تحقيق/ عبدالله كمال
قد يبدو من السابق لأوانه الحديث عن مستقبل العلاقات اليمنية الخليجية، في خضم وضع كهذا الذي نمر به، إذ لا تزال طائرات التحالف تلقي بحممها في أرجاء متفرقة من بلادنا كل يوم، إلا أنه ومن باب الاستشراف لمستقبل هذه العلاقات، وعلى محك الحرب الظالمة، كان لنا هذا الاستطلاع مع عدد من المثقفين، لاستكشاف مستقبل هذه العلاقات، مع عمق ما تسببت به هذه الحرب من جراح، قد يكون من الصعب التغاضي عنها، أو تجاهلها.
لم تستثن صواريخ طيران التحالف منطقة من مناطق اليمن، كما أنها لم توفر دما على أساس الانتماء الحزبي أو المذهبي، فقد استهدفت اليمن عموما، الأرض والإنسان، في حرب جائرة لم تراعِ أياً من أخلاقيات الحروب، أو تلتزم بأي من المعاهدات الدولية التي تراعي وضع المدنيين والبنى التحتية المدنية، وحتى المواقع التراثية والتاريخية.. فكيف لنا أن ننظر إلى العلاقات المستقبلية، مع كل ما حدث ويحدث، على مدار الساعة!
المستقبل من يحدد
مستقبل اليمن يعد أولوية، ستتحدد من خلالها نوع العلاقة التي ستنشأ مع الجيران، وكذا الدول الشقيقة والصديقة، أي على المستوى الإقليمي والعالمي، وذلك المستقبل باعتباره المحدد الأساس، يجب على المثقف، كما على السياسي، كما على أي فرد من أفراد هذا الشعب، أن يسعى لصناعته، وفق ما تمليه الذات سواء الفردية أو الجمعية، فعلى أساس تلك الصورة التي سيصاغ بها مستقبل اليمن، ستنشأ علاقاته مع محيطه الإقليمي والعالمي، ذلك المستقبل الذي علينا جميعا أن نكون شركاء فاعلين في تشكيله..
يقول الشاعر والكاتب والصحفي، علي جاحز: المثقف والسياسي والإعلامي والحقوقي والمواطن العادي، كلهم هذه الأيام يقفون على مستوى عالٍ من الوعي بالاستحقاقات القادمة، وبما يجب أن يكون عليه مستقبل الوطن وعلاقاته مع الخارج، سيما الدول التي شاركت في العدوان. وقبل أن نستبق الأحداث، ونتحدث عن جزئية صغيرة في سياق كبير وكثير التفاصيل، يجب أن نناقش رؤية المثقف لمستقبل اليمن أولا، وهذه الرؤية هي التي ستحدد صيرورة التفاصيل اللاحقة، فحين تكون تلك الرؤية انهزامية، وترسم مستقبلا انهزاميا لليمن، وتضعه في حضن الوصاية والتدخلات والتبعية للعدوان، فإن مستقبل بقية التفاصيل ستنطلق من هذا التصور. أما إن كان المثقف يرى ويستقرئ مستقبل اليمن بكونه مستقبل انعتاق وحرية واستقلال وامتلاك للقرار، فسوف يحمل رؤية للتفاصيل تنسجم مع الرؤية العامة لمستقبل اليمن ككل.
ومن هذا المنطلق وبهذا المنطق، يضيف جاحز: يبقى الاستشراف للمستقبل جزءا من معركة الذات، ومحركا ودافعا لها، لتنصهر في المعركة الجمعية، التي تنصهر فيها الإرادة الفردية بالإرادة الجمعية، وبقدر ما تكون رؤيتك للمستقبل ثورية وتحررية، ستكون تحركاتك وتصرفاتك منطلقة من ذات الرؤية وباتجاه تحقيقها.
وبنوع من التخصيص بشأن مستقبل العلاقة الدولية اليمنية مع دول الخليج، يوجز جاحز رؤيته بقوله: دول الخليج وغيرها من الدول التي شاركت في العدوان على اليمن سوف تواجه يمنا مختلفا في المستقبل القريب، وستتحدد علاقات اليمن معها بناء على ما ستفرزه المرحلة من استحقاقات ونتائج، وحين يمتلك اليمن قراره وحريته واستقلاله، سيكون سهلاً أن يحدد نوع العلاقات، وعمقها، ومدى فاعليتها، وفق مصالحه العليا ومقتضيات قرار كهذا.
هل سننسى!
