الذهباني .. رجل المواقف

أحمد يحيى الديلمي

 

أحمد يحيى الديلمي

قال شاعر العرب الكبير الأستاذ عبدالله البردوني:” الوطنية صفة كُلية لا تقبل التجزئة أو التنصيف”: مضيفا في معرض حديثه عن الشخصيات التي تهاوت إلى مزالق العمالة والارتزاق بعد ما سُمي بالمصالحة الوطنية وكانوا لا يزالون يتشدقون بالوطنية والثورية، مؤكدا أنه لا يوجد نصف وطني ونصف عميل، وإن وجد فإن النصف العميل يتغلب على النصف الإيجابي، لأن العمالة تقترن بالمغريات والمكاسب المادية فتصبح محور الارتكاز وتنهي فاعلية الشق الآخر.
تبادرت إلى ذهني الحقائق السابقة أثناء حديث خطيب الجمعة مفتي الجمهورية العلاَّمة الحُجَّة شمس الدين محمد شرف الدين عن الراحل الزميل أحمد محمد الذهباني – رحمه الله – فلقد أشاد بأدوار الفقيد وأثنى على موقفه الأخير عقب العدوان الهمجي السافر الذي شنته السعودية بدعم وتوجيه وتخطيط أمريكا على اليمن، والمفارقة أن الفقيد كان لا يزال في مقر عمله بجدة، وكان الطريق ممهداً أمامه للحصول على مغريات ومكاسب مادية كبيرة إلا أنه رفض كل العروض والمساومات وعاد إلى أرض الوطن يعيش مآسي ومعاناة اليمنيين، وهو يعلم أن الرواتب مقطوعة، كان الموقف مفصلياً بقدر ما أعلى من شأن الفقيد.. وفي المقابل، فضح عمالة وارتزاق عناصر أخرى إعلامية وغير إعلامية للأسف كلهم ينتمون إلى اليمن ويدّعون الوطنية والثورية بعد انحيازهم للشيطان وتعاطيهم بصفات حقيرة خالية من أبسط المشاعر الإنسانية مع أعداء الوطن، ناهيك عن شروط المواطنة، وكما قال شاعر اليمن الكبير المرحوم عبدالله البردوني:
هاذي الكباش الآدامية *** باسم عالفها تناطح
والعالف هو نفس العالف على مدى قرن كامل من الزمن، إلا أن الكثيرين لم يتعظوا ولم يعرفوا غايات هذا العدو التاريخي وأحلامه المريضة.
لا أدري عن أي وطنية يتحدثون وهم يصفقون للخيانة والغدر والقتل وسفك الدماء، بأساليب بشعة وروح انتقامية حقيرة مقابل فتات المال المدنَّس، يمجّضدون المجازر البشعة التي تطال أبناء شعبهم.. وهذه المواقف الهزيلة الموغلة في التآمر هي التي ميّزت موقف الفقيد الذهباني وجعلته نموذجاً للوطني الشريف، صادق الانتماء والولاء للوطن، إلى جانب أنه تميّز بالحيوية والنشاط وحب العمل، كأهم صفات تفرَّد بها عن الكثير من الزملاء في الإذاعة والتلفزيون بما في ذلك كاتب هذه السطور، فلقد كان أول شخص أعمل تحت إدارته في قسم برامج الرياضة والشباب عقب التحاقي بالإذاعة عام 1977م، مع ذلك اختلفت معه نتيجة عجزي عن مجاراته إلى أن تدخل بيننا الأستاذ القدير والإذاعي المعروف المرحوم يحيى ناصر الدرة، فطلب من المرحوم كتابة ومتابعة برامج وأخبار الرياضة، وأتولى أنا أنشطة وبرامج الشباب، وبالفعل قدمت أول برنامج جماهيري تفاعلي بعنوان “الشباب يقول” وأصبح للبرنامج صدى كبير في زمن قصير على عكس توقعاتي بأن النجاح سيثير حفيظة المرحوم تبعا للثقافة الراسخة في الأذهان الحاكمة لسلوك الرؤساء والمرؤوسين، باحتكار النجاح وتجييره للمسؤول وحرمان الموظف، كانت المفاجأة أن المرحوم أثبت التحرر من هذه العقدة من خلال رده على كلام مدير الإذاعة في اجتماع بحضور وزير الإعلام، فلقد أشاد بنجاح البرنامج باعتباره من منجزات الإدارة وخططها للارتقاء بدورها، واستقطاب الشباب للتفاعل معها، الكلام أغضب المرحوم فعَّقب بحماس قائلا: “البرنامج اقترحه الأخ أحمد وهو المسؤول عنه ومن يستحق الثناء والتقدير” منذ تلك اللحظة عرفت صدق الرجل ونقاء ضميره، وعلى هذا الأساس يجب قراءة موقفة الإيجابي بانحيازه إلى الوطن، ورفضه المغريات الكبيرة، وهناك مواقف كثيرة عرفت فيها المرحوم على حقيقته حتى عندما انضم إلى المؤتمر الشعبي كان يتصرف بتلقائية بعيداً عن دهاليز الأحزاب وما تفرضه على السلوك من خصوصيات تقتضي الانحياز لخيارات الحزب، وإن تعارضت مع قناعات العضو الذاتية بما تفرض من أحقاد وعداوات وكراهية ضد الآخرين المخالفين.
