> البريطانيون احتلوا الحديدة وساوموا الامام يحيى على الاعتراف بالحدود بين الشمال والجنوب لكنه رفض
> النشاط الاقتصادي في عدن ساهم في بروز الاحزاب والتيارات السياسية الوطنية
> ظهرت الحركات السياسية في الشمال واتسمت بطابع السرية منذ نشأتها
> خاض الإمام يحيى العديد من الحروب بين العامين 1918- 1934م انتهت بتوحيد كل مناطق شمال اليمن في إطار دولة مركزية
د. أحمد قائد الصايدي
نقصد بالبعد التاريخي للثورة اليمنية ، مجمل الأحداث والتطورات التاريخية ، الداخلية والخارجية ، التي مهدت للثورة ، وتخلقت بذور الثورة في رحمها واكتسبت بفعلها ملامحها المميِّزة. ومع أن حركة التاريخ تتصف بالاستمرارية والتواصل ، غير المنقطع ، بحيث يصعب اختيار مفصل من مفاصلها واعتباره ، دون ما قبله ، نقطة البداية في تشكيل عوامل الثورة ودواعيها. فإن الباحث مضطر دائماً إلى انتقاء حلقة معينة من حلقات التاريخ وفصلها عما سبقها من حلقات واعتبارها نقطة البداية لأحداث التاريخ اللاحقة ومنطلقاً لدراسة العوامل والأسباب ، التي وفرت الشروط الضرورية لقيام الثورة وأنضجت قواها وفكرها ورؤيتها للتغيير المطلوب في الواقع ، الذي ثارت عليه وسعت إلى تغييره. وهذا الانتقاء ، هو في الحقيقة عملية تتسم بالقسر وبالتجني على التاريخ ، الذي يتسم بالترابط والتواصل ، وبالتجني على أحداثه ووقائعه ، التي لا تنبجس فجأة ولا تهبط من قلب الغيب ، بعيداً عن الماضي وتراكماته وتفاعل مكوناته المرئية وغير المرئية ، من اقتصاد واجتماع وسياسة وبيئة طبيعية وعوامل نفسية وفكر وعلم ومعتقدات. ومصدر اضطرار الباحث إلى الانتقاء والبتر والتسليم بتقسيم التاريخ إلى حقب وعصور ، تُدْرس وتُدرّس وكأنها منقطعة بعضها عن بعض ، مصدر هذا الموقف المجافي للعلم ، هو العلم نفسه ، وبتعبير أدق المنهج العلمي ، الذي يفرض على الباحث تجزئة الظاهرة ، إلى عناصرها الأولية لتسهل دراستها ، وفي مجال التاريخ ، تجزئة التاريخ رغم ترابطه وتواصله ، وذلك لصعوبة العودة إلى مدى غير محدود ، عند دراسة ظاهرة من ظواهر التاريخ أو حدث من أحداثه.
فإذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك فعلاً ، فإن الحديث عن البعد التاريخي للثورة اليمنية يقتضي علمياً العودة ، في ما يتعلق بشمال اليمن ، إلى ما يزيد على ألف عام من تاريخ اليمن ، أي إلى بدء تأسيس الإمامة الزيدية ، في صعدة ونواحيها ، وهذه تقتضي العودة إلى ظهور الإسلام ودخول اليمن فيه وتشكل الفرق السياسية والمذاهب الكلامية والفقهية ، بل إلى تشكل المجتمع اليمني وبنيته القبلية والاقتصادية ، إلى غير ذلك من العناصر المتفاعلة ، المكونة لأحداث التاريخ ، في الماضي ، وتتبع بذور الحاضر وكيف تخلّق ، شيئاً فشيئاً ، في جوف الماضي البعيد حتى أخذ ملامحه الراهنة. وهذا أمر يفوق قدرة الباحث ويتجاوز المعنى المقصود بـ (البعد التاريخي للثورة اليمنية) في هذه الندوة. أما بالنسبة لجنوب اليمن ، فإن البعد التاريخي للثورة يرجع ، إذا تعمدنا عدم التوغل بعيداً ، يرجع إلى بدء الحركة الاستعمارية الأوربية ، في القرن السشادس عشر ، ثم إلى الوجود الاستعماري البريطاني ، في مستعمرة عدن ومحمياتها ، الممتد من يناير 1839م ، وحتى نوفمبر 1967م.
ولهذا وتمشياً مع المنهج السائد والأهداف المتوخاة من الندوة ، يكتفي الباحث بالتنويه إلى أن جذور الثورة تمتد إلى الماضي البعيد ، وأن كثيراً من أحداثها لا يمكن فهمه دون العودة إلى ذلك الماضي ، وخاصة ما يتعلق بالسلوك والاختيارات والمواقف السياسية والفكرية ، وتعامل القوى السياسية المختلفة ، بعضها مع البعض الآخر ، ونظرتها إلى السلطة وفهمها لدورها ووظائفها وحدود صلاحياتها وفهمها لدور المعارضة وأدواتها وأساليبها ، وما يتعلق بالبنية الاجتماعية وتأثيراتها السياسية والاقتصادية وشيوع روح العشيرة في السلطة والمعارضة وانبثاق الأحزاب السياسية الحديثة من بيئة قبيلة وتشبعها بالروح العشائرية ، المعبرة عن نفسها في العلاقات الداخلية للحزب السياسي وفي علاقاته بالأحزاب الأخرى وفي روح التعصب العشائرية ، التي يُربّى عليها أعضاء الحزب ، فيتعصبون لحزبهم ولكل ما يصدر عنه ، حقاً أو باطلاً ، ويسفهون كل ما يصدر عن سواه ، ويضعف حسهم النقدي ، فيعجزون عن تبين أخطائه وإدراك نواقصه. هذه الأمور وغيرها ، لا يمكن فهمها وتفسيرها إذا لم نعد إلى الجذور الممتدة في عمق التاريخ. وبعد هذا التنويه سنكتفي بالعودة إلى الماضي القريب ، في محاولة لتبين مقدمات الثورة وإطارها التاريخي القريب ، الإطار الداخلي والعربي والعالمي ، مع إعطاء الاهتمام الأكبر للإطار الداخلي ، والاكتفاء بملامسة الإطار العربي والعالمي بقدر تأثيره في الإطار الداخلي ، باعتبار أن العوامل الداخلية هي العوامل الحاسمة في أي حدث تاريخي ، رغم أننا نعيش عصراً تعاظم فيه دور العامل الخارجي وطغي تأثيره وتعززت قدرته على توليد عوامل داخلية أو تنشيطها وتوجيهها لإحداث التغييرات المطلوبة. وهي ظاهرة لم يشهدها التاريخ البشري من قبل.
