تحقيق/ محمد محمد إبراهيم
mibrahim734777818@gmail.com
على أبواب الشتاء القـارس بعد سفر مضنٍ مع المعاناة والمآسي التي فرضها العدوان السعودي الغاشم، على كل ما هو لازم للحياة والوقاية من بؤسها وحرِّها وبَرْدِها وفقرها.. يجد النازحون اليمنيون اليوم أنفسهم على عتبات مرحلة جديدة من مآسي الحرب والدمار وفقدان الأهل والسكن, فماذا عن حجم ظاهرة النزوح؟ وماذا أعدَّت لها الجهات المختصة؟ وكيف تعامل المجتمع اليمني في المدن والحضر والأرياف والقرى مع النازحين؟ وما الدور المطلوب على المجتمع اليمني الأصيل في ظل هذه الظروف العصيبة؟ كل ذلك وأكثر تجدونه في سياق هذا التحقيق الذي من خلاله سنتابع إجابات هذه الأسئلة من واقع وحجم معضلة النزوح…إلى التفاصيل :
كان في تصوري وأنا أعد هذه المادة، وأنا في الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، أن هناك مخيمات رسمية لديها خدمات يتم إدارتها والإشراف عليها.. وفوجئت بإجابة المختص في مركز المعلومات بأن مخيمات كانت قد بدأت تتشكل في المزرق أو في عدن أو مأرب أو عمران منذ ما قبل العدوان جراء الحروب الداخلية، وكان أبرزها مخيم المزرق الذي كانت المنظمات الدولية قد وصلت إليه، لكن منذ الاستهداف الأول لمخيم المزرق في 30 مارس 2015م أي بعد أربعة أيام من العدوان السعوأمريكي، بدأت آلاف الأسر النزوح من المخيمات، التي كان من أشهرها مخيمات المزرق(1-2-3).
وفي تسلسل العمليات ضد مخيمات النزوح كانت المصادر الصحفية نقلت عن (بابلو ماركو) مدير برنامج الشرق الأوسط في منظمة أطباء بلا حدود أن 29 شخصاً وصلوا إلى المستشفى الذي تديره المنظمة في بلدة حرض المجاورة وكانوا قد فارقوا الحياة. وأضاف أن المستشفى استقبل 34 جريحاً، على الأقل بعد تعرض مخيم (المزرق1) في محافظة حجة شمال اليمن القريب من الحدود مع المملكة العربية السعودية للقصف، وكان هذا هو أول عملية ينفذها العدوان ضد مخيمات النازحين.. بعد ذلك أكدت المنظمة الدولية للهجرة أن الرقم ارتفع إلى 50 أو 60 قتيلاً، و250 جريحا مدنيا.
شتات النازحين
كانت هذه الهجمة هي الأولى على مخيمات النازحين جاءت بعد يوم واحد من تصريح عسيري بأنه سيتم استهداف تجمعات سكنية.. لتدفع بمئات الأسر إلى النزوح من المخيم إلى أماكن مجهولة معظمها حيث توزعوا على القرى والمدن والمناطق الجبلية، وما ضاعف معاناتهم وجعلهم في منأى عن الخدمات الصحية والغذائية، والتوعوية التي تقدمها الحكومة أو المنظمات الإنسانية الدولية.. بعد ذلك تم استهداف تجمعات سكنية وأهداف عسكرية ومدنية على الطرقات وعلى مداخل المدن, حيث بدأت تتكون مخيمات وتجمعات نازحين مختلفة في عدن أثناء الحرب فيها مع القاعدة وأثناء القصف عليها من قبل العدوان وتضررت المخيمات التي بدأت تتشكل في أكثر من محافظة جراء شمول العدوان لتنشأ بعدها مراكز إيواء في المدارس كبديل للمخيمات، خصوصاً بعد أن طالت الطائرات، مخيمات صغيرة كثيرة كان آخرها مخيم النازحين في مأرب، حيث شن طيران العدوان السعودي الغاشم يوم السبت 26/سبتمبر 2015م أربع غارات جوية استهدفت مخيم “نعم” للنازحين بمديرية صرواح محافظة مارب، ما أدى إلى استشهاد امرأة وإصابة عدد من النساء واحتراق المخيمات.
