دمَّر العدوان 300 مرفق صحي وعطَّل 50% من قدرات تشغيل منشآت القطاع الصحي
الخدمات الطبية..بين تداعيات العدوان وطموح الرؤية ومتطلبات النهوض
اهداف الرؤية الوطنية لبناء الدولة ومهمات برنامج التعافي تتطلب إدارة وكفاءات وتغييرات شاملة تخص النهضة المنشودة
أغلب الوفيات ناتجة عن أمراض وأوبئة يمكن الوقاية والتشافي منها لولا تداعيات العدوان الكارثية
الضغط المادي والخدمي على المرافق الطبية القائمة يستنزف الطاقات والإمكانات ومخزون الأدوية والمستلزمات
طغيان الطابع التجاري والأهداف الربحية زاد معاناة المرضى ويستدعي رقابة حكومية مستمرة لا موسمية
فاقم حصار العدوان ضُعف الخدمات الصحية وندرة الأدوية والمستلزمات الطبية وغلاء أسعارها
الثورة/ يحيى محمد الربيعي
على مدى 5 سنوات من العدوان على اليمن ظل الشعب اليمني خلالها يعاني من التدهور الشديد في الأوضاع الاقتصادية ووطأة الأعمال العدائية المستمرة.
بالإضافة إلى ذلك، كان للتغيرات في منشآت البنية التحتية وانهيار الخدمات العامة الضرورية آثارها السلبية الهائلة على المواطنين، ما فاقم جوانب الضعف المزمنة.. ومازال نظام الرعاية الصحية ضحية للعدوان المستمر على اليمن، حيث يتسبب الفقر والجوع والمياه الملوثة في آثار سلبية كبيرة، وتفاقم الوضع الإنساني المتردي من قبل في البلاد نتيجة توالي تفشي الأوبئة.
تفاقم التحديات
ما زال القطاع الصحي يواجه الكثير من التحديات وأهمها: تدني نصيب الصحة من الإنفاق العام ،ما جعل الكثير من المراكز الصحية تعاني من نقص في تجهيزاتها وفي مواردها المالية وكوادرها الفنية والطبية إضافةً إلى محدودية انتشار الخدمات الصحية وبالذات في الأرياف.
وعلاوة على ذلك الإصابات المباشرة التي لحقت بالشعب اليمني جراء العدوان الغاشم الذي دمر اكثر من 300 مرفق صحي وأصاب بالشلل ما نسبته 50 % من قدرات التشغيل العام, لتبقى 50 % فقط من المرافق الصحية عاملة في اليمن، في ظل نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية والموظفين في القطاع الصحي.
يموت الكثيرون في صمت ويصيرون إلى حد كبير في عداد المفقودين ولا يلاحظ موتهم أحد ،ومعظمهم يموتون بسبب سوء التغذية أو إصابتهم بأمراض يَسهَّلُ الوقاية منها وعلاجها، وببطء يموت المصابون بأمراض مزمنة، كارتفاع ضغط الدم وداء السكري وحالات فشل الكلى وما إلى ذلك، بالنظر إلى أن العلاجات التي تبقيهم على قيد الحياة غير مُتاحة أمامهم جراء تداعيات حصار تحالف العدوان المتواصل على اليمن.
وعن تفشي الأوبئة والأمراض، ذكرت منظمة الصحة العالمية أنه تم الإبلاغ عن 76 ألف و137 حالة اشتباه في الإصابة بمرض الكوليرا منذ مطلع 2019م وحتى أواخر أكتوبر 2018م، بما في ذلك 991 حالة وفاة مرتبطة بالمرض.. كما تم- بحسب التقرير نفسه -الابلاغ في الفترة نفسها عن ما مجموعه 25 ألف و242 حالة إصابة بـحمى الضنك، بما في ذلك 104 حالات وفاة مرتبطة بالمرض”.
استزاف الطاقات
بإلقاء نظرة على حال المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية في العاصمة صنعاء نجدها تشكو صعوبات كبيرة جداً، ولعل أهم عامل أدى إلى تدهور الوضع الصحي في هذه المرافق الصحية هو ما يبدو من شُح الإمكانات من الميزانية الحكومية غير الكافية وانخفاض الإيرادات، ما أدى إلى فقدان الثقة بين الشركات الموردة للأدوية والعلاجات والمستلزمات وإدارات تلك المرافق، فكان من نتائج ذلك التوقف عن التزويد بسبب عدم القدرة على تسديد الالتزامات.