مقدمات الثورة اليمنية :
يشكل نشوء وتطور الحركة الوطنية اليمنية الحديثة ، في شمال اليمن وجنوبه ، إطاراً مناسباً لتبين البعد التاريخي للثورة ، ومنطلقاً لدراسة مقدماتها وتراكم عواملها ودواعيها. ولهذا سنعمد هنا إلى تتبع هذه النشأة والتطور ، واضعين في اعتبارنا أن الحركة السياسية في الشمال قد نشأت على أرضية سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة عن الأرضية ، التي نشأت عليها الحركة السياسية في الجنوب. فرغم أن البنية الاجتماعية في اليمن ، بشكل عام ، تتكون بصورة غالبة من القبائل والفلاحين ، ثم من التجار ، وهم فئة قليلة محدودة العدد والتأثير ، فإن مستعمرة عدن قد تميزت ببنية اجتماعية مختلفة عن كل مناطق اليمن ومدنها. فقد اختفى منها الطابع القبلي والفلاحي وبرز الطابع التجاري والعمالي ، كما سنرى. وقد كان منشأ هذا التباين هو الاختلاف في نوعية النشاط الاقتصادي ، في كل من مستعمرة عدن وبقية مناطق اليمن. ففي حين ساد النشاط الزراعي، مع ضعف النشاط التجاري وقلة النشاط الحرفي مناطق اليمن المختلفة ، أزدهر النشاط التجاري في مستعمرة عدن ، حيث أصبحت عدن ، رغم صغر مساحتها ، منطقة استيراد وإعادة تصدير إلى مناطق المحميات وإلى مناطق الشمال ، وذلك بفضل مينائها البحري ووجود إدارة منظمة وقوانين حديثة ونظام مصرفي حديث ، مع وضع أمني مستقر. فنشأت نتيجة لذلك طبقة (برجوازية) تجارية نشطة ، وعملت قطاعات واسعة من أ بناء الشعب في النشاط الخدمي. وتكونت طبقة عاملة ، قاعدتها الأساسية مصفاة النفط وميناء عدن. وكان لهذا التباين ، بين مستعمرة عدن ومناطق اليمن الأخرى ، أثره في بنية الحركة السياسية وفي أساليب نشاطها. فقد ساعد وجود البرجوازية والعمال وانتشار المدارس وتوفر النظام والقانون والصحافة الحرة ، ساعد كل ذلك على نشوء وعي سياسي متقدم نسبياً ، مما هيأ الشروط اللازمة لنشوء أحزاب وتنظيمات، ذات مشلامح حديثة. وهو مالم يتوفر في شمال اليمن. فقد أتسمت الحركة السياسية في الشمال منذ البدء بطابع السرية الشديدة ، وتعرضت للبطش المستمر ، فحال ذلك دون وجود تنظيمات علنية ونشاط جماهيري واسع ، على خلاف ما حدث في الجنوب. مما يفرض على الباحث أن يدرس نشوء وتطور الحركة السياسية في الشمال والحركة السياسية في الجنوب ، كل منهما تحت عنوان خاص.
نشوء وتطور الحركة الوطنية في شمال اليمن :
درجت مختلف الكتابات ، التي تناولت تاريخ الحركة الوطنية في شمال اليمن على إرجاع جذورها إلى مطلع القرن العشرين1. وعلى وجه التحديد إلى عام 1904م. وهو العام الذي تولى فيه الإمام المتوكل على الله يحي بن محمد حميد الدين الإمامة ، بعد موت والده المنصور بالله محمد بن يحي حميد الدين. ومع أن هذه البداية لا تعني في الواقع أكثر من وفاة إمام ومجيء إمام آخر ، واصل قيادة حركة المقاومة في وجه الاحتلال العثماني الثاني لليمن ، إلا أن كون الحركة السياسية ، بمفهومها الحديث قد تبلورت أهدافها ومنطلقاتها في ظل حكم الإمام يحيى ، فقد أضحى الرجوع إلى العام الذي تولى فيه هذا الإمام منصب الإمامة أمراً مقبولاً ، تحت مبرر واحد ، وهو أن الحركة الوطنية قد نشأت كرد فعل لنظام الحكم ، الذي جاء به وللسياسات ، التي انتهجها. لذلك كان لابد لفهم أسباب نشوء الحركة من العودة إلى اللحظة التي تولى فيها منصب الإمامة.
لقد كان أول عمل قام به الإمام يحي بعد توليه الإمامة هو المناداة بالجهاد ضد العثمانيين2 ، مبرراً دعوته تبريراً دينياً. فالأتراك ، كما جاء في منشور إعلان الجهاد ، الذي وجهه إلى القبائل ، بعد مبايعته ، قد ” سعوا في الأرض بالفساد وتركوا الشرائع وظلموا العباد “3. وهذا التبرير الديني يفصح عن موقف الإمام يحي من الاحتلال العثماني ونظرته إليه. فالإمام لم ينظر إلى العثمانيين في اليمن كمحتلين ولم يقد الثورة ضدهم بهدف الاستقلال ولم يكن يرفض من حيث المبدأ السيادة العثمانية على اليمن. ولكنه مع اعترافه المبدئي بالسيادة العثمانية ، كان يطمح إلى تحقيق وضع خاص له ، في ظل تلك السيادة4 ، كحاكم ديني ، تنحصر صلاحياته في تطبيق الشريعة الإسلامية في مجال القضاء وإقامة الحدود الشرعية ، مع بقاء السلطة الإدارية والمالية بيد العثمانيين. وقد جرت اتصالات عديدة ، بينه وبين الحكومة العثمانية ، سجل خلالها موقفه هذا في بعض رسائله الموجهة إلى الحكومة العثمانية ، مؤكداً على أن ثورته إنما هي موجهة ضد سلوك الولاة وسياساتهم في إدارة البلاد ، وليست موجهة ضد السيادة العثمانية5.
