عن عار المجاعة في غزة وعمى الكوكب بأكمله!

خليل صويلح

 

نعيش عاراً جماعياً غير قابل للغفران أو النسيان! فالفرجة المجّانية على مجاعة غزّة، تتفوّق على ما عداها من فصول الجوع والتجويع تاريخياً.

العار بأننا نشهد هذه المذبحة على الهواء مباشرة بصمتٍ تام. ستطاردنا لعنة الصمت إلى الأبد، وكأن هذه الفرجة لا تخصّنا أو أنها خبر عاجل سيمحوه خبر عاجل آخر يتعلّق بمجزرة أخرى، أو طوفان، أو حريق، أو إبادة.

نحصي أرقام الموتى ونمضي إلى يومٍ آخر نحو شؤوننا العادية، وبأحسن الأحوال نختزن صورة ما من أرشيف المجاعة بوصفها صورتنا المؤثرة التي تبزّ صور الآخرين في سجالات المقاهي والمنصّات لجهة البربرية الإسرائيلية في ابتكار طبقات الموت.

أن تموت قبل أن يمتلئ وعاءك بالحساء المرّ، أو أن تتحوّل إلى هيكل عظمي يمشي على قدمين، كما في صورة شعاعية، أن تحصل على كيس طحين وقبل أن تصل إلى خيمتك تعاجلك قذيفة، أن تلتهم الأعشاب كما البهائم، أن تغمّس “الخبز الحافي” بالدم الذي يسيل من حولك.

جدارية ملطّخة بالعار الكوني والهمجية المنفلتة بلا معايير، لا نعلم كيف سيعالجها مؤرخو الغد بدقّة، وبأي حبرٍ سيجري تدوينها. يستغيث مراسل إحدى المحطات التلفزيونية من غزة “أنا أترنّح من الجوع، أرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة”، وهو يلتقط بعدسته حشرجات الجوعى، وولائم الموت الجماعي، ومقابر الأطفال، وأسرّة المستشفيات التي تحتشد بالجرحى.

أهوال وكوابيس لا تشبه ما قبلها في سجلّ الجوع منذ أول واقعة في التاريخ إلى اليوم. وكأن ما كتبه ابن كثير في “البداية والنهاية” واصفاً المجاعة التي ضربت بلاد الرافدين وفارس سنة 449 للهجرة، مجرد بروفة أولية لمشهد الجوع: “داهم بغداد وباء الطاعون، فمات أغلب الناس، حتى خلت الدور من ساكنيها.. وبعد بغداد، انتقل الجوع والوباء إلى بخارى، فمات في يوم واحد 18 ألف إنسان، ثم امتد الأمر إلى البصرة والأهواز، فصارت الأسواق والطرقات خالية، والأبواب مقفلة، فمات في تلك المحنة ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان، ثم امتد الجوع إلى أذربيجان، ثم الأحواز وصار الناس يأكلون القطط والكلاب حتى انقضت كلها، واشترك في ذلك الأغنياء والفقراء.. وفي الفترة نفسها تقريباً، يروي المؤرخ ابن الأثير في موسوعته “الكامل في التاريخ”، وقائع مجاعةً أصابت مصر بسبب انخفاض منسوب نهر النيل بقوله “صارت البيضة بسعر فدان، وبعد أن جاع الناس أكلوا الحمير والدواب، ثم القطط والكلاب حتى انقرضت، ثم صاروا يأكلون الجيف ..

في مجاعة غزّة، لا شأن للطوفان أو الجفاف أو سنوات المَحل، بما أصاب أهلها، إنما غرفة عمليات للإبادة العلنية، وتجريف البشر بأعتى أنواع الأسلحة المتطوّرة بما فيها قنبلة الجوع تلك التي تجفف أسباب الحياة بدفعات همجية فوق خشبة مسرح الجنون، حيث لا قيمة “لتوسلات نخاع العظم، وهمسات الدم، وجفاف الأمعاء”، حسب ما يقول كنوت هامسون في روايته “الجوع”، كما يستغيث محمد الماغوط قائلاً: “الجوع ينبض في أحشائي كالجنين”.

في كتابة الجوع لا يمكننا إنكار تجربة محمد شكري الذي عاش حياته متشرّداً في شوارع طنجة إلى أن كتب سيرته في “الخبز الحافي” موضحاً قيمة الخبز بقوله: “الخبز سرّ البقاء يعلّمنا الشجاعة وقهر الظلم، وفي الوقت نفسه غيابه يغرس في النفوس الذلّ والهوان، فما عاش بشر عزيزاً، إذا كان خبزه حافياً. الخبز يعلّمنا كيف نداعب أوتار الكمنجة والغيتار”.

لا فزعة لأهالي غزّة، إنما رايات منكسّة، وذلّ جماعي أصاب أمة النخوة والخيل والليل بالخرس. لا أحد يصرخ “الامبراطور يمشي عارياً”. حرب الخبز إذاً، ليست اختراعاً إسرائيلياً صرفاً. إذ تقع في صلب المشاريع الاستعمارية القديمة في تصدير المجاعات لمستعمراتها من الجزائر والصومال والسودان إلى الهند. لكن الاحتلال الإسرائيلي طوّر صناعة المجاعة كتاريخ دموي، وذلك عن طريق عقل شيطاني، وسقوط أخلاقي، مزجا الطحين بالرصاص كأقسى أنواع الإخضاع. أن تقف مهاناً أمام خبز الإغاثة المرّ على أمل ألّا تباغتك طائرة بصاروخ، أو أن تلجأ لطحن علف الحيوانات قبل أن ينفد.

يقول جورج أورويل الذي عمل مراسلاً حربياً في فترة من حياته: إن “الجوع ليس مجرد حالة بيولوجية تشعر الإنسان بالضعف بل هو أداة قمع سياسي، فعندما يتعرّض الإنسان للجوع يصبح عقله مهووساً بالحصول على لقمة العيش مما يمنعه من التفكير بالحرية أو الكرامة”، ويؤكد خوسيه ساراماغو الذي زار غزّة منذ سنوات “إن الفجور لا يكمن في الأفلام الإباحية بل في أن ثمة أناساً يموتون بيننا بسبب الجوع والحروب العبثية”.

ترى ماذا سيقول خوسيه ساراماغو ثانيةً، لو عاد إلى الحياة، وقد تضاعف عدّاد الموت والعنصرية والإبادة عشرات الأضعاف؟ وهل سيكتب نسخة جديدة من روايته “العمى”؟ على الأرجح، لن يكتفى هذه المرّة بمدينة واحدة أصابها العمى، بل الكوكب كلّه.

روائي وصحفي سوري

قد يعجبك ايضا