لم يكن ما أحدثته الحرب بالأمر الهين، تلك هي الحقيقة التي سيظل اليمنيون يتذكرونها بمرارة، فما شهده اليمن من دماء ودمار وقتل وتشريد، لا يمكن أن يمحي من الذاكرة الجمعية ببساطة، إلا أن العلاقات الدولية ستظل أمر مسلم به حين تضع الحرب أوزارها، ويبقى المهم في الأمر هو ذلك النوع من العلاقة التي ستنشأ..
يقول الشاعر والكاتب كمال البرتاني: هي علاقة الطفل الفقير، اليتيم لكن الممتلئ بالقيم، مع جيرانه المترفين، إنما الذين يملؤهم الخواء. برغم القرب جغرافيا، إلا أن مسافة البعد بيننا (نفسيا) تضاعفت بفعل ما خلفه العدوان من آلام ودمار، ولا يمكن للجروح أن تبرأ أو تندمل بمجرد التوصل لاتفاق سياسي، أو عند دفع تعويضات للضحايا والبدء في إعادة الإعمار. واهمٌ من يظن أن تعبيد طريق أو ترميم مستشفى بريالات الرياض أو دراهم أبوظبي، سيعبد الطريق إلى قلوب اليمنيين، أو يرمم الجسور الواهنة التي كانت تربطنا بممالك النفط. ولا أخفي أنه يستوي في ذلك الحكام والشعوب، التي تم تدجينها إلى درجة العجز عن الاحتجاج بأي طريقة ممكنة على قتل وتشريد وتجويع أبناء جلدتهم. وأظن أن الانتقام هو الموجه الأول لبوصلة المستقبل. صحيح أن الرغبة في الثأر شعور بدائي، لا مكان له في السياسة، لكنه سيتجلى في الأدب وفي الحياة العامة.
يردف البرتاني: هم يعلمون أن الأنين في كل بيت.. الدمار في كل مدينة وقرية.. ويتمنون أن ننسى. هل سننسى كل ذلك، حتى بعد عقدين أو ثلاثة؟ هل سينسى ذلك أبناؤنا؟! لا أظن. ولن يكون ثمة مجال لعلاقات طبيعية إلا بسقوط الأنظمة الوراثية في الخليج، وإعادة تشكيل الجزيرة العربية من جديد، وإعادة الاعتبار للتاريخ بزوال الطارئين عليه. أما من رأى في كل هذا الخراب مصلحة، فهو غير قادر على صياغة عقد جديد مع أنظمة الخليج، وليس أمامه إلا الاستمرار في أداء دور التابع الذليل. بيت واحد من الشعر، كفيل بالإجابة وقادر على اختصار كل ما قلته آنفا:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى *** وتبقى حزازات النفوس كما هي!!
عقدة التاريخ
لقد كان للتدخل السافر آثاره التي لا يمكن تجاهلها، في بنية العلاقات الدولية لليمن مع دول الخليج التي شاركت بفاعلية في العدوان على اليمن، حيث عمل ذلك التدخل على نسف جانب كبير من العلاقات التاريخية والثقة المتجذرة منذ زمن بعيد، بين اليمن والدول المشاركة، ما يعني أن العلاقات المستقبلية، لن تكون بذلك القدر الذي كانت عليه في السابق، بل ستتطلب جهدا كبيرا لإزاحة تلك الصورة الأشد قتامة التي انعكست في أذهان اليمنيين عموما، ناهيك عن ما سببته تلك الحرب من جراح لا أحد يستطيع الجزم بإمكانية تطبيبها في وقت قريب.
يقول الشاعر والأديب صادق الهبوب: تبدو الرؤية غائمة، غير واضحة المعالم، في ظل الانقسام الذي أحدثه العدوان، وعمل على تمزيق اليمن وزرع الفوضى في المناطق التي توغل فيها، وأعتقد إذا كان ولابد، ستكون علاقة مصالح ويشوبها التوجس والحذر، وخوف من الانتقام لما حدث ولو بعد حين، فالذي عمله تحالف الخليج ليس بالقليل، فقد أخرجوا كل ما لديهم من سموم ضد اليمن، وأعدو العدة منذ زمن لتدمير اليمن.
لقد أسرفوا في القتل والتدمير، واستغلوا ثراءهم في شراء مرتزقة من كل مكان، وأسقطوا من ذاكرتهم تأريخ اليمن، بما يمثله من حضارات سابقة ولاحقه.
نعم – يضيف الهبوب- إنها عقدة التاريخ فلو تمعنَّا أكثر، كم عمر دول الخليج مقارنة بعمر اليمن، فسنكتشف تلك العقدة، وإذا جاز لنا التعبير، فكل الجزيرة هي اليمن، وهم ينضوون تحت إبطيها.. لهذا لا يريدون لليمن أن تتنفس الهواء النقي الذي يتيح لها الانطلاق لتحقيق ذاتها، ويكون لها شخصيتها المستقلة.. فمن المستحيل أن تعود العلاقة كما كانت كأشقاء وجيران.