وجاء صلح ( دعان ) ، الذي عقد عام 1911م ، بين الدولة العثمانية والإمام يحي ، ليؤكد طبيعة ثورة الإمام وحقيقة موقفه. فقد سلمت الدولة العثمانية ، في بنود هذا الصلح ، بزعامة الإمام الدينية ، ولكن في ظل سلطتها. فمنحته حق الإشراف على المسائل الشرعية في المنطقة الزيدية ، كحق تعيين القضاة وتعيين رئيس وأعضاء محكمة الاستئناف في صنعاء ، شريطة مصادقتها ، أي الحكومة العثمانية ، على هذه التعيينات. كما قيدت تنفيذ أحكام الإعدام بمصادقتها أيضاً. ومنحته كذلك حق الإشراف على الأوقاف والوصايا ، وكفلت له مخصصات سنوية من خزانتها وألزمته بدفع عشر دخله إليها واحتفظت لنفسها بتعيين القضاة في المناطق السنية وبالسلطة الإدارية والسياسية في البلاد. وهكذا أكدت اتفاقية الصلح بأن تبعية اليمن للدولة العثمانية لم تكن موضع نقاش أو اعتراض من قبل الإمام يحي ، وأن كل ما كان يطمح إليه هو استغلال التذمر الشعبي وتحويله إلى ثورة لا تستهدف الوجود العثماني ، بل تستهدف الوصول إلى صيغة تنظم العلاقة بينه ، كزعيم ديني ، وبين السلطة العثمانية ، كسلطة قائمة في البلاد ، يحصل بموجبها على اعتراف بوجوده ويُمنح سلطات دينية معينة ، في ظل السيادة العثمانية6. وقد ظلت اتفاقية الصلح هذه سارية المفعول حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وانسحاب العثمانيين من اليمن وتسلم الإمام يحي منهم حكم شمال اليمن سلمياً.
وعندما تسلم الإمام يحي حكم اليمن المستقل كان الإنجليز قد احتلوا الحديدة ، في نهاية الحرب العالمية الأولى ، ثم ساوموه على تسليمها له ، مقابل الاتفاق معه على مسألة الحدود ، بين الجزء الشمالي المستقل من اليمن ، وبين محميات عدن7. ولما لم يفلحوا قاموا بتسليم الحديدة إلى الإدريسي8. وبذلك أوجدوا مشكلة لم تنته إلا عام 1934م9 ، بعقد معاهدة الطائف ، بين الإمام يحي والملك عبد العزيز آل سعود. حيث أدى وجود الأدارسة في الحديدة إلى صدامات مسلحة بينهم وبين الإمام يحي.
ففي عام 1923م أنتهز الإمام يحي فرصة وفاة محمد على الإدريسي وتولي ابنه على ، ذي الشخصية الضعيفة ، أعباء الحكم وأرسل قوة عسكرية استطاعت أن تستعيد الحديدة وتلحق الهزيمة بالأدارسة وتطاردهم في تهامة ، مما اضطرهم إلى الالتجاء إلى الملك عبد العزيز آل سعود ، الذي وقع معهم معاهدة حماية ، عام 1926م ، احتفظوا بموجبها بحكم إمارة عسير وإدارة شؤونها الداخلية ، بما يشبه الحكم الذاتي ، مع نزع حق المفاوضات مع الحكومات أو منحها امتيازات اقتصادية أو إشهار الحرب وإبرام الصلح إلا بموافقة ملك الحجاز وسلطان نجد ( اللقب المستخدم رسمياً في ذلك الحين للملك عبد العزيز ). لتبدأ بذلك قصة الصراع بين الإمام يحي والملك عبد العزيز ، التي تطورت إلى نشوب حرب بينهما ، عام 1934م ، انتهت بتوقيع معاهدة الطائف ، التي أقر الإمام بموجبها للسعوديين بحكم الأراضي اليمنية الشمالية ( عسير ونجران )10.
وقد جابه الإمام في الوقت نفسه مشاكل في الحدود الجنوبية لمملكته ، أدت إلى نشوب صدامات مسلحة متكررة ، انتهت عام 1934م بتوقيع معاهدة صداقة وتعاون بينه وبين بريطانيا ، اعترفت بريطانيا فيها بحكمه وباستقلال مملكته وجمدت بموجبها قضية الحدود ، على نحو بدا وكأنه اعتراف بالأمر الواقع ، من قبل الإمام11. وبعقد هاتين المعاهدتين (معاهدة الطائف والمعاهدة مع بريطانيا) انتهت متاعب الإمام مع جيرانه السعوديين في الشمال وخفت مع الإنجليز في الجنوب12. وإلى جانب متاعب الإمام مع جيرانه السعوديين والإنجليز ، كانت هناك متاعب داخلية أكثر عنفاً. فقد كانت الفترة ، منذ استقلال شمال اليمن ، عام 1918م وحتى عام 1934م ، فترة تثبيت الحكم المركزي. حيث خاض الإمام حروباً متواصلة ضد مشايخ القبائل ، الذين اعتادوا على حكم مناطقهم حكماً مستقلاً عن الدولة المركزية ، واستطاع أن يفرض حكمه وشخصه ، كمجسد للدولة المركزية ، على جميع مناطق اليمن المستقل. كما استطاع خلال هذه الفترة أيضاً أن يقضي على منافسيه الطامعين بالإمامة. فكان العام 1934م بمثابة عام فاصل بين فترتين تاريخيتين في عهد الدولة اليمنية المستقلة ، في شمال اليمن. فقد انتهت فيه فترة من الصراعات المسلحة الداخلية والخارجية ، وبدأت فترة الاستقرار والهدوء ، التي امتدت حتى عام 1948م. وخلال هذه الفترة الثانية تبلورت ملامح الحركة السياسية اليمنية في شمال اليمن ، كحركة معارضة دستورية ، ضد حكم الإمام يحي ، وفقد الحكم الأمامي خلالها مبررات وجوده وظهر عجزه عن تحقيق أي تقدم في حياة البلاد. فقد اتسم حكم الإمام يحي بسمات بارزة ، منها الفردية المطلقة والجمود والعزلة13. فسواءً على مستوى سياساته الداخلية ، أو على مستوى سياساته الخارجية ، عمد الإمام إلى الوقوف في وجه كل جديد ورفض كل تطور والعزوف عن إقامة أية علاقات سياسية خارجية. فتعززت في عهده مواقع الجهل ومظاهر التخلف ، وساد الفقر وانتشرت الأمراض والأوبئة وتعمقت عزلة اليمن عن العالم الخارجي. وكانت هذه السياسات هي الأرضية ، التي نشأت عليها وترعرعت الحركة الوطنية الدستورية ، المعارضة لنظام حكم الإمام يحي بن محمد حميد الدين.
