الفرع الأول: التسوية الاتفاقية:
تعد المشكلات الحدودية من أعقد المشكلات الدولية، فالتنافس “بين الدول ومدى تشددها لايلين حتى حينما يتعلق الأمر بأجزاء صغيرة من إقليمها” (2).
ونظراً لازدياد منازعات الحدود وما أدت إليه من حروب طاحنة جرت الويل والدمار على الشعوب فقد اتجه المجتمع الدولي إلى تحريم الحروب العدوانية التي تهدف إلى السيطرة والتوسع الإقليمي خصوصا منذ عهد عصبة الأمم 1919م الذي أكدت مادته العاشرة على احترام وضمان سلامة أقاليم الدول الأعضاء (1)، ومروراً بالاتفاقية العامة لنبذ الحروب كأداة للسيادة القومية والتي أبرمت في باريس 1928م وانتهاء بميثاق الأمم المتحدة الذي حظر استخدام القوة والتهديد باستخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة.
ولا يشترط القانون الدولي شكلاً معينا للاتفاق الحدودي الذي تبرمه الأطراف المعنية،وتنطبق الأحكام العامة للمعاهدات الدولية على ذلك الاتفاق” وفي الظروف العادية التي يتم فيها إبرام معاهدة دولية خاصة بالحدود فإن دراسات وأبحاثا ميدانية يجب أن تسبق التحديد لبحث المسائل الجغرافية والاجتماعية والقبلية والاقتصادية والثقافية والدينية الخاصة بالمنطقة المراد تحديد حدودها دون التحديد العشوائي الذي قد يجر عواقب وخيمة ويؤدي إلى تمزيق القبائل والعشائر.. ويقود إلى صراعات وحروب في المستقبل (2).
وقد عرفنا أن الجانبين السعودي واليمني دخلا في مفاوضات مباشرة ابتداء من يونيو 1926م حتى فبراير 1934 لكنهما فشلا في التوصل إلى الحل، فقد كان الطرف السعودي يتحرك على الأرض ثم يفاوض سعياً إلى إقرار المكاسب التي حققها، ولأن الجانب اليمني كان عاجزا عن إيقاف التوسع السعودي فقد اكتفى بعدم الاعتراف بالأمر الواقع وظل يرفض التوقيع على أية اتفاقية حدود لا تتضمن عودة عسير إلى السيادة اليمنية وحيث أصر كل طرف على موقفه كان بالإمكان عوض النزاع على هيئة تحكيم يشكلها الطرفان، وكانا بذلك سيقدمان نموذجا عربيا وإسلاميا رائعاً في حل المنازعات بطريقة أخوية سلمية، وكان ذلك واجبا عليهما لأن الشريعة الإسلامية تحرم قتل النفس، وترويع والآمنين والإفساد في الأرض، كما أن المواثيق الدولية توجب ذلك فقد سبق أن عرفنا أن السعودية وقعت على اتفاقية منع الحرب العدوانية المعروفة بميثاق باريس 1928م.
وللأسف الشديد لم يحدث ذلك فابن سعود آمن – كما يقول أحد المؤيدين لمسكنه – بأن مائدة المفاوضات الحقيقية ليست في صنعاء ولا في أبها ولا في غيرها بل ميدان القتال (2)
الفرع الثاني: حكم الإكراه في اتفاقيات الحدود الدولية اليمنية – السعودية: يعد الإكراه من العيوب التي تشوب المعاهدات الدولية بشكل عام، ويتخذ الإكراه إحدى صورتين (1):
* الصورة الأولى: الإكراه الواقع على شخص ممثل الدولة بغرض حمله على الموافقة على إيرام المعاهدة.
* الصورة الثانية: الإكراه الواقع على الدولة ذاتها بالتهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلا، ومن أمثلتها المعاهدة التي أبرمت في 1915م بين الصين واليابان والتي تنازلت الصين بمقتضاها عن منطقة شانتونج لليابان على إثر تهديد الأخير باحتلال الصين، ومثل هذه الحالة طبقها الملك عبدالعزيز تجاه اليمن بانتزاع نجران وجيزان وعسير والتهديد باحتلال اليمن ما لم يتم الخضوع للمطالب السعودية.
* وقد ترتب على تحريم الحرب كأداة للسيادة القومية أن المعاهدات الحدودية التي تبرم نتيجة استخدام القوة تعتبر معاهدات باطلة فلا شك أن الدولة التي تحتل أرضها كليا أو جزئيا تحرم من التعبير عن إرادتها الحرة لكى تصبح طرفا في معاهدة مع الدولة التي احتلتها.
* فالمنهزم ليس له خيار سوى قبول شروط المنتصر “فهو محصور بين سندان الهزيمة ومطرقة الخوف من الاستمرار في الحرب، أو رفض الشروط المذلة .. وهنا قد يواجه خسائر أفدح أو تدميراً كليا أو ضماً نهائياً” (2).
