عربدات سعودية ببصمة صهيونية
د. حسن أحمد حسن
كثيرة هي التساؤلات التي تثيرها مواقف مملكة الملح في بلاد نجد والحجاز، والسبب لا يعود لعنصر المفاجأة الذي لم يحدث ولن يحدث طالما أن القوى الاستعمارية هي التي فصَّلت الأسر الأوليغارشية المالكة في الخليج وفق مقاسات محددة، ونصبتها على عروش التحكم برقاب البلاد والعباد لتؤدي دوراً وظيفياً مشبوهاً ومفضوحاً منذ عقود، ومن السذاجة السياسية والبلاهة الفكرية تسطيح الاستهدافات الممنهجة بتجلياتها الوهابية المتوحشة وتقديمها كتمرد على بلاد العم سام التي رهنت سياستها الخارجية وكرستها لضمان أمن الكيان الصهيوني وحماية مصالحه المتناقضة بالضرورة مع مقومات الأمن الوطني لجميع دول المنطقة دونما استثناء، وعندما يتم تصوير المواقف السعودية وكأنها شق لعصا الطاعة الأمريكية فهذا لا يكون بتأثير الصدفة الموضوعية التي أفرزتها تداعيات الأحداث، كما أنه لا يمكن أن يكون ورقة قوة سعودية تمددت في ظل ضعف الدور الأمريكي وتراجعه، على الرغم من أنه في الحقيقة ينحسر وبوتائر متسارعة تفوق قدرة تتبع التداعيات والتعامل معها من قبل مفاصل صنع القرار الاستراتيجي الأمريكي، فما هو السر إذن من الإصرار السعودي على خلع كل الأقنعة دفعة واحدة؟ وكيف يمكن فهم العدوانية المسعورة لدى حكام الرياض وتبنيهم العلني لدعم الإرهاب الموصوف والمصنف دولياً على قائمة الإرهاب العابر لحدود الدول والقارات؟ وقبل هذا وذاك هل تستطيع السعودية فعلاً أن تتخذ مواقف متناقضة وإرادة البيت الأبيض؟ وإذا كان الجواب الموضوعي بالنفي فكيف يمكن فهم تبدل لهجة الخطاب الرسمي الأمريكي وارتفاع حدة الخطاب السعودي والإمعان أكثر فأكثر وبوقاحة غير مسبوقة وكفيلة في حال التعامل بردود الأفعال المشروعة بإشعال المنطقة برمتها؟
قد يكون تقديم أجوبة مقنعة على ما سبق من تساؤلات أمراً غير يسير، ويتطلب تقديم الأدلة والبراهين على أن كل ما يجري لا يدل على التناقض وإنما على التكامل، وبكلام آخر هو شكل من أشكال توزيع الأدوار وإسناد المهام من المايسترو الأمريكي لبقية الخدم والتبُّع والأدوات التنفيذية بغض النظر عن دور كل أداة وتعدد المستويات وتدرجها من رئيسي إلى حيوي إلى ثانوي وهامشي وقد يكون تكميلياً فقط كالكومبارس الذي لا يتأثر بغياب أحد عناصره المتهافتين بالعشرات.
