العدوان ليس مفاجئا ووحشيته ليست غريبة بعد خسارة السعودية وأسيادها أدوات نفوذها في اليمن
■ استغلت السعودية ثغرات حرب الستينيات لاختراق بنى المجتمع بشراء الذمم وتكوين مراكز قوى موالية ونشر فكرها الوهابي
■ أحدث النفوذ السعودي نتوءات وتشوهات في المنظومة الفكرية والثقافية والدينية والاقتصادية عطلت نمو الانتماءات والولاءات الوطنية
دكتور مهندس/ خالد صالح محسن شرف الدين
الدوافع والأهداف الحقيقية للعدوان
هنا نحن نودع عاماً ونصف العام من العدوان والحصار، لم يحقق المعتدي، باستثناء جرائم القتل والتدمير والإبادة، أياً من أهدافه المعلنة، فلا (شرعية) عادت ولا استسلم (الانقلابيون) ولا سلّم (المتمردون) أسلحتهم، ولا انصاعوا للقرارات الجائرة وانسحبوا (صاغرين) إلى قراهم وجبالهم و(كهوفهم).
ولم يغير من الأمر ما حدث في بعض المناطق الجنوبية والتي تزعم أبواق العدوان وعملائه “تحريريها” ووقعت برمتها تحت سيطرتهم، فالجميع يعلم الآن لماذا وكيف قاما لجيش واللجان بالانسحاب من تلك المناطق، كما أن (السيطرة) المزعومة سرعان ما تبخرت على أرض الواقع وتحولت إلى كابوس مفزع نشاهد فيه مختلف المجموعات المسلحة سواءً المرتزقة أو العميلة أو الغازية أو الإرهابية وهي تنتشر وتتقاتل فيما بينها بغية السيطرة وبسط النفوذ هنا وهناك.
حيرة مسببة
وقد استوقف هذا العجز عن الحسم العديد من المراقبين والمحليين بل وأثار حيرتهم وذلك لأكثر من سبب، فمن جهة ما يتمتع به المعتدي من أسباب وعوامل قوة ونفوذ ساحقة واستثنائية لا تخفى على أحد، إذ علاوة على ترسانة الأسلحة الهائلة المتراكمة لديه منذ أزمان طويلة، قدمت له الولايات المتحدة وحلفاؤها من دول الأطلسي كل أنواع الدعم المادي والسياسي وأمنت له الغطاء الدولي في محافل أتخاذ القرار كافة، وعلى رأسها مجلس الأمن، هذا بالإضافة إلى استخدامه أموال الريع النفطي في بناء تحالفات عربية وإقليمية، وفي إيجاد آلة إعلامية شرسة مهيمنة وفي شراء ذمم ومواقف العديد من الشبكات الإعلامية الأخرى سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
كل ذلك وفر للمعتدي شروطاً أكثر من مريحة (لم تحلم بها حتى إسرائيل) مكنته من الإمعان في عدوانه وأطلقت يده إلى أقصى مداها لارتكاب أبشع جرائم الدمار والقتل والترويع والتشريد وسط صمت دولي مخزٍ وجبان بدأ أقرب إلى التواطؤ منه إلى المباركة والتأييد، صمت يعري زيف الأسس والمبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها ما تسمى بالقوانين والمواثيق الدولية، كما يكشف بشكل قاطع، نفاق الشعارات التي تصم بها آذاننا على الدوام منظمات وجمعيات وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان بمختلف تفريعاته الفولكلورية من المرأة إلى كبار السن وحتى الطفل الرضيع، ناهيك عن حقوق الحيوان والنبات والحشرات .. الخ.
من جهة أخرى التواضع الشديد في عدة وعتاد وعديد قوات الدفاع من جيش وأمن ولجان نتيجة أولاً لمؤامرات ما سمي بالهيكلة منذ 2011م وما لحقها من تدمير أهوج جراء القصف الجوي المكثف لكل ما قيل أنها معسكرات أو مخازن أسلحة.