وهذا الاستهداف الـمُمَنْهج أدى إلى شتات النازحين، وأنهى فرص وصول المنظمات الداعمة والراعية لهم في ظل تفاقم الوضع المعيشي للمجتمع اليمني بشكل عام، حيث تشير مفوضية الأمم المتحدة للاجئين، وبرنامج الأغذية العالمي، أوتشا، ومنظمة الصحة العالمية، “اليونيسف” إلى أن 14.7 مليون شخص – نحو ثلثي سكان اليمن – بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن 13.1 مليون شخص – نحو نصف السكان – لا يحصلون على المياه الآمنة وخدمات الصرف الصحي، كما أن 10.6 مليون شخص لا يعرفون كيف سيحصلون على وجبتهم التالية، 8.6 مليون شخص لا يحصلون على الرعاية الصحية الأساسية، 840,000 طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، و334,000 نازح في مناطق مختلفة من البلاد.
أرقام تتضاعف
ومن يزور الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، سيلمس واقع مأساة النزوح الذي تشهده محافظات الجمهورية اليمنية، جراء الحرب الداخلية والعدوان الهمجي، حيث تشير جداول الأرقام التي ليست محدثة، أو متضمنة نزوح الشهرين الأخيرين، كما يبدو إلى أن ما يقارب الـ(400) ألف أسرة نازحة، تضم مليونين ونصف المليون نازح ونازحة من مختلف المحافظات، خلال الفترات الماضية التي شهدت الحرب والعدوان، فمن عدن نزح ما يقرب من (83,315) أسرة، تضم (513,676) نازحاً ونازحـــة، منهم (59,035) أسرة، تضم (393,508) فرداً نزحوا للداخل في المدارس والمباني الحكومية، وبعض المراكز التي تبرع بها القطاع الخاص، ومن تعز نزح (56,109) أسر تضم أكثر من (351,892) فرداً، منهم (300,585) نازحاً ونازحة داخلياً، ومن أمانة العاصمة نزح نحو (34,554) أسرة تضم (215,824) نازحاً منذ 26 مارس, حيث بدأ العدوان بقصف مطار صنعاء وعطان ونقم والحفا وغيرها وتنوع النزوح بين داخلي إلى المدارس والمراكز التي أعدتها أمانة العاصمة، وخارجي إلى القرى، كما استقبلت العاصمة أرقاماً مهولة من نازحي المحافظات الأخرى، حيث وصل النازحون إليها حسب تقديرات المنظمات المدنية إلى ما يقرب (150,000) أسرة من كل محافظات الجمهورية، ومعظم هذا النزوح غير مسجل في قوائم الوحدة التنفيذية نظرا لأن معظم الأسر أتت واستأجرت مساكن ودكاكين لا تليق بالسكن، وتعيش الكفاف والمعاناة, ورغم ذلك تأنف عن مسألة الناس.. غير أن الأسر النازحة إلى العاصمة والمقيدة في سجل الوحدة التنفيذية، وصلت نحو (16) ألف أسرة، توزعت على عدد من مدارس العاصمة التي تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، وعلى سبيل المثال مدرسة القدس بمديرية الوحدة التي كان يسكنها 40 أسرة ما يقارب من 120 شخصاً نزحوا من مناطقهم جراء قصف طيران العدوان السعودي على منطقتي فج عطان وجبل نقم ومدرسة نسيبة بنت كعب بمديرية معين التي يسكنها 28 أسرة أي 172 شخصاً نزحوا جراء قصف الطيران السعودي المعادي على مناطقهم وقراهم في محافظة صعدة، كما تحولت المساحات المفتوحة في بعض مداخل العاصمة إلى مخيمات عشوائية وخيم تكتظ بالأسر المعوزة.