ما سبق وغيره من الأسباب أدى إلى تدهور الوضع الصحي، بالإضافة إلى ضغط استقبال عدد كبير جداً من المرضى على المرافق واستنزاف كُل الطاقات وكُل المخزون الاستراتيجي للمستلزمات والعلاجات، علاوة على ذلك تأتي كارثة انقطاع الرواتب التي يتسبب فيها العدوان.
في المستشفيات والمراكز الصحية العامة التي لا تزال قائمة في اليمن ترى الأسرَّة ممتلئة ،إذ يأتي الأشخاص القادرون على الوصول إليها من جميع أنحاء البلاد للحصول على ما يتوفر من رعاية طبية.
أما الآخرون، فلا يتبقى لهم سوى العيادات الخاصة التي بالكاد يستطيعون تحمل نفقاتها نظراً للوضع الاقتصادي الحالي المتدهور.
وللمواطن صوت
ماذا عن المواطن وكيف يعبّر عن آلامه ومعاناته مع هذا الجانب المهم والحيوي في حياة الانسان؟.. ماذا عن الانسان البسيط؟.. الانسان الفقير؟.. ماذا يمكنه أن يقول في شكواه المريرة عن غياب شبه تام للخدمات الصحية؟! هل يكفيه أن يقول: لا يوجد كادر كاف” من الأطباء الأكفاء القادرين على تشخيص أمراضنا.
الفحوصات والتحاليل الطبية بعضها من بعض، فلا تكاد تجد نتيجة مختلفة عن أخرى على الرغم من تعدد المرضى واختلاف الأعراض من مريض إلى آخر.. روشتات العلاج هي هي.. اللهم أنها تختلف من طبيب إلى آخر في أسماء الشركات المنتجة للعلاج.
يروي أحد المواطنين معاناته مع أحد المرافق الصحية أسعفه إليه أحد اقربائه: «عندما وصلت المستشفى أعطوني أوراقاً تخلي مسؤوليتهم من أي نتائج أو مضاعفات، ووقعَّت عليها، ثم طلبوا مني رسوم العملية، وبين وقت وآخر كانوا يطلبون مني توفير علاجات وأدوات يجب شراؤها من الخارج لعدم توفرها في صيدلية المرفق ومخازن المرفق.. وفي الاخير.. البقية في حياتك الأعمار بيد الله”.
اتجار بالمعاناة
ويتقاسم معه الشكوى ذاتها مواطن آخر أسعف مريضه إلى مستشفى خاص، فقد فيه ولده أثناء عملية، واكتفى بإضافة: “إذا لم يكن لدى صاحب المرض “شوالة زلط” في المستشفى الخاص فسيتعرض مريضه للإهمال والاستخفاف بحياته”.
مواطن ثالث يشكو من أنه “في حالات كثيرة يتم طلب إجراء عمليات لمرضى بالإمكان معالجة حالاتهم بعلاجات وبطريقة طبيعية”.. والكارثة أن فريقا رابعا يشكو وبمرارة: من “طمع وجشع البعض في رسوم إجراء العمليات وتكاليف الرقود في المستشفى وعلى وجه الخصوص القطاع الخاص”.. ويقول: يطلب إجراء عمليات لأعضاء يتضح بعد العملية أنها لم تكن هي المعنية بآلام المريض ولا تعويض يتحصل عليه أكثر من الاعتذار”.
ويضيف فريق خامس: «يموت البعض بسبب خطأ في التخدير أو نتيجة الإهمال واللامبالاة».
أخطاء وغلاء
“يا ذاك.. تقدر تقول أن الطب هذه الأيام يشبه إلى حد كبير ورش الميكانيك, إن لم يكن الحال أعظم فداحة في اللامبالاة وانعدام الشعور بالمسؤولية.. المريض يدخل المرفق الصحي العام أو العيادة الخاصة وهو يعاني من آلام مرض ولا يخرج من فترة العلاج هنا أو هناك إلا وقد فيه من المرض ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يخطر على بال بشر يعالج المريض- مثلا- من التهابات المسالك البولية فلا يكاد يتوسط فترة العلاج فإذا به يشكو من آلام قاتلة في الكلى إن لم يكن الفشل.. وغيرها من مصائب غياب التشخيص الدقيق لحال المريض عن احتمالات الاعراض الجانبية قبل تعيين العلاج”.
قال أحد المواطنين -طالباً عدم نشر اسمه “أما عن التكاليف المالية فحدِّث ولا حرج عن الغلاء بل الجنون في أسعار بعض المرافق الصحية الخاصة.. حتى العامة صار المواطن غير قادر على تحمل رسوم التداوي فيها, فقد أصبحت في بعض خدماتها لا تقل في التسعيرة عنها عن الخاصة”.