عدم تحقيق العدوان لأهدافه المعلنة بالرغم من كل ذلك يعتبر بلا جدال شكلاً من أشكال التخبط إن لم نقل الفشل والخيبة.
ليس هذا فقط، إذ ما لبثت تلك الحيرة أن تحولت إلى استغراب مشوب بالدهشة وبشيء غير جافٍ من الإعجاب، وذلك عندما قلبت قوات الجيش واللجان كل الموازين وعبرت خط الدفاع الصامد لتمسك بزمام المبادرة وتنتقل إلى خطط وتكتيكات هجومية ألحقت بالمعتدي وبجحافل مرتزقته وعملائه أفدح الخسائر، بل وحولت عمقه الحيوي إلى جحيم صاعق، وكل ذلك بالقليل المتوافر ومن دون غطاء جوي أو حتى دفاعات جوية فعالة.
صمود معجز
لاشك أن الفضل في ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى صمود الشعب اليمني المستمد من إيمانه بالله وبعدالة قضيته ومن تلاحمه مع أبطال الجيش واللجان الشعبية في تصديهم الأسطوري للعدوان وأدواته، وما يزيد من عظمة هذا الصمود البطولي النادر تعدد صوره وأشكاله النادرة.
فمن المؤكد أنهم قد استضعفوا اليمن واتخذوا قرارهم بشن العدوان على أساس قدرتهم على سحق هذا البلد الآمن وتركيعه في غضون أيام أو أسابيع على أكثر تقدير، ومن هنا وأتت آل سعود الـ(جرأة) وانتفخت أوداجهم وقرروا للمرة الأولى التدخل المباشر، ومن هنا أيضا جاء اسم العاصفة وكل تلك الغطرسة وكل ذلك الصلف.
وهكذا عندما تكسرت نصالهم على جدار التصدي الصلب، أخذتهم العزة بالإثم وراحوا يحرقوا ويدمرون بجنون أخرق كل ما هو على الأرض من عمار ونبات، وكل متحرك أو ساكن من إنسان وحيوان وكان أملهم أو وأمنياتهم أن يشاهدوا أسراباً من ملايين اليمنيين وهم يتدافعون إلى خارج حدود البلاد، وفوق ظهورهم بعضاً مما أمكن إنقاذه من متاع، وجوههم شاحبة، وأعينهم تدور في ذعر واستجداء بحثاً عن ملجأ آمن أو وطن بديل.
لم يدر في خلد هؤلاء الجبناء أنهم يواجهون شعباً أصيلاً متميزاً، جبل على العزة والكرامة، شعباً لا يبرح أرضه عند الشدائد والمحن، قد ينزح، عند الضرورة القصوى، من ركن فيها إلى آخر، ولكنه يلتصق دوماً بهذه الأرض، بجبالها ووديانها، بخيرها وشرها، يعيش فيها كريماً أو يموت دفاعاً عنها شهيداً، بعد أن يكون قد جعلها، في كل مكان قبوراً لكل من اعتدا عليها وتجبر.
لذلك كانت صدمتهم مروعة، يروا بدلاً عن مشاهد الرحيل واللجوء، مشاهد عودة العالقين في الخارج قسراً وإصرارهم على الالتحاق بالوطن مهما كانت قسوة الظروف التي فرضها العدوان وحصاره الجائر.
دوافع حاقدة
كل هذا صحيح، وعلينا ألا ننساه إطلاقاً، ولكن أليس علينا في نفس الوقت التساؤل عن الأهداف الحقيقة لهذه الهجمة الدموية وهذا القدر من الحقد الدفين؟ز
لقد أدرك اليمنيون، بوعيهم الفطري السليم، أن معرفة حقيقة الأهداف تكمن أولاً في معرفة حقيقة الدوافع، وأن أهداف المعتدي، بالتالي، لا تمت بصلة إلى ما أعلن عنه وإنما هي في حقيقتها رغبته الكاسحة المتجبرة في تلقين من اسماهم بـ(المتمردين) و(الانقلابيين) درساً وقاسياً مروعاً يعودون، على إثره راكعين .. صاغرين، إلى بيت الطاعة وإلى الدوران، من جديد في فلك هيمنة آل سعود وأسيادهم والرضوخ الكامل لمشيئتهم.