ولئن كانت الحركة الوطنية ، بمفهومها العام ، قد وُجدت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، كحركة مقاومة مسلحة ضد الوجود العثماني في اليمن ، ثم استمرت في عهد الإمام يحي ، كمعارضة مسلحة ضد حكمه ، إلا أنها لم تنشأ كحركة وطنية ، بالمعنى الدقيق ، إلا في النصف الثاني من عقد الثلاثينات من القرن العشرين ، حينما أخذت تكتسب طابعها السياسي الواضح وأهدافها وبرامجها المحددة14. وأهم ما يميز هذه النشأة عن كل ما سبقها ، هو محتواها السياسي الإصلاحي وأفقها الوطني العام والقوى الاجتماعية الجديدة ( مستنيرون وتجار ) التي أخذت تتصدر قيادتها.
وقد كانت هناك جملة عوامل أدت إلى نشوء الحركة الوطنية في ثلاثينات القرن الماضي. ومع أن تحديد هذه العوامل يقتضي تحليل القوى التي كونت الحركة ، حيث أن كل واحدة منها قد انطلقت معارضتها لسلطة الإمام يحي من أسباب تختلف ، بهذا القدر أو ذاك ، عن الأسباب التي دفعت بالقوى الأخرى إلى الصف المعارض ، وهذا ما سنتعرض له فيما بعد ، إلا أن هناك عوامل عامة ، كونت الأرضية المشتركة ، التي إلتقت عليها جميع تلك القوى. وأهم هذه العوامل ، هي :
* الطبيعة الاستبدادية للحكم ، التي تمثلت في تركيز السلطة في يد الإمام وأبنائه. وقد ألحقت هذه الطبيعة أضراراً بمصالح قوى عديدة ، على رأسها مشايخ القبائل وكبار موظفي الدولة ورجال الأسر الهاشمية الكبيرة ، التي كانت تعتبر نفسها شريكة في السلطة ، وعلى أيديها ترسخت سلطة الدولة المركزية.
* الاضطهاد العام ، الذي مارسه حكم الإمام ، فلم تسلم منه حتى أدوات حكمه (الموظفون والجنود) ، فضلاً عن الفلاحين والتجار والمستنيرين.
* السياسة المالية والاقتصادية ، أو سياسة الإفقار والبخل الشديد ، التي تضررت منها كل فئات الشعب ومست حتى الفئات المستغِلة ، التي أصبحت ممتلكاتها عرضة للمصادرة ، في أي وقت يتعكر فيه مزاج الإمام ، وضمها إلى ممتلكاته ، باعتباره خليفة الله على الأرض.
* سياسة العزلة والمحافظة على التخلف ومحاربة كل مظهر من مظاهر التمدن.
* المؤثرات العصرية ، التي تسربت من العالم الخارجي بصورة شحيحة ، ولكنها كانت كافية لإحداث تغيير في تفكير المعارضين لحكم الإمام. فظهرت إلى الوجود فئة المستنيرين ، التي حملت لواء التبشير بالحياة العصرية وحددت محتوى الحركة الوطنية بمجموعها وصاغت شكلها الجديد.
* الحرب السعودية – اليمنية ، التي نشبت عام 1934م وانتهت بهزيمة الإمام وتوقيعه معاهدة الطائف. فقد كشفت تلك الحرب ركاكة النظام القائم وهزاله أما أعدائه الخارجيين ، وعجزه عن حماية التراب الوطني ، رغم ما يظهره من قوة وبطش في إسكات معارضيه في الداخل.
ومن تفاعل هذه العوامل أخذت الحركة الوطنية تكتسب محتواها وشكلها الجديدين. فبدأت تتكون في المدن الرئيسية تجمعات ، أحاطت آراءها بالكتمان وقامت علاقات أفرادها ، بعضهم بالبعض الآخر ، على أساس الارتياح المتبادل والصداقة الشخصية. وتطورت هذه البدايات ، شيئاً فشيئاً ، وأخذت الحركة تتشكل حتى أصبحت حركة منظمة ومترابطة ، إلى حد كبير ، ولها امتداداتها في شمال اليمن وجنوبه ، ثم في خارج اليمن ، كما سنرى.
وقد تشكلت الحركة الوطنية في شمال اليمن من قوى اجتماعية مختلفة ، تضررت من نظام الحكم والتقت عند هدف عام ، وهو إدخال إصلاحات على النظام القائم وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، من شأنها أن تدفع باليمن لتلحق بالبلدان العربية المتطورة نوعاً ما ، كمصر والعراق. كما كان لكل قوة من قوى الحركة أهدافها الخاصة ، التي عبرت عن وضعها الاجتماعي والاقتصادي الخاص. وكان على رأس هذه القوى فئة من المثقفين ، نطلق عليهم اسم (المستنيرين). وهم ينتمون اجتماعياً إلى طبقات اجتماعية مختلفة. ولكن تفتحهم على الثقافات الجديدة ومعاناتهم من ظروف التخلف ، التي كان يعيشها اليمن ، في كل مناحي حياته ، وتوقهم إلى الحياة العصرية وتعامل النظام الحاكم معهم بتوجس وريبة دائمين ، قد وحد مقاصدهم وجعلهم يشكلون فئة معارضة للنظام ، تتمتع بقدر من التجانس والانسجام الفكري والطموحات المشتركة، مما أهلهم لأن يلعبوا دوراً قيادياُ في توجيه دفة العمل السياسي المعارض. وكان التجار فئة تشكل أقرب قوة اجتماعية إلى توجهات وتفكير المستنيرين ، بحكم إتصالهم بمستعمرة عدن ، التي مثلت في ذلك الحين مركز إشعاع حضاري ، إلى جانب كونها مركز النشاط التجاري والتعليمي الأول في اليمن ، وكذلك بحكم ما عاشه قطاع كبير منهم ، من صور الحياة الحديثة بمرافق خدماتها وأنظمة حكمها المتطورة ، في مهاجرهم ، خارج اليمن. وقد مثل النظام الإمامي حجر عثرة أمام إزدهار نشاطهم التجاري في اليمن. فسوء أحوال المواصلات وارتفاع المكوس الجمركية وتعددها وغياب الإدارة الحديثة واستئثار الأسر الحاكمة بالسلطة ومنافسة أفرادها للتجار ، في النشاط التجاري ، ومزاحمتهم في أرزاقهم ، وضعف القدرة الشرائية للمواطنين ، بسبب الفقر العام ، وركود الحياة الاقتصادية ، كل ذلك جعل التجار يندفعون في خضم العمل السياسي ، لإحداث تغيير في نظام الحكم ، كشرط لدفع البلاد في طريق التطور الاقتصادي.