متغيرات وتحولات المرحلة
عادة ما تكون الشعوب ضحايا لحماقات الأنظمة الحاكمة، أي أن العلاقات الدولية في معظم حالاتها لا تنظر إلى مواقف الشعوب بتاتاً، وإنما تتعامل مع أنظمتها الحاكمة، ما يعني أن تلك المواقف التي تتشكل على ضوئها العلاقات بين الدول كثيرا ما تتحمل تبعاتها الشعوب، في حين أن لا مشكلة للشعوب عموما فيما بينها، وبذلك تبقى العلاقات بين الدول رهنا بمتغيرات وتحولات السلطات والأنظمة الحاكمة.
يقول الشاعر إبراهيم الهمداني: بالنسبة للأنظمة الحاكمة في الخليج العربي، فيبدو لي أنها ستتغير، وتكون مبنية على توجهات متناسبة مع متطلبات المرحلة، وستكون هناك علاقات وطيدة بين الشعوب الخليجية والشعب اليمني، وسيكون للشعب اليمني – في تصوري – امتيازات خاصة لديهم، أما بالنسبة للأنظمة الحاكمة، هنا وهناك، فلا أعتقد أن العلاقات ستتجاوز الدبلوماسية والبروتوكولات المتعارف عليها دوليا، في ضوء المستقبل الذي سيحدده اليمن لنفسه.
ويضيف الهمداني: لن يكون الريال هو ثمن الكرامة اليمنية، لكن العلاقات بين الشعوب أقوى من خصومات ومراهقة الحكام، ما بين الشعوب أقوى وأكبر وأوثق، وعليه فإني أتوقع قيام علاقات ممتازة جداً بين بلدان الخليج العربي واليمن سيما والمنطقة كلها تواجه موجة تغيرات يبدو أنها ستلقي بظلالها على كافة المستويات.
خارطة العلاقات جديدة
ما أفرزته الحرب من مآسٍ لا يزال الشعب اليمني يعيش تفاصيلها المؤلمة، كفيلة بإعادة النظر في نوع العلاقات اليمنية مع الدول المعتدية مستقبلاً، ذلك هو ما يذهب إليه
الشاعر وليد الحسام، عضو «الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان»، حيث يقول: اليمن كنظام سياسي يجب أن يمثل الشعب تماما في علاقته السياسية بالأنظمة الخارجية لا أن يختلف ليناسب الأمزجة الدبلوماسية، لقد عاشت اليمن منذ عقود، وربما عصور في ظل علاقات جيدة على المستوى الدولي. الاعتداء بالحرب على سيادة البلدان وعلى الشعوب لا ينتج إلا مستقبلا˝ مشحونا˝ بالحقد الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفكيك المجتمعات وقتل العلاقات، واليمن كدولة لابد أنها ستعيد رسم خارطة علاقتها المستقبلية مع الأنظمة الخليجية التي تحالفت مع نظام آل سعود في عدوانهم على اليمن .
ويضيف الحسام: مصلحة بلادنا من خلال علاقتها بدول الخليج أو غيرها يجب أن تكون في مقدمة التوجهات السياسية ، وشعبنا اليمني لا يرى في الشعوب الخليجية عدوا˝ له لكنه يحقد على الأنظمة الإجرامية الخليجية المشاركة في هذه الحرب التي مارست أبشع الجرائم، ولن يقبل الشعب بأي علاقة سياسية لبلدنا مع أنظمة الخليج المستنسخة من نظام العدو الصهيوني ، ولو تمت الإطاحة بنظام آل سعود مثلا فشعبنا سيكون أول المباركين والمساندين للشعب السعودي في الانعتاق من هذا النظام الرجعي المتخلف .
ويلخص الحسام مختتما حديثه: الخلاصة أننا لن نقبل بعلاقة يمنية مع نظام آل سعود المعتدي ولا أنظمة الخليج المتحالفة مع النظام السعودي في ارتكاب كل هذه الجرائم الضاربة في روح التاريخ اليمني ، كما أننا كشعب لا نرى حرجا˝ في صياغة علاقات شعبية _ بحكم التقارب الجغرافي _ بعيدا عن الاعتراف بدور السلطات السعودية والخليجية فقد تكون شعوبهم ليست راضية عن تلك الأنظمة الاستبدادية ولا راضية عن حرب الأنظمة وعدوانها على اليمن .