هذا بالإضافة إلى أن للعدوان وجوه وأبعاد أخرى عديدة لا تقل خطورة، وأن لم تكن مرئية أو ملموسة بنفس القدر، وحتى نرى الصورة بكامل وجوهها وملامحها، علينا بالضرورة تغيير زوايا الرؤية وتوسيع دائرتها ومن ثم إعادة الإجابة ربما عن نفس الأسئلة المطروحة ولكن هذه المرة من منظور أكثر شمولاً. منظور يعمل ، أساسا على استظهار طبيعة الترابطات الخفية بين أجزاء الصور والتي تبدو، غالبا، متناثرة أو مستقلة بذاتها إلى هذا الحد أو ذاك.
هذا الأمر سيمكننا، أولا، من فهم وإدراك الجذور والترابطات الحقيقية لهذا التكالب الكوني المسعور على بلادنا وبكل هذه الضراوة والشراسة. كما يمكنه أن يسهم من جهة أخرى في تحديد استراتيجياتنا وفقا لمراحل المواجهة المختلفة ويعيننا أخيرا على بلورة خياراتنا سواء الراهنة منها أو المستقبلية.
التفكير وفقا لهذا النهج يقتضي:
– أولا: التوقف عند عدد من المقدمات والمحطات التاريخية التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأوضاع وظواهر وأحداث اليوم.
– ثانيا: إلقاء مزيد من الضوء على دلالات بعض المفاهيم النظرية التي أسيء تفسيرها وتوظيفها من أغلب “القوى السياسية” في خطاباتها “التسطيحية” التي شاعت وراجت في الآونة الأخيرة.
إسقاط الهيمنة
وفي هذا الصدد لا باس من البدء بالإشارة إلى الطبيعة المتميزة والفريدة للنفوذ السعودي في اليمن والذي يخطى من يحاول تسطيحه واختزاله، أو تنميطه وحشره في بعض قوالب العلاقات الجاهزة المعروفة والمتداولة.
لقد بينا في دراسة أخرى أن هذا النفوذ، على عكس ما هو شائع، هو حصيلة لعمليات معقدة ومركبة شديدة الترابط، حيث نراه على صلة وثيقة، من جهة بمعطيات الصراع الدولي منذ حقبة الحرب الباردة وتداعياتها في المحيط الإقليمي والعربي، ومن جهة ثانية، بالهزات التي تعرضت لها البنى والمرتكزات الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية لليمن، وكادت أن تصيبها بالتفكك والتصدع المجتمعي لولا صلابة جذورها الضاربة في أعماق الزمان وعلى امتداد الأرض طولا وعرضا .
وقد تناولنا هذه الحقبة المفصلية من تاريخ اليمن الحديث في الدراسة المعمقة المشار إليها سابقا، حيث حددنا فيها نقطة بداية “الهزات” بصدمة الاحداث التي اندلعت أوائل ستينيات القرن الماضي (يوم 26 سبتمبر 1962م تحديدا)، وأوضحنا انه على الرغم من نبل وطهارة وعنفوان الغايات، إلا أن المصريين وقادتهم، بل السواد الأعظم من اليمنيين، بما فيهم “الضباط الأحرار”، لم يكن لديهم عشية “الثورة المباركة” أدنى تصور عن طبيعة تكوينات وبنى المجتمع اليمني وواقعه المعقد، ومن باب أولى عما يمكن أن تودي إليه تداعياتها من انكشاف مفاجئ للمجتمع والدولة، بعد عزلة طويلة، أمام القوى والتيارات الخارجية وما ينتج عن ذلك من مؤثرات وجودية خطيرة على مختلف الأصعدة الاقتصادية – الاجتماعية الثقافية، ثم ما أعقب تلك الصدمة من حروب أهلية ومن توالي وانتشار المزيد من التشوهات البنيوية في سائر المنظومات والمؤسسات الحكومية والمجتمعية عموما.
