يواجهون خيارات الغلاء أو الجودة المتدنية أو الانعدام أو الفساد بفعل الحصار والعدوان
تحقيق / سارة الصعفاني
بعد أن سمم بيئة الصحة ودمر بنيتها التحتية، لم يستثن العدوان الحصار الجائر حتى أدوية البقاء على قيد الحياة، حيث لم يعد مرضى الأورام والأمراض المزمنة يحصلون على كل الدواء من وزارة الصحة والمركز الوطني لعلاج الأورام فيضطرون للبحث عنها في الصيدليات الخاصة وبمبالغ باهظة إن وجدت عبر موردين ومهربين يعملون خارج سياق القانون والضمير والإنسانية.. أما حال الأدوية في السوق، فأشبه بفنتازيا قاسية من أصناف وشركات غير مرخص لها، وأدوية مهربة، ومزورة، ومنتهية الصلاحية.. ومخالفات بل جرائم كثيرة، يأتي هذا في ظل غياب شبه كامل لدور الجهات المعنية بالرقابة على الصيدليات ومخازن الدواء ما يفرض التساؤل عن جودتها، فاعليتها وظروف تخزينها…. إلى التفاصيل
« أتألم كثيراً، صرت أشعر باقتراب الموت، ورغم أن العلاج الكيماوي والإشعاعي والأدوية بالمجان لكن لم نعد نجد جميع الأدوية في المركز، فقط نشتري الرخيص منها، والأعباء المالية في الأشعة المقطعية، الرنين، المسح الذري باهظة جداً .. تكلفة مسح ذري لمرتين فقط كلفني 130 ألف ريال،12 جرعة كيماوية تكلفة كل جرعة 70 ألفاً، و3 شرائط كبسولات بقيمة 45 ألفاً غير المبالغ الباهظة لأدوية القلب.
هذا البوح المؤلم والموجع الذي يعكس معاناة بالغة، تعيشها «فاطمة قاسم» وهي في الأربعينات من عمرها، غير أن الأسى جعلها تتحدث عن اقتراب الموت موضحة أنها تعاني من مرض القلب وسرطان في الثدي منذ ثلاثة أعوام..
«فاطمة قاسمة» ببوح ألمها، ليست وحدها مكلومة بهذا الوجع، فجميع من التقيناهم من مرضى الأورام ومرضى الأمراض المزمنة أكدوا أنهم لا يشترون من الأدوية سوى الرخيص، ومن هنا جاءت فكرة السؤال عن ثمن أدوية الأورام تحديداً ومما توفر في إحدى الصيدليات دواء ( Capcitabin) بمبلغ مائة ألف ريال، (Imatinb) بمبلغ 250 ألف،(Trustazumab) بـ 280 ألفاً، وبحسب الصيادلة فإن من الأدوية ما يبلغ ثمنها أضعاف هذه المبالغ فاستيرادهم لها مغامرة بالنظر للقدرة الشرائية للمريض اليمني، والمأساة أن هذه الأدوية لم تعد متوفرة في المركز الوطني لعلاج الأورام، وإن وجدت في الصيدليات الخاصة فبأسعار خيالية في الوقت الذي تشير التقارير الدولية أن أكثر من 80% من اليمنيين بحاجة للإغاثة الإنسانية !
