فصل من سيرة لا تهم أحدا
عبدالمجيد التركي
ربما هو نوع من الإحساس بالغربة والتواجد في المكان الذي لا نريده..
في مراهقتي كنت أتحدث إلى نفسي بصوت مسموع وحين أرد على نفسي أكاد أغيöر صوتي… كأنني أتحدث إلى كائن آخر.. وحين بدأ صوتي يتغير بفعل الانتقال الى المراهقة أحسست بذلك الشخص الذي داخلي يطل من صوتي..
كنت شقيا في طفولتي وكأني كنت- بتلك الشقاوة- أحتج على وجودي في هذا الكوكب ليقيني حينها أنني على الكوكب الخطأ وأنني جئت في التوقيت الخطأ.. لم أكن متوائما مع المكان والزمان.. كأني غريب ولا أعرف أحدا.. أو كأني لست سوى ضيف طارئ طال مكوثه فأصبح يستثقل نفسه حين رأى أن لا أحد يوليه أدنى اهتمام أو التفاتة أو كأنه ملعقة ملح زائدة على مائدة الطعام حسب تعبير الصديق أحمد السلامي.
وحين كنت أرى الأطباق الفضائية في مسلسلات الأطفال يراودني شعور أنني أتيت ذات يوم على مركبة فضائية ولم أعد إلى حيث كنت!
كان ينتابني هذا الإحساس من قبل مشاهدتي لهذه المسلسلات وليس ناتجا عنها أو تأثرا بها.. لكني لم أكن أدري كيف وصلت إلى هنا وكنت أبحث عن تفسير لمجيئي إلى هذا الكوكب.
لم أكن أطمح أن أكون بطلا أسطوريا لكنني كنت أريد أن أكون الأفضل وأن أكون استثنائيا في زمن كل ما فيه اعتيادي.
كل أفراد أسرتي يشتغلون بالتجارة وكل أحاديثهم عن المال والربح والخسارة.. حاولوا أن يصنعوا مني تاجرا وفتحوا لي محلا تجاريا فلم أقدر أن أسجن نفسي بين أربعة جدران مليئة بالبضائع وأكياس الدقيق والقمح لأن القفص ليس مكانا مناسبا لأجنحة العصافير وغنائها.
***
كنت أخاف من الذهاب الى صلاة الجمعة بسبب الرعب الذي كان يبثه خطيب المسجد وهو يتحدث عن الأسياخ النارية ومنكر ونكير ويتحدث أيضا عن المطرقة الأسطورية التي تضرب الكذاب على رأسه في القبر فينزل في الأرض سبعين مترا ويصرخ صرخة لا تسمعها سوى الحيوانات أو الدواب حسب تعبيره.. ولأنني كنت كذابا كان يرعبني هذا السيناريو المخيف إلى حد أنني أضع يدي على رأسي حين أنام خوفا من تلك المطرقة.
***
ها أنا أجرجر خلفي 37 عاما من الهزائم والانكسارات.. وبعض ذكريات من الطفولة لا تصلح أن تكون ذكريات.. الدمى حافلة بالذكريات أكثر مني..
ليس هناك شيء يستحق الالتفات إليه في حياتي طيلة 37 عاما.. حياة اعتيادية رغم أني أراها مرعبة بيني وبين نفسي وما زلت مصرا على البقاء في مرحلة الطفولة.. ما زلت أحتفظ بدراجتي الصغيرة وجزء عم وبعض الملابس التي لا أصدق أنها كانت تتسع لي.. ما زلت أحتفظ بروشتة كتبها لي الطبيب وكم شعرت بالزهو حينها لأن يد الطبيب كانت أول يد أراها تكتب اسمي.. شعرت أنني مهم جدا وأن هناك من يقتطع من وقته 30 ثانية لكتابة اسمي.
حين شربت لأول مرة زجاجة كوكاكولا- كاملة- أحسست أنني رجل كبير وأن بإمكاني أن أتصرف كرجل راشد وكأن زجاجة البيبسي هي المعيار لدخول عالم الكبار.. وحين تمكنت من قيادة الدراجة لأول مرة كنت أوقن أنني قادر على تحريك الأرض بعجلة واحدة.
دخنت أول سيجارة في طفولتي لأنني مللت من التصرف كولد صغير ولأجرب معنى أن أكون رجلا.. وإلى الآن لم أصل إلى هذا المعنى البعيد.. فطويت سنوات كثيرة من البراءة بتدخين سيجارة واحدة بداخل المسجد الذي لم يكن به سوى ولد شقي وسيجارة راشدة وثالثهما الشيطان الذي ظننته العبد الصالح وهو يمد لي بالولاعة.
لم يكن الشيطان إلا أنا في سن متقدمة ولم يكن ذلك الطفل- الذي لم يجد مكانا أكثر أمانا من المسجد ليدخöن فيه عشر سنوات من البراءة- سواي.
لم يكن لدي ألعاب كثيرة فقد كانت كل ألعابنا مجانية.. نرسم في الشارع مربعات بالفحم لنتقافز بداخلها أو نصنع سيوفا خشبية لنحارب الكفار في الحارة المجاورة.. وكنت أنا الوحيد الذي أربط إحدى عيني بخرقة سوداء فقد كانت تستهويني فكرة أن أصبح قرصانا بعين واحدة وساق خشبية!!
الآن في السابعة والثلاثين وأشعر أنني كبيت قديم يتداعى.. نوافذ كثيرة لم تعد تنفتح بداخلي حتى باب بيتنا القديم الذي كنت أدفعه بيدي الصغيرتين ما زلت أحمله لكنه أصبح مغلقا ولم يعد يحتمل الدخول والخروج لأنه لم يعد قادرا على إصدار تلك الأصوات المرعبة التي كان جدي يسكتها بقليل من السمن البلدي وكأنه كان يضع نذورا لهذا الباب المسكون بأصوات كان يفشل في تقليدها.
أصبحنا نبتهج بالتهاني بعيد الميلاد حتى وإن كان المقابل سنة كاملة ندفعها للحصول على تهنئة فكيف نهنئ بعضنا بضياع سنة لنتقرب أكثر من الموت!!
الحياة ضرب من العبث ولذلك كنت أحفر اسمي على الصخور وكأنه تعويذة سيحميها من غوائل الكسارات ومطارق البنائين.. لكن