نفوذ تفكيكي
وما نود تأكيده هنا باختصار، هو أن النفوذ السعودي في اليمن ما كان له أن يكون بهذه القوة لولا ما ذكرناه من مظاهر التدهور والتفكك والتشوه الذي حل بالمجتمع اليمني وطال آليات عمل منظوماته الوظيفية ومرتكزاته بل وحتى هياكله التحتية والفوقية. ولولا، أيضا خلو الساحة الثقافية- الدينية- العقائدية تماما من أي شكل من أشكال المقاومة أو حتى الاعتراض لأسباب عديدة ليس هذا مجال شرحها.
من الطبيعي، في ضوء هذه المعطيات، أن يقترن استفحال بعض مظاهر التفكك المجتمعي عضويا بتصاعد سطوة ذلك النفوذ. فبعد أن تمكن من اختراق البنى الأساسية للمجتمع مستغلا ثغرات الحرب الأهلية في ستينيات القرن الماضي، أخذ في الانتشار معتمدا، في البداية، على شراء ذمم وولاءات العديد من الشخصيات والرموز في الأوساط القبلية والعسكرية والنخبوية الحزبية والثقافية.
ثم انتقل، في مرحلة تالية، إلى تكوين مراكز قوى موالية مكنته من إحكام قبضته وتعميق تأثيره، حتى أصبح، في ذروته، حاكما متحكما ليس في رأس ورموز ومفاصل السلطة السياسية والعسكرية والقبلية فحسب، وإنما، أيضا، في المنظومة الدينية والثقافية والفكرية للمجتمع بأسره وذلك عبر السيطرة على دور العبادة وعلى المناهج والمراكز الدراسية الدينية والجمعيات الخيرية.. الخ. محققا غزوا منهجيا منظما وكاسحا لمذهبه الوهابي الغريب الدخيل الوافد من وراء الحدود، وما يتناسل عنه من أفكار السلفية الجهادية والتكفيرية. وهنا، قد لا نجد مبالغة في القول إن اليمن، في تلك الحقبة من التاريخ، أوشك فعلا لا قولا، أن يصبح “سعوديا- وهابيا أكثر من السعودية نفسها”.
هذه المعطيات أدت، أيضا، إلى نشوء وبروز نتوءات وتشوهات في المنظومة الفكرية- الثقافية- العقائدية، عطلت، مع غيرها من العوامل الاقتصادية- الاجتماعية، العديد من إمكانيات نمو وارتقاء الانتماءات والولاءات الوطنية الجامعة، وعززت ، بدلا عن ذلك،بل واستحدثت أحيانا، ولاءات وعصبيات مناطقية- مذهبية ضيقة دخلية على المجتمع استجلبت فيما استجلبت بذور التنافر والكراهية والفتنة ليس فقط بين العناصر المكونة للشعب بل وبين الناس عموما وحتى بين أهل البيت الواحد.
أحداث متوقعة
وأهمية هذه الحقيقة الأخيرة تكمن في أنها تعيننا على فهم أعمق لما نشاهده اليوم من ظواهر وسلوكيات مجتمعية تبدو للوهلة الأولى مفاجئة وصادمة وغير قابلة للعقلنة,ولعل أول هذه الظواهر، انجرار إعداد غير يسيرة للوقوف، عمليا في صف العدوان. وهي الظاهرة التي لم نجد ما نطلقه عليها سوى كونها “ارتزاق”و “عمالة”.
وهذا التوصيف،وأن كان صحيحا من حيث المبدأ، إلا أنه لا يكفي لتفسير جذور وأسباب تكون هذه الظاهرة الشاذة، والعوامل التي فاقمتها، من جهة، ودفعتها، من جهة أخرى، في هذا الاتجاه دون غيره، ثم أوصلتها في النهاية، عمليا إلى الدرك الأسفل من مستنقعات الخيانة.