يقول د. رضوان القدسي – مدير التموين الدوائي في المركز – متحدثاً عن تأثير غياب أدوية السرطان على حياة المصابين ومدى فاعلية ما هو موجود في الصيدليات الخاصة: أدوية السرطان المتوفرة في السوق كلها مهربة 100%؛ لأن شركات الأدوية لا تعطي السوق، كل الأصناف المسجلة في هيئة الأدوية للشركات وجميعها تأتي عبر مناقصات للمركز، والأدوية المتوفرة في السوق ليست مهربة فحسب بل ومن مصادر سيئة، لم نر مهرباً أصلياً أو ذا جودة وفاعلية .. كل المهرب شركات هندية غير معروفة لكن نتيجة نقص الأدوية يضطر المرضى لشرائها للبقاء على قيد الحياة وبمبالغ باهظة أضعافاً مضاعفة عن ما نشتريه عبر المناقصات ولشركات أردأ منها مستغلين حاجة المرضى للأدوية وغياب التنافس فيبيع الصيدلاني الدواء بالثمن الذي يريده، لا خوف من الله ولا إنسانية، مضيفاً: نتعامل مع الشركات المؤهلة فقط، حتى الأدوية التي لم تسجل بعد في الهيئة، نخبرهم أن الأدوية خاصة بمركز الأورام ليتم الإفراج عنها وتصل إلينا فقط، أما فيما يخص أصناف أدوية الأمراض المزمنة ،الشركات بإمكانها توريدها لوزارة الصحة وللسوق بشرط أن تكون مسجلة في هيئة الأدوية لكن السؤال هل يوفرها الوكيل أم مُهرِب.
ليست مسجلة
أما د. حسن المحبشي مدير الهيئة العليا للأدوية فيؤكد أن أدوية السرطان وأدوية الأمراض المزمنة المتوفرة اليوم في السوق ليست مهربة وإن لم تكن مسجلة في الهيئة: الحصار يمنع استيراد الأدوية للقطاع الحكومي، والمشكلة الاقتصادية في البلد حالت دون الحصول على الأدوية من الشركات فعدنا للقطاع الخاص وطالبناهم بتوفير الأدوية للسوق بأسعار مناسبة؛ فليست أدوية مهربة وإن لم تكن مسجلة في الهيئة كونها تدخل تحت إشرافنا وتخضع للفحص في المختبر، وكل مريض وحالته المادية كما أن أي دواء يطرح في السوق محدد بسعر من الهيئة، ولنا دور في الرقابة على الصيدليات، ولدينا معايير ولوائح تنظم استيراد الأدوية ومنح التراخيص للشركات.
وعن غلاء الدواء والتفاوت في السعر من صيدلية لأخرى يقول د. المحبشي إنهم يواجهون صعوبة حقيقية في ضبط الأسعار وإعادتها كما كانت، وأن الوضع الراهن رفع سعر الأدوية بسبب صعوبة النقل وزيادة مصاريفه وزيادة أسعار التأمين عليه وارتفاع سعر الدولار، ومن الأدوية ما يأتي عبر طائرات خاصة؛ فأضيفت هذه التكلفة فوق ثمن الأدوية.
أما عن تهريب الأدوية من قِبل التجار ومدى فاعليتها ودورهم في الرقابة يقول د. المحبشي: لدينا لجان رقابية على الأدوية المهربة، وهي مسجلة ومعروفة لدى أعضاء إدارة الرقابة والتفتيش في الهيئة، وأي دواء يسوّق في اليمن يخضع للفحص في المختبر الوطني الخاص بالهيئة ولا يطرح في السوق إلا بعد التأكد من صلاحيته وفاعليته، ونحن مستمرون في فحص الأدوية .