وإلى جانب هاتين القوتين المتمتعتين بأفق سياسي متطور ، يسعى إلى التحديث ، كانت هناك قوى تقليدية ، تسعى إلى إنهاء حكم أسرة حميد الدين ، لأسباب أخرى : فكبار أسر فئة السادة ، المنافسة لأسرة حميد الدين ، كانت تتطلع إلى الحلول محل الأسرة الحاكمة. وفئة القضاة ، التي كان أفراد منها يعملون كجزء من السلطة ، كانت ترى أن في احتكار فئة السادة لمنصب الإمامة والمناصب القيادية في الدولة غبناً لها ، فهي لاتقل عنهم علماً ولا كفاءة15. وبعض مشايخ القبائل ، الذين تضرروا من حكم الإمام يحي ، ومن بعده ابنه أحمد ، بسبب سياساتهما تجاههم ، المتمثلة بانتزاع أبنائهم كرهائن والسعي لفرض سيطرة مركزية مطلقة على مناطقهم ، تتعارض مع التركيب القبلي ، الذي ينزع إلى استقلال القبيلة ورفض أي نفوذ يأتي من خارجها ، وكذا تحريض القبائل ، بعضها على البعض الآخر ، وزرع التنافس والشقاق وسط القبيلة الواحدة ن بين البيوت المشيخية فيها. وإلى جانب مشايخ القبائل كان هناك من أسميهم ( مشايخ الأرض )16 ، الذين يدينون في مكانتهم الاجتماعية وألقابهم المشيخية إلى ملكياتهم الكبيرة للأرض ، لا إلى عصبياتهم القبلية17. هؤلاء تضررت مصالحهم المباشرة من جراء سياسة الإمام وموظفيه ، التي إتسمت بالتوسع في إمتلاك الأراضي على حساب الملاك الأصليين ، ثم أسلوب القمع الذي انتهجه الإمام ، والذي مثل ـ عدا عن إلحاق الأضرار المادية بهم ـ إذلالاً معنوياً وحطاً من مكانتهم الاجتماعية في مناطقهم.
وعدا عن هذه القوى الرئيسية ، فقد انضمت إلى الحركة قوى جديدة منذ الخمسينات ، وخاصة بعد ثورة مصر ، عام 1952م وانتقال مركز الحركة الإعلامي إلى القاهرة. ومن هذه القوى الطلاب والعمال والمستخدمون ، الموجودون في مستعمرة عدن وفي مواطن العلم والعمل ، خارج اليمن ، في مصر وبعض الأقطار العربية الأخرى ، وفي أرجاء الأرض الواسعة.
وقد تطور فكر الحركة وأهدافها ، بتطور صراعها مع النظام الإمامي ، من ناحية ، وبتأثير الأحداث التي شهدها الوطن العربي ، وأهمها ثورة مصر ، عام 1952م ، وتأميم قناة السويس ، عام 1956م ، وما ترتب عليه من عدوان ثلاثي ( إنجليزي ـ فرنسي ـ إسرائيلي ) على مصر ، في العام نفسه ، وثورة العراق ، عام 1958م ، وثورة الجزائر ، التي امتدت من عام 1954م وحتى عام 1962م ، وتعاظم شأن حركة التحرر العربية ، التي كانت تعيش مرحلة صعود ، أثر في مستوى الوعي السياسي للفرد العربي في كل مكان. فقد بدأت الحركة الوطنية في شمال اليمن ترفع شعارات إصلاحية هادفة إلى إحداث إصلاح من داخل نظام حكم الإمام يحي ، بل وبقيادته ، ولما يئست منه إلتفّت حول ابنه ولي العهد ( أحمد ) وأخذت تشبع غروره بالمديح ، شعراً ونثراً ، وتحاول دفعه في طريق الإصلاح ، ولما حدد موقفه منها وهدد بالبطش برموزها ، يئست منه ومن أبيه ، ولكنها مع ذلك لم تتجاوز في تفكيرها حدود الإصلاح من داخل النظام الإمامي نفسه. ولهذا طرحت فكرة الإمامة الدستورية ، أي المقيدة بدستور ، ورشحت للإمامة شخصاً ينتمي إلى ثاني أكبر الأسر الهاشمية بعد أسرة الإمام يحي حميد الدين ، وهي أسرة الوزير ، وبايعت الإمام عبدالله الوزير ، إماماً دستورياً ، ونصبته بديلاً عن الإمام يحي ، الذي قتل في المحاولة الإنقلابية ، عام 1948م ، والتي تمكن ولي العهد أحمد من القضاء عليها وإعدام قادتها ، ثم مواصلة نهج أبيه في الحكم ، كما سنرى.
ويُعتبر الميثاق الوطني المقدس ، الذي كان بمثابة دستور للحركة وللنظام الإمامي الدستوري المنشود ، والذي أُعلن عام 1948م ، يعتبر أهم وثيقة نظرية ، تمثل فكر الحركة الوطنية وأفقها السياسي ، في ذلك الحين. ولم يطرأ تغيير جذري على فكر الحركة إلا بعد أن ضُربت عام 1948م ، ثم عاودت نشاطها ، تحت رعاية ثورة يوليو المصرية ، وراجعت فكرها ومواقفها ، في مناخ سياسي عربي جديد، طبعته ثورة مصر بطابعها. فتبنت الحركة الوطنية اليمنية هدف إزالة الإمامة واستبدالها بالنظام الجمهوري ، وهو ما تحقق في سبتمبر 1962م.
