أثر النقـد في الثقافة (الحلقة الثانية)

بقلم : د. يوحنا م. سميث

 - من بين التأثيرات البريطانية الكثيرة التي ذكرناها على الدراسات الثقافية وعلى النقد الثقافي هناك مؤثران مبكران لم نذكرهما بعد أحدهما هو الدراسة الثورية للناقد
ترجمة: محمد عبـــد الواحد الكميـــم

من بين التأثيرات البريطانية الكثيرة التي ذكرناها على الدراسات الثقافية وعلى النقد الثقافي هناك مؤثران مبكران لم نذكرهما بعد أحدهما هو الدراسة الثورية للناقد الماركسي إي. بي. تومبسونE.P. Thompson والتي تتعرض للثورة الصناعية بتناول تأثيراتها على التوجهات الإنسانية وعلى الوعي كذلك. يبين تومبسون في دراسته كيف أن الرؤية الثقافية المشتركة- وتحديدا الرؤية المرتبطة بما يمنح المشروعية أو القيمة- تؤثر في سلوك العوام وتتسبب في نشأة سلوكيات جمعية.
المؤثر البريطاني المبكر الثاني- وربما الأعظم- على النقد الثقافي والدراسات الثقافية المعاصرين كان الراحل رايموند ويليامز. ففي أعمال من قبيل: الثورة الممتدة والثقافة والمجتمع: 1780- 1950. يوضح ويليامز أن الثقافة ليست شيئا ثابتا قد تم إنجازه بل هي بالأحرى شيء حي ودائم التغير. كما كان تطوير الثقافة الاجتماعية للعوام من التغييرات التي نادى بها. ومثله كمثل الماركسيين الذين كان يجادلهم ويتعاطف معهم في الوقت نفسه رأي ويليامز الثقافة في علاقتها بالأيديولوجيات وهو ما أطلق عليه: الطرق “المتبقية” أو “المهيمنة” أو ” المنبثقة” في رؤية العالم وهو ما يبدو محكوما بطبقات أو أفراد يملكون السلطة في زمرة اجتماعية معينة.
وخلافا لتومبسون وريتشارد هوجرت تجنب ويليامز التشديد على الطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي في مناقشته لتلك القوى التي كان لها التأثير الأقوى في تشكيل وتغيير الثقافة. وخلافا للماركسيين أيضا لم يتعامل قط مع “البنية الفوقية” للثقافة بوصفها “انعكاسا” بسيطا بدرجة أو بأخرى لـ “القاعدة” الاقتصادية.
لقد كان نزوع ويليامز هو التركيز على بشرية البشر على كيف يخبرون الشروط التي يجدون أنفسهم فيها ثم يستجيبون لهذه الشروط بصورة خلاقة في ممارساتهم الاجتماعية.
وانطلاقا من إيمانه بمرونة الفرد وبقدرته على التكيف أنتج ويليامز كيانا نقديا مميزا بـ”إنسانيته” مثلما وصفه هال.
وكما يتضح من الفقرات السابقة يصعب أن نفصل بصورة كاملة بين ظهور الدراسات الثقافية وتطورها في مراحلها الأولى وبين تطور الفكر الماركسي. بحيث يمكننا القول إن الماركسية- بمعنى من المعاني- هي الخلفية البعيدة لمعظم النقد الثقافي ولذا يرى بعض النقاد الثقافيين أنفسهم بوصفهم نقادا ماركسيين.
ومن الأفكار الماركسية التي يجب ذكرها في سياق الكلام عن تطور النقد الثقافي دراسات كل من والتر بينجامين و أنتونيو جرامشي و لوي ألتوسير وميخائيل باختين.
كان باختين ناقدا روسيا- وسوفيتيا بعد ذلك- شديد الإبداع في تفكيره وواسع التأثير لدرجة أن البعض ربما يقول إنه لم يكن ماركسيا على الإطلاق. لقد نظر إلى اللغة – وإلى النصوص الأدبية خاصة- من منظور الخطابات والحوارات بين تلك الخطابات. إذ يمكن ضمن رواية مكتوبة في ظل مجتمع متقلب أن يشمل السرد خطابا رسميا ذا مشروعية إضافة إلى خطاب آخر تسللت فيه تعليقات مناوئة وربما مناقضة للأولى.
وفي الكتاب الذي أصدره عام 1929 عن دوستويفسكي كما في دراسته الصادرة عام 1940 عن رابيلاس وعالمه يختبر باختين ما يطلق عليه الروايات “البوليفونية” polyphonic أو الروايات متعددة الأصوات والتي تتميز كل رواية منها بتعدد في الأصوات أو الخطابات. وفي أعمال دوستويفسكي تتعين الوضعية المستقلة لشخصية ما عن طريق اختلاف لغتها عن لغة الراوي (الذي يمكن لصوته هو أيضا أن يشترك في الحوار). وفي أعمال رابيلاس يجد باختين أن اللغة (التجديفية) profane language للكرنفال أو للاحتفالات الأخرى هي لغة مناوئة لأكثر الخطابات رسمية وهي لغة قضاة الكنيسة وساخرة منها.
لقد أثر باختين في النقد الثقافي المعاصر بما أوضحه من أن الصراع بين الثقافة “العليا” والثقافة “الدنيا” – في أحد أوجهه- لا يتبدى فقط في التناقض بين النصوص الكلاسيكية والنصوص الشعبية وإنما يتبدى كذلك في التناقضات بين الأصوات الحوارية التي توجد في كل الكتب العظيمة.
وفي أثناء الحقبة نفسها هاجم الماركسي الألماني والتر بنجامين أشكالا أدبية تقليدية ومحافظة لأنه شعر بالمناخ الفاسد المفرغ للثقافة. لقد تبوأ بنجامين هذا الموقع لأن الكثير من النقاد الماركسيين السابقين له وبعضهم من المعاصرين له مثل جورج لوكاتش بدوا وكأنهم أسرى إعجابهم بروايات القرن التاسع عشر الواقعية ومضادين لأعمال عصرهم الحداثية. لم يتوقف بنجامين عند تمجيد الحركات الحداثية لعصره مثل الدادية Dadaism ولكنه تطلع مؤملا نحو تطور أشكال فنية جديدة تستخدم التقنيات الميكانيكية الحديثة.

قد يعجبك ايضا