من هنا، ينبغي فهم ما نعنيه بقولنا لم نفاجأ كثيرا بشن العدوان أصلا، ولا بما فيه من جنون ولا مشروعية ولا معقولية, تماما كما لم نستغرب، منذ البداية هذا الإمعان الهستيري للعدو في التدمير والقتل والإبادة والذي لا يمكن لأي إنسان سوى أن يجد له مبررا أو تفسيرا, السبب في ذلك ، كما اشرنا، هو معرفتنا بحجم وبأبعاد الخسارة التي مني بها أولئك الحكام وأسيادهم من جراء ما فقدوه من أدوات وشبكات، عكفوا بنائها ونشرها خلال أكثر من خمسة عقود من الزمن واستيعابهم.
واستيعابهم، أخيراً، لصعوبة، أو بالأحرى لاستحالة، تعويض بأية صورة كانت ، سواء في المستقبل المنظور أو حتى في المستقبل البعيد.
يضاف إلى ذلك حالة الخوف والتوجس، بل والذعر الحقيقي، التي انتابتهم رأوا وأحسوا وأدركوا أن هذه المستجدات العاصفة والمتسارعة في اليمن تحمل أيضاً في أعماقها بذوراً لنمو تيار جديد وأصيل يرفض البقاء في دائرة التخلف والفقر والتبعية ويسعى لأن ينعم الشعب بالحرية والعيش الكريم في ظل دولة تصون سيادته واستقلاله الوطني، وتؤمن له، ولأجياله القادمة، شروط بناء المستقبل الحضاري الذي يصبو إليه.
حقائق العدوان
مجموع هذه العوامل والأسباب أوصلت الأعداء إلى قناعة كاملة بحقيقتين هامتين:
أولاهما، أن اليمن بات خارج نطاق التحكم،وأنه يتأهب، بعد عقود من الطاعة والانقياد، لأن يقف، أخيراً، على قدميه وأن يقود مصيره بنفسه.
والثانية، أن زمن الاعتماد المطلق على العملاء والموالين قد ولى إلى غير رجعة، ومن الضروري، بالتالي، البحث عن وسيلة أخرى لضمان بقاء هذا البلد حبيساً في القمقم، هزيلاً ممزقاً وتحت السيطرة.
لذلك يصبح ما يمارسه العدوان من تدمير همجي وقتل جبان، والذي تراه أعين القاصي والداني، ليس مجرد فعل يائس وحاقد فقط، بل ويمكن، أيضاً، النظر إليه باعتباره، في الأساس ، وسيلة جديدة لتحقيق نفس الغاية القديمة، والتي تتمثل أساساً في تخليد اليمن ضمن دائرة التبعية والتخلف.
حيث تصبح الوسيلة هذه المرة تفكيكه وإضعاف مقوماته واختلاق بؤر مزمنة لنزيفه وتناحر مكوناته.
ومن ذلك، يتضح بجلاء أن مشروعاً للتقسيم والتفتيت، أيا كان شكله ولونه، أصبح، بالفعل ، يشكل ، العمود الفقري للمخطط المرسوم لليمن. ولكن المشكلة كانت تكمن فقط في كيفية تمريره فبعد أن باءت بالفشل كل المحاولات الناعمة لتمرير ما يمكن تسميته بـ” أقلمة البلاد والعباد” بدءاً بمشاهد الفصل الأخير من مسرحية مؤتمر الحوار الوطني الشامل! الهزلية ، وإدراجه الكوميدي ضمن، بل وعلى رأس، ما سمي بـ” مخرجاته” مروراً بحملات الترويج والتسويق الإعلامية وعقد الندوات التي تعدد محاسن التقسيم والأقاليم، وترديد الحديث عن ذلك بلا توقف وكأنه أمر مفروغ منه، وانتهاء بتضمينه، خلسة، في نصوص ما قيل أنها مسودة الدستور الجديد للـ” يمن الاتحادي الجديد”!.
