الزمن الجميل !!
الإنسان ليس ” آلة “، مخلوق له عواطف وأشجان، رغبات ونزوات، آمال وطموح ، ولذلك لابد من التواصل الإنساني الذي يُعتبر مورداً للحياة ووقوداً للمعنويات والشعور بالسعادة ، وتسخير جزء من الوقت كبرنامج حياة ، لزيارة الأرحام والأصدقاء واللقاءات الإيجابية لاكتساب علاقات ومعارف جديدة ، إسقاطاً للواجب الديني والأخلاقي وترويحاً عن النفس وتقوية للأواصر الأسرية والنسيج الاجتماعي وعملاً بنهج الإباء والأجداد في المحافظة على قواعد وعادات وتقاليد وأعراف سامية حافظة على تماسك وتوازن المجتمع اليمني وجعلت منا أمة عظيمة ويمناً سعيداً.
فالحياة ليست عمل متواصل، والإنسان ليس مجرد ” مكنة ” معطلة العواطف والقيم ومبرمجة على اللهو بلا حدود ، لاسيما وان للبدن حق في الراحة والاسترخاء وللإنسان حق نحو أسرته وجيرانه وأصدقاءه، ولابد من إرادة لضبط النفس وكبح النزوات قدر الإمكان والعودة بالذاكرة إلى ” الزمن الجميل” الذي جسد خلاصة الخلاصة للاستقرار النفسي ، واختزل البساطة والسعادة والقناعة في كافة المدن اليمنية رغم المعاناة وشظف العيش .
مازلنا نتذكر الأيام الخوالي في المدن والبوادي وفي مقدمتها العاصمة صنعاء حاضرة اليمن التي تشكل لوحة ” فسيفساء ” بديعة لجميع اليمنيين التواقين لروح التعايش والتسامح والتماسك بكثرة بساتينها وأشجارها ومنتزهاتها وجبالها وسهولها ، ولازلنا نتذكر أبناءنا كخلية نحل في البيوت والأعمال والمساجد والمجالس والأسواق والحقول وترتيل آيات الذكر الحكيم والتواشيح والموالد والمغارد والزوامل، قبل أن تتحول إلى كتل إسمنتية وعقول شاردة وقلوب ضيقة بعد أن كان الجامع الفريد لتلك اللوحة اليمنية الفريدة والترابط الاجتماعي العجيب التربية الصالحة والتعاليم القويمة المتشربة من روح روح الإسلام الحنيف وما توارثناه من السجايا وما غرس فينا من مبادئ الصدق والإيثار والوفاء والتراحم والقناعة التي أوجدت مجتمعاً جدير بالاحترام.
ومازال شريط الذكريات يتذكر المبادئ والسلوكيات السامية والسجايا النبيلة والصور الجميلة والمشاهد العجيبة في الحياة اليومية والليالي اللطيفة التي كان الفانوس والنوارة ” القزازة ” والشمعة عنواناً وبريقاً لتلك الفترة بما تضمنته من القصص والحكايات الطريفة والحكم والأمثال والبسمات في كل بيت وأسرة ومحل وشارع ، بعيداً عن الهموم والوحشة والتوحش والحالات النفسية والانزواء والانطواء نظراً لثقافة التعايش والتسامح آنذاك .. ما إن يدخل وقت النوم حتى يستعد الجميع لفجر يوم جديد يبدأ بصلاة الفجر وتناول الفطور من منتجات اليمن السعيد ومن ثم الانتشار في أرض الله الواسعة طلباً للرزق ، وما إن يرفع أذان الظهر حتى تغلق المحلات التجارية أبوابها في كل أسواق اليمن إيماناً وبقناعة تامة وخارج إطار التطرف والتشدد وتمتلئ المساجد بالمصلين من الشيوخ والشباب والأطفال ومن ثم العودة كل الى منزله لتناول غداء الظهيرة وما إن يظهر ضيف أو غريب حتى يتسابق الناس إلى ضيافته ، لاسيما في شهر رمضان الكريم ووصل التكافل الاجتماعي إلى ذروته ، ومجرد عدم تصاعد الدخان من احد بيوت الجيران أو الإحساس بمرض أو موت يسارع الجيران إلى إخراج جزء من الطعام للأسرة الأخرى وتقديم العون قدر الإمكان وما إن يغيب شخص عن صلاة الفجر حتى يسارع الجميع للسؤال عن حالته ووصله وهكذا في الأفراح والأحزان وطلبة العلم، في حين يموت القريب والجار عطشاً وجوعاً ومرضاً وغالباً مفارقة الحياة دون علم الجار المجاور له إلا بسماع صوت القراَن الذي حوله السواد الأعظم منا إلى تراث وإيذاناً بوفاة عزيز لنا.
ومن الطريف أن مجالس المقيل للزمن الجميل كانت أشبه بالصوالين الأدبية كان على رؤوسهم الطير من حالة الهدوء والإجلال للكبار والمشاركة في الحديث والحذر من مقاطعة الكلام حتى تحولت تلك المجالس إلى منابر للعلم والأدب والشعر والتاريخ والثقافة والفكر الإنساني .. وما إن يسافر شخص إلى عدن أو تعز أو الحديدة أو مكة، إلا وزاد الحنين والشوق والسؤال عنه ومجر عودته يسارع الجيران لاستقباله وتهنئته ومجابرته بسلامة عودته ، وما إن يقدم شخص على فعل عمل مشين حتى يسارع الجميع إلى نصحه حتى لو أدى الأمر إلى مقاطعته رغم وجود الدولة .
فهل آن الأوان لمراجعة النفس والعودة قدر الإمكان إلى الزمن الجميل والاستفادة من سجايا الماضي الفريد ونعمة الحاضر بإفراد مساحة للتواصل الإنساني لنكون خير أمة ؟.. أملنا كبير .