الخبز المحروق ¿!
جمال الظاهري
أحيانا ينتاب الواحد منا شعور يجعله خاملا فقط يراقب العالم يعيش معه بصمت لا يحدث ضجة ولا يترك أثرا يعيش أيامه متأملا.. يغوص في العمق ويستمر في الغوص والتأمل والاستغراق العميق دون أن ينطق بكلمة أو يدلي بما يفيد أو لا يفيد .. فقط تأمل وكفى¿! لا يزاحم استغراقه سوى كومة من الأسئلة الاستفهامية التي تبحث عن إجابة..
جميع اليمنيين يحلمون بواقع أفضل تسوده العدالة والكرامة والعيش بسلام, واقع يسوده الإخاء والمحبة والتسامح, مثل هذه المطالب ما كان أحد منا يتصور أنه سيضطر للخروج إلى الساحات للمطالبة بها!
بأي حق يتهم ويجرم الشعب أو جزء منه بناء على استنطاق نوايا وأهداف من رفعوا أصواتهم بمطالب حقه ووطنية وشرعية¿ هل صارت المطالبة بواقع يرفع من شأننا ويعلي قدرنا ويحسن معيشتنا كيمنيين, جريمة تستوجب العقاب¿! منذ متى صارت المطالبة بحياة كريمة ودوله حقيقية قوية لها استقلالية في القرار الوطني جريمة¿ منذ متى صارت تهمة الخيانة والعمالة توجه للشعوب¿ من هم أصحاب المصلحة الحقيقية وغاية كل نشاط وجهد رسمي أو شعبي¿
لماذا صارت المطالبة بالعدالة في زمننا قفزا على الواقع ودعوة تستوجب وأدها وذبح كل من ينادي بها !¿ لماذا نختلف حين يلزم الاتفاق ونتفق حين يلزم الاختلاف¿!
لا اعرف كيف يطيب لساستنا أن يتحدثوا عن المستقبل والحياة وهم يحفرون قبرها¿! .. تعبنا من شراء أوهامهم إننا نحلم بالواقعية التي ساقوها في أزقة ملتوية وحولوا حياتنا إلى ما يشبه متاهة أعدت ليلعب فيها الأطفال! .. نطالبهم بالمنطقي فيدفعوننا لنتبارى في خداع الذات وخداع الآخرين, حتى هؤلاء أفقدناهم القدرة على التمييز أو الفهم! حديثنا وأفعالنا متضاربة وتفاصيل أيامنا تكرر نفسها, تحول مسؤولينا إلى جدران مصمتة تصد الصرخات لتعيدها الينا كرجع صدى يتهادى منهكا نتيجة بعد المسافات بيننا وبينهم! إن المولى يعاقبنا لأننا تركنا القمم وانحدرنا نفتش عن بعضنا بعض في القيعان أقول ربما.
استنزفت طاقاتنا وجهودنا كشعب في متاهة البحث عن الرغيف, فيما علية القوم يصرفون عرقنا في البهرجة ومساحيق الزينة, وطقوس (البرستيج), وفي الأخير يطلعون علينا بوجوه مهرجين قبيحي المنظر, يشمخون علينا بأنوف حمراء متورمة من كثرة الدعك والدكم التي ينالونها من مديري الكواليس لأنهم فاشلون في أداء الأدوار البسيطة التي كلفوا بها.
نتباكى على الساعات والدقائق وننسى الأيام والشهور والسنين والعقود التي استدرجتنا للتنازل عن حقنا في تقرير مصيرنا وفي التخطيط لمستقبلنا وفق قدراتنا وبما يناسب طبعنا .. نتباكى على الماضي ونغرس صبارا شوكيا لأحفادنا كي يلعنونا كما نلعن من سبقنا¿!.
يبكوننا اليوم دما ويتباكون علينا, يلقون بتبعات السقوط على بعضنا حينا وعلينا كشعب أحيانا كثيرة هروبا من الإدانة ومن لعنات الأجيال القادمة, يذرفون الدموع ويمدون أيديهم في المحافل الدولية باسمنا وبلا حياء, كبرياؤنا صار يوزن ويباع بثمن بخس, حولوا شعبهم إلى بيادق يلعب ويتسلى بها من هب ودب, من يرمي إليهم ببقايا طعامه وثيابه, أذلتهم نفوسهم الجشعة واستوطنت أفئدتهم المهانة.
يصورون واقعنا (كبعبع) مهول يكشر عن أنيابه وفي نفس الوقت يتسابقون إلى تلميع هذه الأنياب كي تجهز علينا وتريحهم من رؤية كبريائنا, كي نركع ونستسلم لإرادة أسيادهم, يرتكبون الجرم ومن ثم يبدأون البحث عن المجرم, وكأن هذه هي البداية وهي كل الحكاية وكل التفاصيل وخاتمة الألم, دون أن يذكروا أو يسألوا عن البذرة ومن بذرها ومن سقاها ومن قطف ثمارها!
استمرأوا الغواية وشجعهم الصبر وطول البال لدى الشعب, لذا سيكررون فعالهم من جديد, سيمنون البسطاء بالخير ويبيعون لهم الأمل بخبز أبيض نقي من الشوائب, سيدعون إلى التسامح والبداية من جديد.. سيقولون عفا الله عما سلف .. سيقبلون رؤوس بعضهم بعضا.. وسيرفعون أيديهم ويقسمون بالولاء والإخلاص وهم يضمرون شيئا آخر يكرس ماضيهم من جديد¿!
المواطن اليمني بطبعه المتسامح سيقبل بالقليل ويتنازل عن الكثير – هم يعرفون ذلك- ستحدد مهامهم نفس (الخبازة) التي عجنت خبزهم المحروق بالأمس القريب, وسيدس الجميع في يدها خميرته كي يأتي الخبز حاملا جيناته وصفاته شكلا ومضمونا.
سيفاجأ الجميع بالنتيجة الهجينة التي ليس لها طعم ولا شكل ولا رائحة ولا هوية فيبدأ التذمر والنبش من جديد .. إنها محنتنا اعني (الخبازة) وحطبها وتنورها, وتلك الخميرة العفنة, وإن لم نكف عن أنانيتنا وحب الاستحواذ على كل شيء لن تقوم لليمن قائمة, وسنظل مراوحين في دائرة الماضي وسيظل الأبرياء يتساقطون إلى ما شاء الله.