وفي مقابلة لقناة اليمن اليوم مع مدير هيئة الأدوية في برنامج وجهة نظر بتاريخ 2-12-2015م تحدث د. المحبشي عن وجود أدوية مهربة بسبب الحصار ونقص الدواء، منها أدوية لشركات عالمية تصل مباشرة عبر طيران خاص، ومنها أدوية تتعرض للتلف نتيجة تعرضها لظروف خارجية أثناء تهريبها كما توجد أدوية مزورة، محذراً من الدخلاء على مهنة الصيدلة حيث يتم شراء الترخيص من صيدلاني أو العمل في صيدلية دونما ترخيص، وفي أمانة العاصمة، ما يفرض سؤالاً .. كيف هو واقع الصيدلة في بقية مدن وقرى اليمن؟
ضمير الصيدلاني
ويقول الصيدلاني – سنان حسان: كل الأدوية مستوردة يأتي بها تجار عبر السعودية، ورغم أن وزارة الصحة تمنع الأدوية المهربة لكن هذه الأيام أي دواء ضروري وليس متوفراً لديهم لا تُمانع من أجل حياة وصحة المرضى لكننا لا نأخذ إلا من موردين مضمونين ومعروفين من قبل ولشركات جيدة، وفي النهاية هي مسألة أمانة، أدوية الأنسولين كمثال بسيط تحتاج ظروف تخزين من 2- 8 درجة مئوية لا يضمن الصيدلاني الفاعلية والصلاحية، وأدوية السرطان كانت باهظة فيما الآن تعتبر أرخص مقارنة بما كانت عليه، ويختلف ثمنها من صيدلية لأخرى كــ»النيوبوجين» مقوي المناعة ثمنه متفاوت من 12 ألفاً – 16 ألفاً بمعنى لا يوجد من يضبط السعر أو يراقب ما يباع في الصيدلية، يعتمد على ضمير الصيدلاني.
بدائل القدرة الشرائية
وعن عدد الأصناف الدوائية في السوق والأرقام المتضاربة حول نسبة ما يستورد من الأدوية مقابل ما ينتج منها محلياً، تحدث د. أحمد الشهابي- نائب رئيس اتحاد منتجي الأدوية ورئيس لجنة الصادرات بالاتحاد العام للغرف الصناعية والتجارية – عن وجود أكثر من أربعة آلاف منتج دوائي في السوق اليمنية وخيارات متعددة لكل الأدوية، منها لشركات عالمية مرتفعة الثمن وبدائل دوائية مختلفة متفاوتة بما يتناسب مع المستوى المعيشي للجميع، مشيراً إلى أن تكاليف شحن وسائل النقل زادت سبعة أضعاف ثمنها بسبب المتاعب والمخاطر التي قد يتعرض لها مالكوها .
الميزانية والرقابة
وعن دور وزارة الصحة في الرقابة على الصيدليات تحدث د. أمين رزق- مدير عام الصيدلة والتموين الطبي بوزارة الصحة: الرقابة مسؤوليتنا لكن لا دور لنا لأننا لا نملك أي ميزانية تشغيلية لتأدية مهمتنا، ومنذ أكثر من 6 سنوات نعد خططاً لاعتمادنا ضمن الموازنة، طالبنا كل الحكومات المتعاقبة بتخصيص ميزانية لإدارة الصيدلة بدون أي جدوى، وكأن الرقابة والتفتيش أمر هامشي! وعندما نتلقى بلاغات على صيدلية أو شحنة أدوية مهربة تكون لنافذين أو نتعرض للاعتداء، يكفي أن لجنة الرقابة تنزل بلا أي مبلغ وليس لديها سيارة أو طقم أمني، حتى أن موظف الرقابة يؤدي مهمته فوق متر أجرة .. أين هيبة الدولة واحترامها؟ فضلاً عن كون الحكومة نفسها من تقويهم بالتحكيم القبلي والاستثناءات والرشوة، أما الإجراءات القانونية فكثيرة لكن التنفيذ صعب!
بيئة للمخالفات
وعن نوعية المخالفات التي تم ضبطها سابقاً يقول د. أمين: كل المخالفات المنافية لأبجديات وأخلاقيات ممارسة مهنة الصيدلة ترتكب في غالبية الصيدليات إن لم يكن جميعها وفي أمانة العاصمة منذ سنين لغياب دور الرقابة والتفتيش.. بيع أدوية مهربة، مزورة في معامل في اليمن أو مستوردة، منتهية الصلاحية، مخدرات ،صرف أدوية خطيرة بدون وصفة طبية، مزاولة عمل بدون ترخيص، بيع تراخيص لتجار، مؤهلات وتراخيص مزورة، رفع ثمن الدواء ،بيع أدوية مجانية ،أصناف أدوية لشركات رديئة ليست مسجلة في هيئة الأدوية ..!