* وإذا كانت الحقبة الاستعمارية قد شهدت العديد من المعاهدات التي فرضها المستعمر على المستعمر فإن تلك الاتفاقات (الشكلية) الغيت جميعها بعد انتهاء الاستعمار وذلك أمر طبيعي لأن الإبقاء على الأوضاع الظالمة الناشئة عن معاهدات مبرمة تحت ضغط الإكراه لا يؤدي إلى استقرار العلاقات الدولية (3).
* وقد تضمنت اتفاقية لقانون المعاهدات 1968م مادة عن إكراه الدولة، وأثناء المناقشات أثيرت مسألة تطبيق المادة على المعاهدات التي أبرمت قبل توقيع الاتفاقية، وقد تقدمت مجموعة من الدول بتعديل نص المشروع بغرض عدم قصر تطبيق المادة على المعاهدات التي عقدت في ظل ميثاق الأمم المتحدة، وقد وافق المؤتمر على التعديل لأن الميثاق أكد ما استقر في عهد عصبة الأمم وميثاق باريس، وإذا كانت الاتفاقية قد نصت في المادة الرابعة على عدم رجعيتها إلا أنها اشترطت أن يتم ذلك دون الإخلال بقواعد القانون الدولي التي عقدت المعاهدات أثناء سريانها (1).
* وبرغم الخلاف الذي ثار حول ما إذا كان الضغط السياسي يعد إكراهاً مبطلاً للمعاهدات فإن الأمر الذي لا خلاف عليه بين الدول كبيرها وصغيرها ولا بين الفقهاء أن استعمال القوة المسلحة في صورة القوات البرية أو البحرية وغيرها أو التهديد بها من أجل الحصول على معاهدة، يجعلها باطلة(2) وغير شرعية، ومن خلال تتبع الأحداث والأحوال التي أعلنت خلالها معاهدة الطائف نجد أن صورتي الإكراه المبطلة للمعاهدات في القانون الدولي العام قد تحققت:
* تم إكراه الوفد اليمني المفاوض باحتجازه من قبل السلطات السعودية، فعندما رفض الوفد التوقيع على اتفاقية خاضعة لشروط السعودي. خلال محادثات “أبها” في فبراير 1934م. قامت القوات السعودية بشن هجوم بري واسع النطاق في الوقت الذي احتجزت فيه الوفد اليمني، وبعد أن أعلن الإمام رضوخه للشروط السعودية، صدر بلاغ من الخارجية السعودية في 18 مايو 1934م. جاء فيه “شرع وفد حكومة جلالة الملك في مفاوضات الصلح مع وفد سيادة الإمام يحيى، في جو مفعم بالتفاؤل، وقد تقدم الوفد “السعودي” بمشروع كامل لمعاهدة الصلح وما يتبعها من التفاصيل لتسوية العلاقات بين البلدين.
* وينتظر الفراغ منها في القريب العاجل (3) وبالفعل وقعت الاتفاقية في 20 مايو 1934م، إلا أنها ظلت سرية دون أن يعلن عنها رسمياً وذلك لأن الملك عبدالعزيز آل سعود كان لايزال مرتاباً في نوايا الإمام يحيى حينما بدا واضحاً أن الإمام غير راغب في أن يتخذ الخطوة الأخيرة أي موافقته ومصادقته على الاتفاقية، وهكذا يتضح أن الوفد اليمني لم يكن له أي دور، فالوفد السعودي هو الذي قام بوضع الاتفاقية وما يتبعها من التفاصيل، بينما الوفد اليمني محتجز لدى السعودية- وبلاده تتعرض للغزو والعدوان المسلح من قبل الحكومة السعودية – دون أن يكون له حرية التعبير عن إرادة حكومته.
* تم إكراه الدولة اليمنية عن طريق استخدام القوة والتهديد باحتلال المزيد بعد أن شنت السعودية الهجوم الشامل على الأراضي اليمنية، رضخ الإمام للمطالب السعودية لوقف الزحف السعودي عن مملكته ومن ثم الاستعداد والتجهيز لطرد الغزاة من أراضيه، إلا أن ابن سعود استغل الوضع الداخلي غير المستقر في اليمن واتباع المخطط البريطاني لمواجهة الإمام يحيى في المناطق الشمالية من أجل إشغاله عن مطالبته من خروج المستعمر البريطاني المحتل للأجزاء الجنوبية من اليمن، ولكن شروط ابن سعود القاسية على الإمام يحيى وضعت مدة زمنية قصيرة ومحددة لتنفيذ المطالب بحذافيرها المشار إليها سابقاً – كما صرح بأنه في حالة عدم تنفيذ كافة البنود الواردة في الاتفاقية فإن جيشه سيكون على أهبة الاستعداد للقتال من جديد(1).