وحسب مؤشرات الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بلغ النزوح الخارجي من صعدة ما يقرب (33,944) أسرة، تضم (230,961) نازحاً ونازحة، ومن أبين (28,155) نازحاً ونازحة، ومن لحج (22,023) أسرة ضمت (129,275) نازحاً ونازحة، ومن مديريات عمران نزح إلى مدارس مركز المحافظة حوالى (5000) أسرة نازحة أي (32,481) نازحاً ونازحة، في حين وفد إليها من صعدة وحجة ومارب والجوف، حوالى (23,381) أسرة، تضم (212,185) نازحاً ونازحة.. وبلغ النزوح إلى حجة(منها ومن محافظات أخرى) نحو (46,245) أسرة تضم (280,185) نازحاً ونازحة.
نزوح غير مسجّل
هذه بعض الأرقام التي توافرت لكنها ليست محدثة بسبب صعوبات وتحديات أزمة استمرار العدوان، رغم كل الجهود التي تبذلها الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، غير أن مدير مركز المعلومات مشرف غرفة الطوارئ بالوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين عبد الكريم الصلول أوضح أن هذه الأرقام لا تعكس بالضرورة الواقع, إذ لا زال النزوح جارياً جراء تداعيات العدوان على قرى ومدن ومحافظات الجمهورية خصوصا في صعدة وحجة ومارب والجوف وتعز والبيضاء وغيرها.. وهو ما يعني أن الأرقام ترتفع كل يوم وهناك عشرات الآلاف من الأسر النازحة لم يتم تقييدها ضمن سجلات مركز المعلومات بالوحدة التنفيذية، مؤكداً أن ما يقرب من (100,000) أسرة نازحة داخل صعدة في الكهوف والجروف بلا زاد ولا فراش في ظل هذا الشتاء، معظم هذه الأسر دُمِّرت بيوتهم بالكامل.. وكذلك الوضع في تعز، وفي حجة ومارب.
ولفت إلى أن إعصار تشابلا في سقطرى والمهرة والمكلا قد أضاف ما يقرب من (44000) أسرة نازحة، من المكلا و(20,000) أسرة نازحة من سقطرى، شردت هذه الأسر جراء هذه الكارثة الطبيعية, وأن هذه الأسر تحتاج إلى مساعدات وغذاء وإيواء.. ولم يعد النزوح يقتصر على مدينة معينة من مدن اليمن لقد شكل النزوح معضلة كبيرة في كل أنحاء اليمن.. بفعل شمول العدوان لكل الخارطة اليمنية.. غير أن حجم العدوان يختلف من محافظة إلى أخرى, فصعدة تعد الأولى التي دمر العدوان معظم قراها ومزارعها.
الأطفال هم من يأخذون الرقم الأكبر، ويتحملون العبء الأقسى من المعاناة، ابتداء من ضياع فرص الغذاء والسكن والأمن، والتعرض لصدمات البرد ولسعات الشمس، والفقر ونقص الغذاء, إضافة إلى ضياع فرص التعليم، وهذا ما نبهت إليه منظمة “اليونيسف” للطفولة والأمومة، التابعة للأمم المتحدة، موضحة أن الوضع الإنساني للأطفال في اليمن كارثي على الصعد الصحية والتعليمية والغذائية، وبعد أن وصلت أرقام المصابين بسوء التغذية إلى ما يقرب المليون طفل، بفعل تداعيات الحرب الداخلية والقصف الخارجي، التي ضاعفت أرقام الفقر والضياع وفقدان المسكن والمأمن.. كما تشير التقارير الأممية إلى أن ما نسبته 80% من اليمنيين يحتاجون إلى العون الإنساني، وتزداد حاجياتهم اليومية إلى تأمين الغذاء والدواء والمياه والصرف الصحي.
مضياف الصمود
رغم الوضع الخدمي المتدني في القرى والأرياف، إلا أنها شكلت وجهة النزوح الأهم خصوصاً من أبناء هذه القرى الذين غادروا المدن بعد سنوات من الهجرة على إثر العدوان الغاشم على المدن والمعسكرات والطرقات.. عادوا لتقاسم المعاناة مع الأهل والقربى بنفوس راضية، ودون أن يحسوا بغربة النزوح وبرده وحره، نظرا للدفء الاجتماعي الذي يجمعهم، بأهليهم “على الحاصل” كما يقول المثل الشعبي الأصيل.
