فايز محيي الدين
الاستنطاق يحتاج إلى جُهد وفعل، والوقع أشد مرارة وأكثر احتياجاً لمواجهته، والمواجهة لا تكون بالتواري خلف المفردات الغائمة أو التراكيب الضبابية، وإن زعمنا أنها مفردات مُحلِّقَة وأحرفٌ مُجنِّحَة. لكن تجريد الواقع واستنطاقه لعكس مكامن الخلل فيه وعلاجها يحتاج تصريحاً ومكاشفة لا يحفل بها النص القصصي المُوغِل بالشعرية أو المفردات المُحلقة. ومن خلال نظرة خاطفة بعتبة النص/عنوان مجموعة القاصة أسماء عبدالعزيز نجده قد اشتملَ على فعل المضارع (تأسر) والذي يدل على الحركة والاستمرار، ناهيك عن دلالة ومعنى الأسر التي تشي بالقوة والسيطرة المطلقة. وبإضافة فعل الأسر في زمن المضارع للضمير الأنثوي يكون لبنية الكلمة التي هي في الأصل جملة كاملة من فعل وفاعل ومفعول به، دلالة أشد قوةً في تفانيها وروعتها، كون الأسر في الغالب لا يتم إلا بواسطة الرجال، لكن إنْ تم بواسطة المرأة فالانزياح يتجه نحو أسْرٍ من نوعٍ آخر لا تجيده سوى المرأة. وبالتالي فقد احتوى الفعل/الجملة انزياحاً مباشراً ذا دالَّةٍ واضحة وجميلة، تجدد في السياق ولا تبتعد كثيراً عن المألوف. وبهذا يصل المعنى لغالبية المتلقين دون تشويش. شبه الجملة في العنوان (كعادتها) والمكون من الجار والمجرور انزاح ليدل على الحدث والزمن معا. وذهبت دلالته لتؤكد للمتلقي ثبوت وتكرار فعل الأسر الذي يوازي الإغواء بحكم ارتباطه بالأُنثى. مجموعة (تأسره كعادتها) للقاصة أسماء عبدالعزيز والصادرة عن دار سندباد للنشر والتوزيع بالقاهرة بطبعتها الأولى2014م، والتي تقع في 78صفحة من القطع الصغير، حوت بين دفتيها 18 قصة قصيرة وأقصوصة. بدأتها بقصة (تأسره كعادتها) التي عنونت بها المجموعة، وهذه القصة تنقل تجربة واقعية لحياة العبث الذي يعيشه الكثير من مسئولي الدولة على امتداد المراحل الزمنية واختلاف الأنظمة المتعاقبة. ومن خلال أحداثها نجد أننا نقف أمام نصٍّ هادفٍ تعرف كاتبتُه ما تريد إيصالَه للمتلقي بوعيٍ تام. ويتبدى ذلك بنقدها لعتمة البالطو والنقاب لدى اليمنيات مقارنةً بجمال الأزياء لدى الأجنبيات اللاتي يظهرن كعرائس على الدوام، إلى جانب طبيعة الحياة اليومية التي تتسم لدى الأجنبيات بالرياضة والنشاط منذ الصباح الباكر. والأكثر إيلاماً أن تلك الفتاة اليمنية التي تتغطى بطبقات من العتمة تشبه طبقات قشور البصل هي في الأصل خريجة جامعة وتجيد اللغة الانجليزية ولديها ثقافة متنوعة، ومع ذلك لا تزال رهن عادات وتقاليد مجتمع يجعل منها أضحوكة حين تكون بجانب امرأة أجنبية. القصة تعري المسئول الذي يرفض أن تقبله الأجنبية أمام الناس فيما هو يختلي بها لشهرٍ كامل في قصره دون حسيب أو رقيب. وهنا تنقد التصنع الذي يبدو عليه غالبية المسئولين الذين يُظهرون عكس ما يفعلونه بواقعهم المتخم بالفساد. في قصتها الثانية (ممنوح للغاية) تنقل تجربة ربما استقتها من شخصية سمعت بها، لأنها تتطابق وكثير