فساد النفوذ
إذا كنت طالباً في كلية الطب، باحثاً أو صحفياً تريد معرفة معلومات عن الأدوية أو ثمنها أو حتى التحدث مع الصيدلاني نفسه لن تجد أدنى اهتمام أو تجاوب في سلسلة الصيدليات التي تجد فيها غالبية الأدوية بما فيها الأدوية النادرة؛ فقط يكون الرد «الإدارة تمنع».. وحتى نعرف لمن هذه الصيدليات ومدى مشروعية وجود فروع تتجاوز الـ 20 صيدلية بذات التسمية! طرحنا الأمر على د. أمين الذي أكد أن هذه الصيدليات غير مشروعة لما فيه من احتكار للأدوية واستغلال للمرضى وتحويل مهنة الصيدلة من خدمة إنسانية طبية إلى سلعة تجارية، فضلاً عن أخذ فرص صيادلة في ممارسة المهنة حيث يصادفون هذه الصيدليات في كل شارع ثم إن الترخيص يعطي للصيدلاني نفسه ويشترط تواجده في الصيدلية فكيف له أن يتواجد في كل الفروع في نفس اللحظة !
وعن ملكيتها يقول إنها تعود لتجار ونافذين في البلد يحصلون على التراخيص بعد شرائها، مؤكداً أن الوزارة تمنح الترخيص فقط للصيدلاني المؤهل بعد استيفاء الشروط، وعليه مراجعة الطبيب حتى في الجرعات الدوائية، لكن من الصيادلة من يؤجر الصيدلية أو الترخيص مقابل مبلغ شهري لتاجر يبيع فيها ما يرغب حتى مخدرات!
تموين بلا مخازن
في كل شارع وحي تجد أكثر من صيدلية وعن عددها يقول مدير عام الصيدلة: لا نملك إحصائية عن عدد الصيدليات في اليمن لكن في أمانة العاصمة من 3000- 5000 صيدلية ومخزن (!)، فيما إدارة التموين الطبي بدون مخازن ودورنا مهمش، كل جهة وقطاع وإدارة مستقلة بذاتها، لديها ميزانية ومخازن تموين وإدارة مسؤولة عنها كصندوق الإمداد الدوائي، الرعاية الصحية، الطب العلاجي، هيئة الأدوية، بنوك الدم، الصحة الإنجابية ..
ثمن الأدوية
من جهته يقول د. فضل حراب – نقيب الصيادلة – دورنا في هذه الفترة توفير الدواء بالتعاون مع وزارة الصحة والهيئة العليا للأدوية والمنظمات، وكرقابة الجهات المعنية وهيئة الأدوية نشطت دورها الرقابي بفحص الأدوية المنتهية والأدوية المهربة، وهي قليلة جداً في الوقت الحاضر، كما قامت مكاتب الصحة بالتفتيش على بعض الصيدليات لكنها اليوم لا تقوم بأي مهمة، فقط منح تراخيص واستغلال الوضع المتردي في قطاع الصحة بنشر صيدليات كثيرة فوق حاجة المجتمع دونما حتى طلب المؤهل وعضوية النقابة.
وفي رده على سؤال» لماذا ثمن الأدوية دائماً مرتفع في اليمن؟ «يقول د. فضل: ثمن الدواء في اليمن أغلى من ثمنه في البلدان العربية؛ لأن الهيئة العليا للأدوية – من قبل العدوان – سجلت ثمن الأدوية بسعر دولار مرتفع (315) فيما سعر الدولار (215) أي بزيادة مائة ريال في كل دولار، متابعاً: قدمنا مقترحات للهيئة العليا للأدوية حتى تعود الأدوية لثمنها الطبيعي لكن الهيئة كانت تقابل المسألة بسلبية كونها قامت برفع أسعار الأدوية للتجار.. المأساة أنه حتى أدوية شرق آسيا التي يُفترض أن تكون أسعارها مخفضة جداً نجدها تنافس أسعار الأدوية الأوروبية !
قد يعجبك ايضا