ومهما طالت سنوات غربة البعض عن قراهم وأريافهم فقد أتت ظروف العودة الإجبارية كحادي سير إلى القرى التي يعتبرها جُــلّ اليمنيين، ملاذ ومنبع 75% من سكان اليمن.. فعلى مدى(15) سنة لم يعد على الراسني –الذي يعمل إدارياً تربوياً في مارب – إلى قريته التي غادرها مع زوجته وأطفاله الثلاثة الذين غدوا رجالاً اليوم، عاد إليها مؤمناً أن قريته- حيث مسقط رأسه في الجعفرية ريمة- هي الملاذ الأكثر أمناً بل وصموداً أمام عواصف الزمن.. حيث يؤكد على رغم مخاوفه من النزوح من بيته الذي يملكه في مأرب أن ما يخيفه، هو القصف الذي طال القرى أيضا ما يعني أنه ينتظر احتمالات النزوح إلى اماكن مجهولة كما هو حال إخوتنا في صعدة وحجة وكثير من المحافظات اليمنية.
تقاسم المعاناة مع الأهل والقُرْبـى بنفوس راضية يشكل مظهراً قيمياً أصيلاً قتل غربة النازحين إليها من كل المحافظات, حتى أولئك الذين نزحوا إلى قراهم وبرفقتهم مع أسرهم أسر أخرى من جيرانهم، معلنين دعوة راقية للمجتمع في المدن والأرياف، مضمونها: “متى سيتعاون الناس..؟ إذا لم يتعاونوا اليوماً تعاونوا اليوم في هذه الظروف الصعبة”.. إنها معادلة منطقية عكستها القرى والأرياف اليمنية وكثير من الأسر في المدن الكبرى كصنعاء والحديدة وإب وعمران ولحج والبيضاء وغيرها.. وهذا ما لفت إليه عدنان سيف – طالب جامعي من أبناء محافظة إب- مؤكداً أن محافظة إب عكست صورة أصيلة خلال الحرب التي دارت رحاها مع القاعدة في المحافظات الجنوبية وما رافقها من عدوان بربري نزح على إثره عشرات الآلاف من الأسر اليمنية في عدن وأبين والضالع ولحج إلى محافظة إب التي استقبلت الجميع ولم تزل حاضنة لهم خصوصاً في المناطق الريفية وعلى أطراف المدن في المحافظة.. ولم يشعر هؤلاء النازحون بأنهم غرباء أو ينقصهم شيء, فقد قدم المجتمع البسيط واجب الضيافة والإنقاذ في مختلف الخدمات رغم شحة الخدمات في تلك القرى والمناطق.
لا شيء يعبر عن أصالة الشعب اليمني أكثر من صموده أمام آلة القتل والعدوان, إذ ظل على حيويته ونشاطه المعتاد فلم تنهر قواه رغم شناعة القصف وعنفوانه وفتك السلاح الحديث الذي أكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أمريكا حوّلت اليمن إلى حقل تجارب واختبار لأحدث أسلحتها وعلى يد المملكة العربية السعودية وهو ما أكده الخبراء الأمريكيون أنفسهم.
تعــاون اجتماعي
هذا ما خطر ببالي وأنا خارج من الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين الذي تعج ساحاته بالنازحين الذين يبحثون على مساعدات غذائية، وإيوائية، غير أن معظمهم يؤكدون أنهم وجدوا في المجتمع اليمني رعاية واهتماماً أكثر خصوصا في القرى أكثر مما وجدوه من المنظمات المدنية التي تتزاحم طوال السنوات على أبواب أجهزة الدولة، ببرامج خدمية وصحيــة للمجتمع.. نائب رئيس الوحدة التنفيذية الأستاذ محمد حرمــل، أكد أيضا أن معظم النازحين اليمنيين يجهلون كيف يصلون إلى مراكز الإيواء أو الجهات المختصة بتسجيل وإيواء النازحين، وأن الوحدة التنفيذية عجزت عن الوصول إلى القرى وإلى النازحين في الجبال والكهوف خصوصاً في صعدة نظرا لاستمرار القصف وتفاقم أزمة المشتقات النفطية الخانقة بسبب الحصار المفروض على اليمن.. مشيداً بتفاعل المجتمعات المحلية في المناطق التي شهــدت تدفق النازحين.