إن دراسة تطور الأحداث وتداعياتها يؤكد أن دور التصعيد الميداني وعلى أكثر من جبهة قد أوكل رسمياً للعائلة السعودية الحاكمة التي تحاول تصدير صورة مزيفة مفادها أنها ما تزال قادرة على خلط الأوراق وعلى أكثر من جبهة وأكثر من صعيد، وبتحليل الواقع وتشريحه يتبين العكس فالرياض تعاني من نقاط ضعف كثيرة ومتنوعة وجوهرية فهي غارقة بمشكلات الداخل السعودي والهوة الكبيرة تزداد اتساعاً بين مكونات الشعب السعودي، فضلاً عن الاحتقان الذي يقترب من حدود الغليان في بعض مكونات المجتمع السعودي، وهي تعاني إخفاقاً مدوياً في عدوانها الموصوف على اليمن، وكل الأهداف الاستراتيجية التي تبنتها في الحرب المفروضة على الدولة السورية تتهاوى، ويتضح يوماً بعد يوم العجز المطبق عن تحقيقها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعراق وبقاء لبنان عصياً على المصادرة لصالح الفريق المرتبط بأجندة آل سعود، وإذا أضفنا إلى ذلك الكارثة الاقتصادية والعجز المالي الذي قارب مئة مليار دولار، وتزامنه مع العجز عن وقف الفاعلية الإيرانية المتصاعدة إقليميا ودولياً، وارتفاع حدة الأصوات الأطلسية التي تربط الإرهاب ويشكل موضوعي ومعلل بآل سعود عندها يتضح أن أحد أهداف العربدة السعودية يكمن في محاولة التغطية على العجز المتنامي والمتفاقم الذي لم يعد قابلاً للترميم، وليس أمام حكام الرياض إلا الانبطاح أكثر أمام من يمسك برسنهم، ويملي عليهم ما هو مطلوب للتسابق في التنفيذ طمعاً بموقع ما تتضمنه المهارة والطاعة العمياء للقادم من الأيام بعد أن ينقشع غبار الحرب الضروس بين الجيل الأول من أبناء عبد العزيز آل سعود وبين الجيل الثاني الذي يبدو أكثر كفاءة في تنفيذ الإملاءات الخارجية وبما ينسجم واتجاه بوصلة مصالح الكيان الصهيوني الذي أصبح مسؤولوه يتبجحون بصداقتهم مع دول الخليج وعدائهم المشترك لإيران بخاصة ولمحور المقاومة بعامة، وهذا يتقاطع مع تصريحات مرشح الرئاسة الأمريكية ترامب المتضمنة إعلان العداء للمسلمين، وأنه يتعين على السعودية أن تغدق أكثر في مدفوعاتها المالية إذا أرادت أن تبقى تحت مظلة الحماية الأمريكية .
منطلقات التحليل المنهجي تؤكد أنه من العصي فهم النتائج ما لم تتم معرفة الأسباب، فالمدخلات هي التي تحدد نوعية المخرجات في ظل تفاعلات محددة بدقة، والمقدمات هي التي توصل إلى نتائج محسوبة بشكل مسبق، وستبقى الصورة ضبابية ما لم يتم الارتكاز إلى أسس الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة والتي أفصحت عنها الدراسات والوثائق الأمريكية وتصريحات ثعلب السياسة الخارجية هنري كيسنجر وغيره من المسؤولين ذوي الميول الصهيونية،وهي لم تعد سرية فقد تناقلتها الكثير من وسائل الإعلام، وهي تتضمن العمل على تصدير إسلام ينسجم والمصالح الصهيو ـ أمريكية ويضمن نشوب حرب المئة عام على أسس طائفية تنسف مقومات الدول القومية وتهيئ البيئة الاستراتيجية المطلوبة لتناحرات ضيقة إثنية وعرقية ومذهبية وطائفية تطيل أمد ولادة الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به كونداليزا رايس عام 2006م لكنها تحافظ على إبقاء المنطقة غارقة في صراعات متطابقة وبوصلة مصالح الكيان الصهيوني، فالمستهدف تم تحديده بأمرين جوهريين هما العروبة والإسلام، ولتحقيق الغاية أصبح من المطلوب الذي لا يقبل التأجيل ضرب العروبة ببعض المحسوبين عليها والانقضاض على الإسلام برايته وبما يسلبه جوهره ويصدر صورة مشوهة عنه بأنه منبع الإرهاب الذي يجب اجتثاثه لأنه يشكل تهديدات وأخطاراً على الأمن والسلم الدوليين، وعندما تنبه المتنورون والغيورون من رجال دين وعلم ووجهاء وقادة رأي من أنصار المذهب السني على إسلامهم إلى خطورة ما يتم العمل عليه ومحاولات مصادرة خطابهم من داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية التي ما كان لها أن تستفحل وتستشرس لولا رعاية الاستخبارات الأمريكية والصهيونية عندها أصبحت الأقنعة ضاغطة على أنفاس حكام الرياض فتم خلعها وشن عدوان على اليمن لفرض فكرة الحرب الطائفية وإعطائها بعداً إقليميا يدفع أقطاب محور المقاومة للتورط بدخولها مباشرة بشكل أو بآخر، لكن ذلك قد أخفق بفضل الاستراتيجية الموضوعية والهادئة القادرة على امتصاص الفورات المتتالية من تهييج غرائز الانتماء القطيعي ومنعها من اجتياح الوعي المجتمعي، وهذا ما دفع حكام الرياض للإيغال أكثر في العربدة فكان القرار بإعدام الشيخ نمر باقر النمر وقصف السفارة الإيرانية في اليمن لفرض الحرب بلبوس طائفي يمكن حكام تل أبيب من رفع أصوات قهقاتهم وهم يتفرجون على حرب تلتهم ألسنة لهيبها المنطقة وشعوبها من دون أن تخسر إسرائيل قطرة دم أو رصاصة واحدة، لا بل إن استمرار أصحاب العروش والكروش فوق عروشهم المرتجة يتطلب تكريس عائدات النفط لضمان استمرار دوران عجلة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي والأطلسي، وهذا ما يحدث وفق ما تم التخطيط له وبأدق التفاصيل.