من الحالات، فضلاً عن دقة التصوير وحرارة الألفاظ والمعاني التي تجعلك تعيش المأساة بتفاصيلها وأبعادها، وكأنك تعيش أحداث فيلم سينمائي لمخرج عالمي محترف. ولا يسعك في خاتمتها إلا أن تطلق زفرةً حَرَّى رثاءً لخاتمة تلك العاشقة المجنونة التي تزوجت زوجها هذا الذي تعشقه بجنون بعد تجربة زواج سابقة خلفت منه طفلة ظلّت تمثل للعاشقة المجنونة لعنة في حياتها الغرامية مع زوجها الجديد الذي تهيم به حد الوله، وكلما نفرَ منها ترجع ذلك للصبية المسكينة التي تُذكِّره على الدوام بزواجها من آخر قبله. لتأتي الخاتمة صاعقة حين كانت العاشقة المهووسة ترقص في غرفتها، حين داهمتها إحدى نوباتها الجنونية، على إيقاع أنغامٍ عالية وطفلتها تطرق الباب بشدة بحثاً عن أكل، لتفتح لها أمها الباب بعد توالي طرقات الطفلة وطول مناداتها له فتبادر وتأخذ الطفلة وترميها لأقرب حائط وتتخلص من صوتٍ لطالما أزعجها. قصة مؤثرة وخاتمة قوية تترك لدى المتلقي أثرا. وهذا هو معيار النجاح الحقيقي لأي أديب. أما أن يظل يحاكي الأوهام ويطير في فضاءات ضبابية، فخيرٌ له أن يحتفظ بما يكتب لنفسه بدلاً من طباعته ونشره. ولعمري إنّ هذا هو الداء الذي ابتُليَ به الغالبية الساحقة من كُتَّاب القصة القصيرة، ليفسدوا بذلك منحى هذا الفن الأدبي الجميل، الذي كان يُعَد الأقرب إلى نفوس المتلقين، والأسرع تأثيراً بهم. فجاء من يقاربه من الشعر ليُخرِجَه عن مضمونه، ويصل به إلى درجة التماهي مع الشعر، فلا هو أصبح شعراً ولا هو احتفظ بأصله كنوع من أنواع السرد. ولهذا يحاول البعض أن يهرب من تصنيفات التسمية لفنون الأدب فيكتب على مجموعته (نصوص) هروباً من سهام النقاد، لأنه يعي قبل متلقيه أن ما كتبه لا ينتمي لأي فنٍّ من فنون الأدب. ومن الجميل أن أسماء عبدالعزيز لم تقع بعدُ بهذا الشَرَك الذي نصبَه الأدباءُ لأنفسِهم في إطارِ التفاخرِ بينهم في أيِّهم يأتي بنصٍّ أكثر تكثيفاً وأكثر تحليقا. لهذا يكاد الغالبية العظمى من المتلقين اليمنيين لا يعرفون مِن كُتَّاب القصة القصيرة سوى محمد عبدالولي وزيد مطيع دماج، مع أنهم قرأوا لغيرهما لكن لم يعلق في أذهانهم شيءٌ مما قرؤوه. وباستقراء بقية نصوص المجموعة يمكن القول أن لدى القاصة نَفَس روائي واضح الملامح من خلال استطرادها بالقص في سلاسة تامة وتسلسل الأحداث بانسياب يوحي بتدفق المفردات والتراكيب السردية التي لا تتأتي إلا لقاص موهوب يعرف ماذا يريد وما الذي يود إيصاله للمتلقي. ووفقاً لذلك أستطيع الجزم أن أسماء عبدالعزيز مشروع روائي سيكون له صيتٌ في قادم الأيام، ولكن هذا يعتمد على حسن اختيارها لمواضيعها وحبكتها بنفس سجيتها التي بدت عليها في هذه المجموعة دون تكلف أو محاولة اختيار مواضيع لا تلامس فيها وتراً أو تحس معها برغبة في عكسها بقالب أدبي. بمعنى أن لا تختار مواضيع فقط ليقال عنها متفردة أو أتت بما لم يستطعه الأوائلُ.
faiz444888@gmail.com