هذه الظواهر كان الفقيد يرفضها بشكل قاطع، وهذا سر شعبيته وحب الناس له، فلقد عاش بقلب مفعم بالآمل وحب الحياة، قلب بنبض بحب الوطن وحب كل يمني حيثما كان موقعه في جغرافية الوطن.
بهذه الرؤية الصادقة حفر لنفسه تاريخا مجيدا احتل به شغاف القلوب، لأنه ظل يتدفق بحب كبير لليمن الواحد من المهرة إلى صعدة، ويعبَّر عن ذلك بتلقائية مطلقة وصلت حد التناقض، لم يضع أي حساب لعواقب المجازفة خلال حرب 1994م، تحوَّل إلى مراسل عسكري يتابع الأحداث ويغطي المعارك بالصوت والصورة أولا بأول، هذا الموقف احتسبته عليه قوى سياسية ورأت أنه جازف في دق طبول الحرب، وبالغ في الولاء للرئيس السابق، إضافة إلى دعم وتبرير ممارسات ميليشيات الإخوان والقاعدة والقبائل ضد إخوانهم في المحافظات الجنوبية والشرقية تحت غطاء حماية الوحدة وعدم العودة إلى زمن التشطير، في حين أن المرحوم كان يعتبر ما يقوم به خدمة للوطن، ومهمة إنسانية لحماية أعظم منجز حققه اليمنيون في العصر الحديث، قال لي وهو يفَّسر الموقف :” فجيعة دعوات الانفصال اعتصرت قلبي وحددت المسار الذي يجب الانحياز إليه، لم أفكر في تلك اللحظة بالأشخاص والمكونات السياسية، رغم أني مؤتمري إلا أني في سبيل الوحدة كنت على استعداد للتعاون مع أي كيان سياسي يرفع شعار الوحدة ويدافع من أجلها” قاطعته مستدركا: لكنك قبضت الثمن بعد أن وضعت الحرب أوزارها عُينت ملحقا إعلاميا في السعودية مكافأة للدور الذي قمت به، ابتسم وأجاب: للأسف هذا اعتقاد الجميع حتى أقربائي وأسرتي والحقيقة أن الهدف كان آخر وهو إبعادي عن الساحة لأني أثناء تغطية المعارك دوَّنت بعض الانتهاكات والممارسات الصارخة وغير السوية، وكنت بصدد تقديم برنامج انتقادي شعبي يفضح هذه الحقائق إلا أني فوجئت بعلي محسن الأحمر يستدعيني إلى مكتبه ويبلغني بصدور التوجيهات القاضية بتعييني ملحقا إعلاميا في السعودية، وفي اليوم التالي ذهبت إلى وزير الإعلام، ووجدت الإجراءات جاهزة، ونصحني الوزير بسرعة الانتقال إلى السعودية في أقرب مدة، عندها استشرت صديقاً مسؤول فأجاب: الأمر واضح.. مطلوب إبعادك لا تتردد، نفذ بسرعة ليس أمامك خيار آخر”.
رحم الله الأستاذ أحمد الذهباني، فلقد تمَّيز بعلو الصوت واقتحام الحواجز بتلقائية ودون تخطيط مسبق في بلد التناقضات وديمواقرطية القمع والممارسات الشكلية، كل شيء جائز وممكن حتى الإخفاء القسري والتعيين الجبري، مع أنه كان قد طالب كثيرا بتعيينه في أي ملحقية إعلامية، وقوبلت مطالباته بالرفض والإهمال، وعندما كان الهدف إبعاده والتخلص من مشاغباته صدر القرار دون علمه.
اوردت الكلام السابق استجابة لطلب المرحوم لأن الاتهامات السابقة الناتجة عن سوء الفهم ظلت تؤرقه وانتقلت معه إلى مقر عمله في السعودية، حيث تعرَّض للكثير من المضايقات واضطربت علاقاته مع أشخاص كانت علاقتهم به جيدة في الماضي فقط لأنه كشف أغوار ارتباطاتهم السرية مع الطرف السعودي، وعرف أرقام حساباتهم والمبالغ التي يتقاضونها ما دفعهم إلى مناصبته العداء وترويج الدعايات ضده، لكنه في الأخير بالموقف الذي تجلى عنه بعد العدوان أكد ايمانه بمبادئ الانتماء الصادق للوطن ورفضه أي مساومات أو مغريات، هذا ما حدث بالفعل فلقد عاد إلى الوطن ليعيش مآسي أبنائه وهو في غاية السعادة.. رحم الله الفقيد أحمد الذهباني وأسكنه فسيح جناته ولا نامت أعين العملاء والخونة.. والعزاء الصادق لأبنائه ومحبيه.. إناَّ لله وإناَّ إليه راجعون..
والله من وراء القصد

قد يعجبك ايضا