ومع ذلك لم تكن النتائج ولن تكون كما اشتهى وخطط أعداء الإنسانية، فالصمود الأسطوري للدولة السورية شعباً وجيشاً وقائداً أصاب الرأس القاطر للمشروع التفتيتي في مقتل، ومكن بقية أقطاب محور المقاومة من الوقوف إلى جانبها وبحزم في الوقت المناسب، وهذا ما شجع الأصدقاء الروس على الدخول بقوة وفاعلية أحرقت ما تبقى من أوراق بيد النازيين والظلاميين الجدد الذين أرادوا العودة بالمنطقة إلى ما قبل الجاهلية الأولى اعتماداً على فائض القوة العسكرية التي تنتجها معامل صنع السلاح في الغرب الأطلسي وعلى فائض المال الخليجي والفائض البشري من حملة الفكر التكفيري الوهابي، فكان المعادل الموضعي في فوائض نوعية يمتلكها محور المقاومة وهي فائض كرامة وسيادة وفائض إرادة وتصميم وفائض ثقة بالنصر وقدرة على تحويله من هدف وغاية إلى واقع قائم بدأت نتائجه الأولية تتجلى بوضوح وتترك مرتسماتها العملية على أرض الواقع عبر تلاشي الأحادية القطبية وانحسارها إلى غير رجعة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن مرحلة اللا قطبية التي تمخضت عنها الحرب المفروضة على الدولة السورية هي التي ساهمت بتوسيع هامش المناورة لدى السعودية وتركيا فالتبس الأمر على بعض هواة السياسة والتفكير الاستراتيجي وتوهموا أن ذلك خروجا من بيت الطاعة في حين أنه لا يعدو أن يكون هامشاً مطاطياً تم اعتماده بخبث لضمان التحكم بالحركات الأخيرة لمن أعجبهم الرقص على حافة الهاوية، لكن على أولئك جميعا مخططين ومنفذين أن يضعوا في حساباتهم أن الاستراتيجية العسكرية العلمية تؤكد أن لا يجوز استبعاد أي سيناريو عن طاولة القائد الميداني مهما تكن نسبة احتمال حدوثه متدنية، فالتحشيد العسكري يؤدي إلى الحرب، حتى ولو لم يكن المتحاربون راغبين بها، والثقة بالقدرة على منع السقوط في الهاوية مشكوك بها والأسابيع القادمة مرشحة لمزيد من التصعيد الميداني الكفيل برفع البصمة الصهيونية والتأكد من أنها هي التي تحكم العربدات السعودية، ومن حق من يبنون استراتيجياتهم على أن الكيان الصهيوني هو العدو الرئيس أن يزجوا بكل إمكانياتهم لإلحاق الهزيمة بذاك العدو، وهذا يعني تلقائيا تقويض الروافع التي يعتمدها لإطالة أمد وجوده المحكوم بالزوال أو الارتهان للقانون الدولي والمنطق الإنساني وللحتميتين الجغرافية والتاريخية، وفي كلتا الحالتين تتضح النتيجة الحتمية وهي انتهاء الدور الوظيفي للأدوات والأتباع بكل مسمياتهم وبغض النظر عن العربة التي يستقلونها اليوم في قطار المشروع التفتيتي المحكوم بالإخفاق والفشل وتحطم العربات تباعاً بعد خروجها عن السكة التي لم تعد صالحة للاستخدام.