* ومما يدل على حال الذعر والخوف التي سيطرت على الحكومة اليمنية آنذاك أن الإمام يحيى حاول أن يحتفظ بنجران عبر استجداء ابن سعود عندما قام بتحكيمه وحمله أمانة تقرير تبعية نجران. حقاً إن العادات والتقاليد العربية كانت تجعل العربي يتنازل عن حقه إذا ما حكمه خصمه، لكن ابن سعود كان قد استفاد من السياسة البريطانية التي لا تعرف مثل هذه الأخلاقيات، فرغم أنه كان يعرف أنه لاحق له البتة في نجران أو غيرها، وأن الإمام يستعطفه بهذا التحكيم فإنه لم يتردد في أن يحكم لنفسه بنجران وما حولها.
* ويبدو أن الإمام يحيى عندما طلب التحكيم من ابن سعود فما كان منه إلا مناورة وكسب وقت واستعداد للمواجهة، ولكن ابن سعود كان يتحرك على الأرض ثم يفاوض سعياً إلى إقرار المكاسب التي حققها.
* وقد جاء في نص المادة الرابعة من معاهدة الطائف 1934م وما ذكر من يام ونجران والحضن وزور وادعة وسائر من هو في نجران من وائلة فهو بناء على ماكان من تحكيم جلالة الإمام يحيى لجلالة الملك عبدالعزيز في يام والحكم من جلالة الملك عبدالعزيز بأن جميعها تتبع المملكة العربية السعودية، وهذا يعتبر أغرب تحكيم في العالم عندما قام صاحب الحق الثاني بتحكيم خصمه فيحكم لنفسه فهذا حكم باطل من أساسه ومخالف لكل القوانين السماوية والوضعية ومخالف للقوانين الجوهرية التي يقوم ميثاق الأمم المتحدة, وفي ضوء تلك الوقائع المادية، وبناء على مبادئ القانون الدولي فإن الحدود الواردة في المادة الرابعة من معاهدة الطائف تعتبر حدوداً باطلة لأنها فرضت بالإكراه فمنذ أن غير المجتمع الدولي من نظرتة إلى الحرب –عقب الحرب العالمية الأولى- وجعلها وسيلة مذمومة ومرفوضة لتحقيق السياسات الوطنية في العلاقات الخارجية وأن النصر لا يصنع القانون وأن السلام بواسطة القانون – لا الحرب- لجميع الأمم والشعوب هو الوسيلة المثلى للعيش, بدأت الجماعة الدولية تنفر من أساليب الضغط والإكراه في إبرام المعاهدات الدولية وتجعل هذه المعاهدات إن أبرمت بالعنف والتهديد باستخدامه باطلة بطلاناً مطلقاً (1).
* الفرع الثالث: أثر الموافقة اللاحقة على الاتفاقية المبرمة بالإكراه:
* أكدت لجنة القانون الدولي أن فقدان حق إثارة البطلان بسبب قبول الدولة صراحة أو بسلوكها السري في حالتي الإكراه والقواعد الآمرة, إذ يجب اعتبار المعاهدة باطلة وغير قانونية ورأت أن القول بخلاف ذلك سيضعف من الحماية المقررة لضحايا الإكراه.
* وهذا يؤكد أن كل ما هو غير طبيعي لا يبقى إلا في ظل أوضاع غير طبيعية، فكما أن معاهدة الطائف جاءت بعد حرب مباشرة شنتها السعودية على اليمن فإن التصريحات التي صدرت من الدولتين بتأكيدها جاءت بعد حرب دامية واجهتها اليمن وكانت السعودية طرفاً مباشراً فيها.
(1) عدنان عباس النقيب، تغيير السيادة الإقليمية وأثارها والقانون الدولي العام، رسالة دكتوراه، جامعة عين شمس: 1989، ص ،80 .
(2) أحمد أبو الوفاة، الوسيط القانون الدولي العام، مرجع سابق ، ص 222 .
1- حازم حسن جمعة: مرجع سابق، ص ص 88 – 89 2- علي إبراهيم، مرجع سابق، ص 39 .
3- فتوح عبدالمحسن الخترش، العلاقات اليمنية السعودية، مرجع سابق، ص 183 .
1 – أحمد أبو الوفاة، الوسيط في القانون الدولي، مرجع سابق ، ص 162 .
2 – المرجع السابق، ص 115 .
3 – عصام صادق رمضان، المعاهدات غير المتكافئة في القانون الدولي العام، رسالة دكتوراة، جامعة عين شمس، كلية الحقوق، قسم القانون الدولي العام، 1978، ص 355.
4 – المرجع السابق، ص353.
5 – فتوح الخارش، مرجع سابق، ص185.
6 – المرجع السابق، ص245-248.
7 – المرجع السابق، ص251.