بعد أخفاف كل تلك المحاولات، وبعد أن تهاوى وفر وتوارى أغلب عملاؤهم ، كان لابد من التكشير عن الأنياب والانتقال إلى المحاولة الأخيرة المكشوفة وذلك بشن عدوان سافر وحصار خانق من جهة، وافتعال نزاعات وحروب دموية هنا وهناك، من جهة أخرى، تتولى وسائل الإعلام المأجورة المبالغة فيها وتزويرها وتصويرها كحروب أهلية. المهم أن يبدو معها المخرج الآمن والحل الدائم هو التقسيم والأقلمة والدولة الاتحادية وعندها يراهنون على أن الجميع سيقبل بأي شكل من أشكال الأقلمة مكرهين ورغم أنوفهم. وهو قبول أقرب إلى القبول بالـ” حمى بديلاً عن الموت”. الغريب، أنه بالرغم من كل ذلك، وخلافاً لما هو متوقع، فإن المتابع لخطاب العدو وإعلامه، سيلاحظ انعدام ذكر موضوع التقسيم تقريباً. وإن جاء ذكره فبصورة عابرة وباقتضاب شديد.
فرض التقسيم
لذلك ، نميل إلى الاعتقاد بأن الإصرار الإعلامي المناطق على تحقيق شروط ” عودة الشرعية” والقرار 2216، وإعلان ذلك كهدف وحيد، مع العلم بصعوبة تنفيذه، قد يكون أحد أهدافه الخافية هو منح المعتدين المبرر الشكلى والغطاء السياسي الخارجي والداخلي لإطالة أمد العدوان والحصار مما يحقق لهم المزيد من القتل والتدمير والإبادة. ويتيح لهم، من جهة ثانية، المزيد من وهم بكل ذلك، ينوون، أو بالأحرى يأملون في، فرض أمر واقع جديد على الأرض. واقع يسوده التنافر والأحقاد بين مكونات الشعب، بعد أن ظنوا أنهم قد نجحوا بالفعل ليس فقط في شحن نفوس أبنائه بأحقاد وعداوات مذهبية طائفية ومناطقية، وإنما أيضاً في فصلهم عن بعضهم البعض بأنهار من الدماء لا يمكن عبورها ولا تجفيفها أو طي صفحتها.
وهذا الواقع إن تحقق ، لا سمح الله، فإنه سينشط، حتماً آليات الفصل بدلاً عن الوصل، والتباعد بدلاً عن التقارب، وسيؤسس في الخيال الجماعي لبناء أسوار وجدران بينية عازلة. وفي النهاية، وهذا هو الأهم، سيهئ النفوس والعقول ويمهد لها تقبل أي مشروع لتقسيم وأقلمة التراب الوطني، دون أدنى تفكير في العواقب.
رهان التمزق
الخلاصة، أن هؤلاء الأقزام المتطاولون المستكبرون يحاولون إقناع أنفسهم أنه حتى في حالة الفشل في تحقيق أي من أهدافهم المعلنة، ستكون، مع ذلك قد تحققت لهم، بالقتل والتدمير والفتن، أهم غاياتهم الدفينة الخبيثة والحاقدة والمتمثلة في إبقاء اليمن تحت سيطرتهم مقسماً ضعيفاً فقيراً متخلفاً.
ولا ننسى أنهم في سبيل ذلك، لن يتورعوا، كما يشهد الحال، عن فعل أي شيء حتى لو كلف الأمر تسخير كل ما لديهم من قوى الشر، وكل ما يمكنهم حشده وشراؤه من شياطين ومصاصي دماء، لإشعال المزيد من الفتن والتنافر والاحتراب بين أفراده ومكوناته ومناطقه، وإشاعة الدمار والخراب في سائر أرجائه، تمهيداً لتفجيره من الداخل وشرذمته وتقطيع أوصاله إلى أقاليم وولايات مصطنعة متنافرة واهنة سهلة الانقياد والاختراق والخضوع.