ويمكننا أن نميز في تطور الحركة الوطنية اليمنية ، قبل ثورة 1962م ، بين ثلاث مراحل رئيسية :
المرحلة الأولى : مرحلة التنوير :
إمتدت هذه المرحلة من مطلع الثلاثينات وحتى مطلع الأربعينات. وعادة ما يشار إلى التفاف بعض العناصر المستنيرة في مدينة صنعاء ، في مطلع الثلاثينات ، حول الحاج محمد المحلوي ، الشخصية الوطنية المعروفة ، باعتبار ذلك الالتفاف يمثل البداية الأولى للنشاط التنويري ، الهادف إلى بث الأفكار الحديثة والتبشير بمجتمع يمني متحضر ، يلحق بركب البلدان العربية المتطورة ، وخاصة مصر والعراق ، كمثالين ظل المستنيرون يطمحون إلى الاقتراب ببلادهم منهما ، سواءً في مجال الحكم والإدارة أو التعليم أو الصحة… إلخ. وكان من أبرز الشخصيات التي التفت حول الحاج المحلوي أحمد المطاع وعبدالله العزب وعلي الشماحي وغيرهم. وقد تمكن هؤلاء من التبشير بأفكارهم الجديدة ، ولكن ضمن دوائر ضيقة من الأصدقاء ، وذلك لأن أسلوب التبشير كان يعتمد على الاتصالات الشخصية18. وقد حاصرتهم سلطة الإمام بالتهم الدينية ومارست ضدهم القمع19. وعندما صدرت مجلة ( الحكمة اليمانية ) عام 1938م ، برئاسة واحد من أبرز المستنيرين ، وهو أحمد بن عبد الوهاب الوريث ، استطاع هؤلاء أن يبشروا بأفكارهم على صفحاتها ، بصورة علنية ، بالقدر الذي سمحت به طبيعة المجلة ، كمجلة حكومية رسمية.
وفي منطقة ذبحان التابعة للواء تعز برز نشاط للمستنيرين ، منفصل عن تجمع صنعاء ، مثله أحمد محمد نعمان ومحمد أحمد حيدرة ، اللذان حاولا بدورهما أن يبشرا بأفكار عصرية عن طريق النشاط التعليمي والأدبي. وقد جوبه نشاطهما بتهم دينية مشابهة لتلك التي جوبه بها تجمع صنعاء ، وتم استدعاء أحمد محمد نعمان إلى مدينة تعز ، ليبقى فيها تحت نظر وسمع السلطة. وفي كل من مدينتي تعز وإب وُجدت عناصر مستنيرة أخذت تتجمع ، بعضها إلى بعض ، بصورة مشابهة. وكان كل تجمع من هذه التجمعات معزول عن التجمعات الأخرى ، ولم تبدأ بالتعارف والتنسيق فيما بينها إلا في عام 1935م ، كما تشير بعض المصادر ، عندما تمكن أحمد المطاع ، خلال جولة رسمية له في مناطق اليمن المختلفة ، اختلفت هذه المصادر في تحديد طبيعتها ( البعض زعم أنها كانت بهدف وضع خريطة لليمن ، والبعض الآخر زعم أنها كانت بهدف تفقد الكتاتيب ، أي مدارس تعليم القرآن الكريم ، التابعة للدولة )20 ، عندما تمكن من الاتصال بالشخصيات الوطنية المستنيرة في المدن والمناطق المختلفة وعمل على إيجاد اتصال وتنسيق بينها.
وفي عامي 1937م و1938م عاد أفراد البعثتين الدراسيتين ، اللتين بعثمهما الإمام يحي ، عامي 1935م و1936م ، للدراسة في بغداد. وقد تخرج بعض هؤلاء من الكلية العسكرية العراقية والبعض الآخر تلقى تعليماً مدنياً. وبعودة أفراد البعثتين أُضيف إلى تجمعات المستنيرين زخم جديد وحماس متأثر بمظاهر الحياة العصرية ، التي شاهدها وعاشها أولئك الشباب خارج اليمن ، وبالثقافات الحديثة ، التي أُتيح لهم الاتصال بها. فانطلقوا يبشرون بالتحديث والإصلاح ، ويسهم بعضهم ، إلى جانب أحمد المطاع وأحمد عبد الوهاب الوريث وعبدالله العزب وغيرهم ، في الكتابة على صفحات مجلة الحكمة اليمنية ، التي أضحت لبعض الوقت لسان حال الشباب العصري21 ، قبل أن يوقف الإمام صدورها ، لهذا السبب بالذات. وقد لاقى أفراد البعثتين ما لاقاه غيرهم ، من عنت السلطة وقمعها ، ووُزع بعض العسكريين منهم على وظائف مدنية ، لا تمت إلى تخصصاتهم بصلة ، وأدت نشاطاتهم إلى أن يمتنع الإمام عن إرسال أية بعثة أخرى للدراسة خارج اليمن. وعوضاً عن ذلك استقدم بعثة عسكرية من العراق ، عام 1940م ، لتتولى تدريب الجيش ، حتى لا يضطر إلى إرسال أفراد منه إلى الخارج. وكان من بين أفراد تلك البعثة العراقية النقيب ( الرئيس ) جمال جميل ، الشخصية الثورية ، التي فضلت البقاء في اليمن ، بعد انتهاء مدة البعثة وعودة أفرادها إلى بغداد. وقد قُدر له أن يلعب دوراً نشطاً في حركة التنوير وأن يبرز كقائد عسكري في انقلاب 1948م ، الذي أودى بحياة الإمام يحي ، كما أسلفنا ، وتم إعدامه ، في مدينة صنعاء ، بعد فشل الانقلاب.
وقد خيبت البعثة العسكرية العراقية آمال الإمام يحي ، فسرعان ما أصبحت تمثل إحدى البؤر التنويرية ، التي استطاعت من خلال الاتصال اليومي بالشباب اليمني ، العسكري والمدني ، أن توصل الكثيرين منهم إلى الاقتناع بضرورة إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية في البلاد22.
وفي عام 1941م عاد القاضي محمد محمود الزبيري من القاهرة ، بعد أن درس فيها من العام 1939م وزامل أثناء دراسته مجموعة من الشباب اليمنيين ، الذين تأثروا بحركة الأخوان المسلمين النشطة في مصر ، في ذلك الحين. وقد تقدم الزبيري ، بعد عودته ، إلى الإمام يحي ببرنامج ، لإصلاح شؤون الدولة والمجتمع ، أسماه ( برنامج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )23 ، ملتمساً من الإمام مطالعته وتنفيذ محتواه. وقد رأى الإمام في بعض فقرات البرنامج خروجاً على الشريعة ودعوة إلى الفوضى وفتح أبواب البلاد أمام الإستعمار24. ولم تكن التهم ، التي درج الإمام على إلصاقها بالمستنيرين ، تخرج ، على أية حال ، عن إطار هذه التهم.
وانخرط الزبيري في النشاط التنويري العام ، ملازماً لمحمد أبي طالب ، الذي كان يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علناً ، في المساجد ، وخاصة من خلال خطبه ، التي كان يلقيها على مسامع الإمام وأتباعه ، بعد صلاة الجمعة. ولم يلبث الإمام أن زج بالزبيري وصاحبه في سجن الأهنوم ، حيث مكثا فيه حوالي عام واحد.
