق الأقصى إلا وللتجار اليمنيين فيها وجود من نوع ما.
غالب اليمنيين يحافظ على التقاليد الإسلامية.. ويراعي كونه ذا نسب عربي، ويعرف هذه المكانة في المجتمع، بل إن المجتمعات الإسلامية في أندنيسيا وماليزيا يعرفون فضل هؤلاء التجار لما عرف تاريخيا من دورهم في دخول الإسلام إلى تلك البلاد.