أسباب وتبريرات
من جهة يمكن تبرير التشابه الحاصل في بعض التشخيص وروشتات العلاج بتشابه الحالة المعيشية للمواطن اليمني وتقارب الظروف والمسببات لبعض الأمراض لكن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال التطابق 100 % في معظم الحالات ،إذ لا بد من وجود فوارق من نواحٍ عدة كالقدرة على المقاومة التي تختلف باختلاف بنية المريض الجسمانية وغيرها من عناصر التفاوت النسبي الموجودة بين مريض وآخر ،الأمر الذي يتعين بموجبه تحديد مدى حدوث الاعراض الجانبية للأدوية من جسد لآخر.
من جهة أخرى- وهي الأكثر شيوعا في الأوساط اليمنية وفي كل تخصصات التفاعل الحياتي وليست معضلة محدودة الاختصاص بالعاملين في السلك الصحي- أن معظمنا كيمنيين يكتفي بالمقررات الدراسية في الفصول المدرسية حتى ينهي مشواره العلمي بالظفر بالشهادة الجامعية أو حتى الدكتوراه، ويبدأ حياته العملية على تلك الخلفية ولا يعير الاطلاع ومواصلة البحث ومتابعة الجديد أي اهتمام إلا ما جاء جاهزا على هيئة إعلان أو ندوة أو محاضرة عابرة أو متابعة أفلام علمية ونقاشات يومية مع الزملاء “إن وجد له فراغ” أو استدعته الضرورة.
ضعف الرقابة
ويتهم العاملون في القطاع الصحي والمستشفيات الخاصة خاصة بتحصيل أكبر قدر من الأموال على حساب شرف المهنة.
وهذا ما يعني ضعف الرقابة والتفتيش المهني من الجهات الحكومية والرقابية والنقابية أو التقصير غير المبرر من قبل هذه الجهات.
مؤخراً نفذت وزارة الصحة العامة والسكان مسحاً ميدانياً لالتزم المرافق الطبية والصيدلانية معايير وضوابط مزاولة المهنة ومواصفات الجودة التي أعدتها وأصدرتها في أدلة كشفت نتائج المسح عن مخالفات مئات المنشآت الحد الأدنى من الشروط الرئيسية لمزاولة المهنة وتم إغلاق وإحالة العشرات منها إلى النيابة.
هذا التوجه من وزارة الصحة العامة قوبل بترحيب شعبي ومهني أيضاً، لكن الترحيب اقترن بمطالبات استمرار الرقابة الحكومية وكذا المهنية النقابية سواء من نقابات الأطباء والمهن الطبية أو من المجلس الأعلى للاعتماد الطبي ليس فقط لصون حياة المرضى وضمان تلقيهم خدمات آمنة ذات جودة ، بل أيضاً لصون شرف المهنة نفسها من الادعياء والمستهترين والمستغلين وغيرهم من المسيئين .
متطلبات النهوض
إلى ذلك يؤكد المتخصصون والمراقبون حقيقة عامة يخلصونها في أن إنعاش التطور الاستراتيجي في كافة محالات التفاعل الحياتي مهمة وطنية وضرورة ملحة غايتها الوصول إلى نقطة التوازن التنموي الحقيقي ،ما يتطلب تغييرات داخلية حقيقية في النظام السياسي والاقتصادي، واستغلال الموارد ،وتطوير التعليم وبناء نسيج اجتماعي داخلي متناغم، ديمقراطي حر وملتزم بقيم وثقافة قومية متكاملة ،ووسائل إعلام محترفة وبنية تحتية متينة، وخدمات صحية مقبولة .
ولتحقيق هذا يتفق المختصصون على الحاجة لتوفر رؤية مستقبلية طموحة جذابة تحترم المصالح الاقتصادية المشروعة وتعمل على رعاية الكفاءات ذات الطموح العلمي والمشروع على قاعدة بيانات واضحة يتحدد بموجبها طرق التداخل وحدودها في التفاعلات وحماية وتعزيز روح التعاون عبر استغلال عوامل وحدة الدين، والحضارة، والتراث، واللغة، والتاريخ، من أجل خلق أجواء التعايش التي تحقق فرص الازدهار والاستقرار الاستراتيجي والحفاظ على هوية اليمن الموحد.
ولعل هذا هو ما ترمي إليه الرؤية الوطنية لبناء الدولة الحديثة وبرنامج التعافي الاقتصادي ،وتنفيذ كليهما يتطلب توافر النوايا الصادقة والكفاءات القادرة على تفعيل ما جاء فيهما على أرض الواقع.. وهذه مهمة لا ريب وطنية وفرض عين على كل يمني غيور كل فيما يخصه كمتطلب ملح لتحقيق النهوض الحضاري المنشود.