وقد ظلت صنعاء المركز الرئيسي للنشاط التبشيري إلى أن استدعى ولي العهد ( سيف الإسلام أحمد بن يحي ) ، حاكم لواء تعز ، في عام 1943م ، مجموعة من المستنيرين إلى مدينة تعز ، التي كان يقيم فيها. فاجتمع هؤلاء حوله ، ومنهم محمد محمود الزبيري وأحمد الشامي وزيد الموشكي ، إضافة إلى أحمد محمد نعمان ، حيث كان ولي العهد قد أصبح في ذلك الحين مناط أمل المستنيرين ، في إحداث التغيير المطلوب في البلاد. وهكذا أصبحت مدينة تعز ، لبعض الوقت ، مركز النشاط الأول للمستنيرين في شمال اليمن.
وفي عام 1944م تأزمت العلاقة بين ولي العهد وبين الشباب المستنير ، الملتف حوله. إذ ضاق ذرعاً بأفكارهم وبطموحاتهم الإصلاحية ، وعبر عن نيته بالبطش بهم ، في تهديد مشهور ، فر بعضهم على إثره إلى مستعمرة عدن. وكان على رأس الفارين محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان. وفي مستعمرة عدن برزت الحركة الوطنية ( الشمالية ) كحركة ذات تنظيم علني وصحيفة ناطقة باسمه ونشاط ، يتسم بالاتساع والاستقطاب ، ومطالب إصلاحية أكثر تحديداً ، مما يضعنا أمام مرحلة جديدة ، من مراحل الحركة الوطنية الشمالية.
المرحلة الثانية : مرحلة المعارضة السياسية العلنية ، شبه المنظمة :
بدأت هذه المرحلة بفرار الزبيري والنعمان ، وغيرهما ممن عرفوا بعد ذلك بالأحرار اليمنيين ، إلى مستعمرة عدن ، عام 1944م ، حيث أسسوا فيها ( حزب الأحرار اليمنيين ) ، الذي استبدل اسمه عام 1946م ، ليصبح ( الجمعية اليمنية الكبرى ) ، وتم إصدار صحيفة ( صوت اليمن ) الناطقة باسم الحركة ، وبدت الحركة ، في هذه المرحلة أكثر تشكلاً وتحديداً ، إذ أصبحت لها قيادة محددة وحزباً وأعضاء ، ينتمون إلى الحزب ، واشتراكات منتظمة ، وصحيفة ونشرات واجتماعات ، ورفعت شعارات واضحة وطرحت مطالب محددة25. وبهذه المظاهر أصبحت الحركة كياناً وواقعاً حقيقياً ، وعُرفت بأكثر من اسم : ( الحركة الدستورية )26 ، نسبة إلى شعار الإمامة الدستورية ، التي سعت إلى تحقيقها ، و( حركة المعارضة ) ، لموقفها المعارض لحكم الإمام يحيى و ( حركة الأحرار اليمنيين ) ، وهو الاسم الأكثر شيوعاً في منشوراتها. وقد تمكنت الحركة من توسيع نشاطها وكسب الأعضاء والمؤيدين ، في مناطق التجمعات اليمنية في المهاجر ، وخاصة في شرق أفريقيا ( جيبوتي والصومال والحبشة والسودان… إلخ ). كما تمكنت من تحقيق اتصال بالداخل ( مملكة الإمام يحي ) وإيصال منشوراتها إلى بعض الشخصيات المعارضة في المدن الرئيسية ، رغم حملات القمع والاعتقالات ، التي أخذ يمارسها الإمام ضدها. واستطاعت الحركة أن تقيم مركز نشاط لها في القاهرة ، بمصر ، شكل حلقة اتصال نشطة ، مع الحركة السياسية العربية27 ، وأخذ بعض الطلاب اليمنيين يكتبون في الصحف المصرية ، حول القضية اليمنية ، وعلى رأس هؤلاء محمد صالح المسمري وأحمد حسن الحورش ومحي الدين العنسي. وقد استطاع هذا المركز أن يقيم علاقة تعاون بين الحركة وبين قيادة الإخوان المسلمين في مصر28.
ومع اتساع نشاط الحركة وعلو صوتها ، إنشدت إليها شخصيات من الطبقة الحاكمة ، وعلى رأسها سيف الإسلام29 إبراهيم ، أحد أبناء الإمام يحيى ، الذي فر إلى عدن ، ملتحقاً بقيادة الحركة هناك ، فأطلقت عليه الحركة لقب ( سيف الحق ) بدلاً من ( سيف الإسلام ) ، تمييزاً له عن أبناء الإمام الآخرين.
ومن أبرز من إنشدوا إلى الحركة وتعاونوا معها ، من أبناء الطبقة الحاكمة ، عبدالله بن أحمد الوزير، الذي نصبته الحركة إماماً دستورياً ، بدلاً عن الإمام يحي ، وعلي بن عبدالله الوزير ، وغيرهما من أبناء أسرة الوزير ، وهي الأسرة الأولى المنافسة ، في ذلك الحين ، لأسرة حميد الدين ، التي ينتمي إليها الإمام يحيى30 ، كما أشرنا سابقاً.
ولم يفلح الإمام في ترويض الحركة ، رغم استخدامه لوسائل الإغراء والقمع ، الترغيب والترهيب. وقد عزز انضمام بعض أبناء الأسر الحاكمة إلى الحركة من موقف الحركة في الداخل وأصبح للحركة مركزا ثقل رئيسيان : الأول في عدن ، وعلى رأسه أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري وسيف الحق إبراهيم ، والثاني في صنعاء ، وعلى رأسه آل الوزير ، ومعهم بعض أبناء الأسر الحاكمة الأخرى وعدد من المستنيرين ، بمن فيهم العسكريين ، الذين كانوا قد تلقوا تعليمهم العسكري في العراق ، كما أسلفنا ، وعلى رأس هؤلاء الضابط العراقي جمال جميل. وقد تمكن المناضل الجزائري ، الفضيل الورتلاني ، الذي وصل إلى صنعاء عام 1947م ، منتدباً من قبل تنظيم الإخوان المسلمين في مصر للعمل مع الحركة الوطنية في اليمنية ، ومنتحلاً صفة تجارية ، تمكن تحت ستار هذه الصفة ، من التنقل هنا وهناك ، دون عوائق ، فنجح في ربط مركزي الحركة ، في كل من عدن وصنعاء31. كما استطاع أن يسهم في تنشيط الحركة ، من خلال الندوات والمحاضرات العامة ، التي كان يقيمها في صنعاء ، بعد أن نجح في كسب ثقة الإمام وولي عهده أحمد.
