ثنائية التسامح والتعايش

قراءة في رواية (بخور عدني) للأديب علي المقري

فايز محيي الدين
في عملٍ أدبي سردي جميل يتناول الأديب علي المقري الحياة في عدن، بكافة جوانبها، إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها حتى رحيل الاستعمار البريطاني عن عدن أواخر عام 1967م، مُعطياً التسامح الديني والتعدد العِرقي في إطار التنوع الثقافي مجالاً واسعاً في فصول الرواية، ليعكس بجلاءٍ حقيقة مدينة عدن وطبعها المختلف في احتضانها لكل مَن يفدها ويعشقها ويخلص لها، رغم ارتفاع بعض الأصوات المناطقية التي تحاول أن تصطفي لنفسها صفة (العدني) فيما الحقيقة أن الكل فيها وافدون، وبالتالي فهي مدينة الجميع وملاذ كل مَن يتوق للحرية والعيش بعيداً عن الرؤى الضيقة.
الرواية صادرة عن دار الساقي ببيروت في طبعة أنيقة، وعدد صفحاتها صفحة335 من القطع المتوسط. وهي الرواية الرابعة للمقري بعد روايات: اليهودي الحالي، طعم أسود رائحة سوداء، حُرمة.
ومنذُ هجرَ علي المقري الشعر واتجه نحو الرواية بعد أن عملَ بينهما فاصلاً من خلال كتابيه: (العفيف..تغريدٌ خارج السرب) و (الخمر والنبيذ في الإسلام) استطاع المقري بحسٍ فريد وعقلٍ نبيه أن يختار لنفسه طريقاً مغايراً من خلال طرق مواضيع نادرة ومثيرة ومستفزة للذاكرة الجمعية والعقل العربي التراكمي الذي أصبح لديه الكثير من العادات الخاطئة بحُكم المُسلَّمات التي لا يجوز الخروج عليها أو نقاشها، فضلاً عن حرصه على أن تكون له بصمات في جبين الأدب العالمي من خلال شبكة علاقات واسعة استطاع بدماثة خلقه وما لديه من إبداع أن يبنيها لنفسه في الكثير من المحافل الأدبية عربياً ودولياً. الأمر الذي جعلَ رواياته تصل إلى أبعد مدى من بين كل الروائيين اليمنيين. وهذا لا يعني غمط الآخرين أو الشهادة له بالأفضلية المُطلَقة عليهم، بقدر ما هو اعتراف بالواقع الذي حققه الأديب علي المقري بكفاءة واقتدار.
(بخور عدني) من خلال العنوان، وهو عتبة النص، نستطيع القول أنه هو المعادل الموضوعي للحياة العدنية، وفي الوقت نفسه هو يشي بمدى الامتزاج الذي يتم بين هذه المدينة الجميلة وساكنيها وزائريها، كالبخور الذي يمتزج بكل فاصة في جسد ورئة وعقل وذهن وروح مَن يقرب منه ويعطر به جسده وملابسه.
الرواية أيضاً تلخص معاناة الحرب العالمية الثانية بالنسبة للأوربيين كما هي بالنسبة للعرب ولسكان مدينة عدن. فويلاتها لم تستثنِ أحدا، وشرها وصل لكل بيت في كل قطر من أقطار العالم بأسره. ولهذا فقد أحسن الروائي اختيار بطل روايته والذي هو شاب فرنسي يهرب من التجنيد الإجباري في فرنسا ويأتي ليلتحق بخاله التاجر في مدينة عدن، لكنه يصل إلى عدن ويعزف عن الذهاب لخاله ويتخذ لنفسه اسم (أي شي) ليعيش بعدها بهوية جديدة تدفعه للامتزاج مع المجتمع العدني آنذاك، الذي كان يحتضن جميع الأعراق والديانات والمذاهب بلا استثناء.
وقد سهل له (بطل الرواية) ذلك شخصيته المجهولة وحسن تعامله مع هذا المجتمع الذي وجد نفسه يحبه ويعشق كل تفاصيله. لكن الروائي يخفق – كما يبدو لي – في تركيب شخصية البطل الذي جعلَ منه لغزاً لم يفصح عنه حتى النهاية، ولا أتقن التشويق والإثارة بأسلوب يدفع المتلقي للجري معه خلف أحداث الرواية من أجل اكتشاف ذلك اللغز، بل كان يعمد كثيراً لإفساد ذلك من خلال الشرح والتساؤل عمن هو البطل وعلى لسان البطل، وهو ما بدا ممجوجاً وفجاً للغاية!! فكيف تضع لغزاً ثم تسعى لشرحه والاستفسار عنه على لسان صاحبه نفسه؟! لأن من غير المعقول أن يجهل المرءُ نفسَه وإن أنكر هويته وتخفى بشخصية أخرى لأجل ظرفٍ ما يحيط بحياته.
فالروائي يتحدث في البداية عن شخصية ميشيل الفرنسي الذي يعاني من عرج في إحدى قدميه وبالتالي يجوز له عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية والقتال في الحرب العالمية الثانية، ثم يحاول أن يصنع لغزاً بوصول ميشيل عدن وإنكار اسمه واتخاذ اسم (أي شي) بدلاً منه، زاعماً أنه قد يكون فرانسوا صديق ميشيل الذي كان صحيح الجسم وواجب عليه الالتحاق بجبهات القتال فأخذ التقارير الطبية لميشيل لينجو بها من التجنيد.