وترافق تصاعد نشاط الحركة الوطنية مع توقع وفاة الإمام يحي ، بسبب اعتلال صحته وكبر سنه (80 عاما ) ، مما جعل قيادة الحركة تفكر جدياً بالبديل. فأُجريت الاتصالات ، بين عدن وصنعاء والإمام حسن البناء ، المرشد الأعلى للإخوان المسلمين ، في القاهرة ، وتم الاتفاق على ترشيح عبدالله بن أحمد الوزير ، إماماً دستورياً32 ، خلفاً للإمام يحيى ، وتشكيل حكومة ومجلس شورى ووضع ميثاق وطني ، سمي ( الميثاق الوطني المقدس ) ، وكان بمثابة وثيقة حددت فيها المبادئ والقواعد العامة للحكم الدستوري ، على أن يتم ، بعد تنصيب الإمام الجديد ، وضع دستور مفصل وإنشاء جمعية وطنية ، بالانتخاب أو بالتعيين ، لتحل محل مجلس الشورى ، إلى غير ذلك من ترتيبات وإجراءات إقامة الحكم الإمامي الجديد ، المقيد بالدستور33. وقد أُتفق على إبقاء هذه الترتيبات سراً والإحتفاظ بالميثاق الوطني وبأسماء أعضاء مجلس الوزراء ومجلس النواب ، إضافة إلى أسماء مدراء الوزارات ، لدى قيادة الحركة في عدن ، لتتولى نشرها ، في كل من عدن والقاهرة ، فور إبلاغها ، من قبل قيادة الحركة في صنعاء ، بوفاة الإمام يحيى ، وذلك حتى تحول الحركة دون تنصيب ولي العهد أحمد إماماً ، خلفاً لأبيه ، لما كان يُخشى منه على الحركة ورجالها ، ولما كان يكنه من عداء للأفكار الإصلاحية ، التي تبنتها الحركة.
وقد أفلح ولي العهد في كشف ترتيبات الحركة. ولكي يفضح مخططاتها وشخصياتها لأبيه ، أوعز بتمرير برقية ، عن طريق الوكيل التجاري للإنجليز ، المقيم في مدينة الحديدة ، موجهة إلى الإدارة البريطانية في مستعمرة عدن ، تتضمن نبأ وفات الإمام يحيى. ولما أرسلت الإدارة البريطانية من ينقل تعازيها إلى سيف الحق إبراهيم ، الموجود حينذاك في عدن ، بوفاة والده ، لم يساور قيادة الحركة أي شك في صحة النبأ وسارعت إلى نشر الميثاق الوطني ، المتضمن البيعة للإمام عبدالله الوزير ، ونشر قوائم أسماء رئيس وأعضاء مجلس الوزراء ورئيس وأعضاء مجلس الشورى وأسماء مدراء الوزارات وأمراء الألوية ، أي محافظي المحافظات وغيرهم من كبار موظفي الدولة.وتم نشر كل ذلك في الصحف ، في كل من عدن والقاهرة ، وفق ترتيب مسبق. وسرعان ما وصلت بعض تلك الصحف إلى يد الإمام يحي في صنعاء ، الذي بدأ يعد العدة لسحق الحركة في الداخل. وهكذا وجدت الحركة نفسها في مأزق حرج وفي سباق مع الزمن. فإما أن تسارع إلى القضاء على الإمام ، وإما أن تنتظر حتى يجهز على رجالاتها ومؤيديها ، الموجودين داخل مملكته34.
ولم يمض شهر واحد على انكشاف ترتيبات الحركة ، حتى أقدم رجالاتها في صنعا على اغتيال الإمام يحيى ( في 17 فبراير عام 1948م ) وإعلان البيعة لعبدالله الوزير ، إماماً جديداً35. ولكن سرعان ما تحرك سيف الإسلام أحمد ( ولي العهد ) ، من مقره في مدينة تعز ، عبر الحديدة إلى مدينة حجة الحصينة وأعلن إمامته واتخذ لنفسه لقب ( الناصر لدين الله ) واتصل بالقبائل اليمنية ، يهيجها ويتهدد من يتخاذل منها عن نصرته ، كما اتصل بالملك عبد العزيز آل سعود ، الذي شد من أزره ووقف إلى جانبه وتحرك لتأمين الموقف العربي لصالحه. وأظهر الإمام الناصر أحمد بن يحي قدرات في قيادة الحركة المضادة للإنقلاب ، قيادة سياسية ونفسية وعسكرية ، لا تقارن بقدرات الإمام عبدالله الوزير ، الذي لُقب بالإمام ( الهادي ) ، والذي أظهر تردداً وتوجساً من قيادات الحركة الوطنية وافتقد إلى الحزم في اللحظات الحاسمة.
وقد انتهى الصراع بين النظام الجديد ، بقيادة الإمام الهادي عبدالله ، وبين المطالب بالعرش ، الإمام الناصر لدين الله أحمد ، إلى إسقاط صنعاء ونهبها ، من قبل رجال القبائل ، الموالين للإمام أحمد ، وإلقاء القبض على رجال الانقلاب وقيادات الحركة الوطنية ، بمن فيهم القيادات التي كانت ساعة وقوع الانقلاب وقتل الإمام يحيى في مستعمرة عدن ، ثم اتجهت بعد الانقلاب إلى صنعاء ، للمساهمة في قيادة وترسيخ النظام الجديد. وقد أُلقي القبض على بعض هؤلاء في صنعاء نفسها، وبعضهم الآخر في مدن ومناطق يمنية أخرى ، مثل الحديدة وذمار وغيرهما ، وزُج بهم في السجون ، ثم أُعدم منهم ، تباعاً ، تسعة وعشرون رجلاً ، من بينهم الإمام عبدالله الوزير نفسه ، واحتفظ الإمام أحمد بالباقين في السجون سنوات عديدة بعد الإنقلاب36. وكان من نتائج انقلاب عام 1948م نقل عاصمة مملكة الإمام من مدينة صنعاء إلى مدينة تعز.
من أوراق ندوة الثورة اليمنية “سبتمبر – اكتوبر” والتي أقامها مركز الدراسات والبحوث بمناسبة العيد الذهبي للثورة اليمنية.