لكنه ينسى أنه لم يكن موفقاً في حبك فكرة اللغز منذ ما بعد بداية الرواية حين تسلق فرانسوا صديق ميشيل منزل ميشيل الأعرج واقتحمَ غرفته ليسرق تقريره الطبي عن عاهة العرج التي فيه لينجو من التجنيد، حيث رآه ميشيل قبل أن يتمكن من سرقته وناقشه في ذلك وأبدى له الرغبة في إعطائه التقرير لأنه (ميشيل) لا يريد أن يذهب لخاله في عدن فيعيره لأنه تخلى عن الدفاع عن وطنه رغم عاهته، ولأنه لا يرغب في فراق معشوقته (شانتال) التي هي بدورها معشوقة لفرانسوا أيضاً ولصديقهم الثالث فرانك، فيما يكتشف الشخص الذي وصل عدن بعد مراسلتها أن لها حبيباً رابعاً قد وقع معها في المحظور.
جزئية اللغز لم تكن موفقة البتة وكان بإمكان المقري الاكتفاء بشخصية ميشيل واتخاذه لاسم (أي شي) أيضاً بنفس الحجة المتمثلة بعدم الذهاب لخاله، والاستغناء عن ذلك الاستطراد الممل في نقاش صاحب اللغز لماهية نفسه، لأن بقاءه بالشخصية الخفية لم تضف للرواية شيئاً يُعتّد به بقدر ما أفسدتْ جوها الحميمي وتداعيات السرد حين كان يخرج الروائي عن مسارها ليناقش شخصية الشاب الفرنسي الذي أتى إلى عدن هارباً من جحيم الحرب. خاصة وأنّ جوهر الرواية هو الحديث عن عدن وتعدد الأعراق والديانات والمذاهب فيها وليس الشاب الفرنسي الذي وردت الحكاية على لسانه، وبالتالي فاللخبطة في (الشخصية اللغز) والشرح الممل لها كانَ الروائي في غنىً عنها.
بل كان بإمكان المقري أن يحبك الرواية وفقاً لهذا اللغز وبطريقة محكمة وعبر أحداث متنامية تدفع المتلقي للجري خلفه في محاولة منه لاكتشاف سر شخصية هذا الـ (أي شيْ) كما كان بإمكانه التخلي عن هذا اللغز لصالح المجتمع العدني وأحداثه المتشعبة والحراك السياسي الذي تم في تلك الفترة الزمنية التي تجري فيها أحداث الرواية. وبهذا كان سيصنع إثارة كبيرة للمتلقي ويحفزه لمواصلة القراءة لمعرفة الصورة الكاملة التي كانت عليها عدن في تلك الفترة، وخاصة صراعات ما بعد الجلاء التي لم يُعطِها حقها في التناول رغم أهميتها القصوى.
فقد تركَ أحداثاً جسيمة دارت في عدن إبان تلك الفترة وفي مقدمتها نشوء الحركات الوطنية المناهضة للإمامة في مدينة عدن مثل حركة الأحرار اليمنيين التي تزعمها النعمان والزبيري، وإن أشار إليها بحوالي سطرين، وكان بإمكانه من خلالها إثراء الرواية وإكمال الصورة الواقعية لما كانت عليه عدن حينها.
لكن يبدو أنَّ لديه رسالة يقصدها لنفسه ولتحقيق مآرب من خلالها بعيداً عن تجويد نصه أو عكس صورة المجتمع الذي يتناوله من خلال فترة محددة. وهذا يتضح من خلال تركيزه على المغنية شمعة اليهودية، ويعقوب اليهودي صاحب دكان اليهودي، وقضية ترحيل اليهود عقب تأسيس دولة الكيان الصهيوني عام 1948م في أرض فلسطين المغتصبة، خاصة وقد ناقش تلك القضية بإسهاب وإخلاص وتفصيل دقيق وأسلوب أدبي بديع يدفع المتلقي أيَّاً كان انتماؤه للتعاطف مع اليهود واعتبار رحيلهم عن اليمن مأساة وجريمة بحقهم.
وهذه كانت أهم رسالة يحاول النَّاص توصيلها للمتلقي خدمةً لنفسه، فيما جاءت رسالة التسامح والتعايش الذي كانت تتسم به مدينة عدن في الدرجة الثانية رغم الصراعات التي واكبتها. وليختم رسائله بالرسالة الثالثة التي من خلالها عكس طبيعة عدوى المناطقية التي تتفشى في عدن بين فينةٍ وأُخرى ثم تخفت لتعود للظهور من جديد. وفي هذه الرسالة ومن خلال أحداثها آنذاك يستطيع أن يقول المرء أنها نفس الأحداث والعدوى الحاصلة في عدن هذه الأيام.
وتظل الرواية رغم الهنات التي اعتورتها من خلال شخصية بطل الرواية والإسهاب الممل في شرح بعض المناسبات وتكرار ذلك، رواية فريدة ذات أسبقية من حيث أنها نقلت صورة تتطابق إلى أبعد حد مع الصورة الواقعية لعدن منتصف القرن العشرين الميلادي.
ولا ننسى إلى أن ننوِّه أنّ الدخلة التي بدأ بها المقري روايته كانت موفقة للغاية وجذابة من أول سطر، كذلك الخاتمة كانت موفقة لأبعد حد. وتعتبر هذه الرواية أنضج من سابقاتها من حيث امتلاك النَّاص لمقاليد السرد.

قد يعجبك ايضا