“الحصادي” في اندياح الفلسفة والأدب
صدام الشيباني
في الثلاثة العقود الماضية لمعت أسماء مجموعة من المفكرين العرب الذين كرسوا جهودهم لنقد المنظومة الفكرية والثقافية والسياسية , وقد خاض بعضهم سجالا حقيقيا مع أنواع السلطات المختلفة في مجتمعهم , حسب مظاهر القوة والهيمنة , واختلفت السلطات باختلاف النظم السياسية المهيمنة, منهم : محمود أمين العالم , وفرج فودة, وسيد قمني , والجابري وعلى حرب , وبلقزيز, وقسطنطين زريق, والعروي , وطه عبد الرحمن , وأبو بكر السقاف , وغيرهم . كانت الممارسة الناقدة للحياة العامة هي الهم الذي جمع هؤلاء , ليوحد الجهد في المنظومة الفكرية العربية , في الاشتغال على الثقافي الذي هيمن وفق رؤية أحادية على الثقافة العربية , حول هؤلاء الرؤى والمفاهيم الى إجراءات تلمس حياة المواطن اليومية , ومع ذلك هناك صراعا حقيقيا بين السلطة وهؤلاء على أقل تقدير عملت السلطات على إقصائهم وتهميشهم في الحياة العامة بالأساليب المتنوعة , والجميع يعرف ذلك . لكن أثار ذهنيتي أحد المفكرين العرب , وهو ليبي الولادة والنشأة ,وهو: نجيب المحجوب الحصادي , ويعرف ب: نجيب الحصادي , وهو أديب وفيلسوف ومترجم وباحث أكاديمي ينتمي الى البيئة المغربية في المستوى العام , وهو مفكر في قضايا تخص الثقافة العربية والاشتغال الفكري العربي المؤسسي , على أن نقد المعرفة هو التوجه الذي يغير مسارات الثقافة والمجتمع العربي من الداخل . لقد وقع بين يدي كتيب من إصدارات ( سلسلة الهلال العربي) ع3 , يوليو 2013م , عن دار الهلال , القاهرة , بعنوان ( نوستالجيا ) مقالات ودراسات ومراجعات , الجزء الثاني . ولم أستطع العثور على الجزء الأول , لكن من قراءتي للجزء الثاني لاحظت الطريقة الفكرية التي يعمل فيها هذه الفيلسوف , وهي كالآتي : الاختزالية : يختلف الحصادي عن بقية المفكرين العرب بالمنهج الاختزالي , وهو منهج قائم على التسلسل المعرفي , والتكثيف المعمق للمعلومة , وإيصالها بالطرق السهلة بعيدة عن الاستطراد والاستزادة غير الضرورية , فهو يقف على الفكرة أو الفكرتين ويناقشهما بأبسط صورة . وهو منطق رياضي بحث , لا يوحي لك بالجفاف , الذي يعانيه الكثير من المفكرين الذين ينطلقون من هذه المنهج , فأبسط صورة عنده الخلاصة اللغوية المختصرة للفكرة , وهي الأداة الفلسفية اليوم التي تتحكم في أنساق الكتابة في العالم . التعريفية : في هذا الإجراء الفكري يقف الحصادي على العلامة ( الكلمة) ويبحث عن اشتغالها الفكري في الثقافة , رابطا بعدها في العالمين الشرقي والغربي , فهو لا يقيم الحدود التعريفية كما يفعل الكثير . ويكتفي بما هو متداول من المفردة ليحولها الى مصطلح في مجال الاشتغال الفكري , ليكون لها التأثير المقصود من قبله , وهو في الغالب يأخذ المفردة من الهامش اللغوي , ومن ثم يضفي لها لمسات الحضور , ويبث فيها الروح من خلال تلبيسها بالمؤثرات الثقافية والنفسية والفكرية إذا اقتضى ذلك . مركزا على العادة الثقافية الشائعة ومنتقدا لها , كما في بعض العبارات الشائعة في لغة الإعلام (تقول مصادر مطلعة ) أو (يرى المختصون) كما في ص32 في حين أن الأمر ليس فيه أي اهتمام في توثيق المعلومة , وإن هذا الأسلوب الشائع في الكتابة في الكثير من المغالطات , والزيف والكذب على الرأي العام , ويمرر من خلاله مقاصد سياسية وثقافية قد لا يدركها القارئ . كما هي عادة الإعلام العربي . فلا يوجد مختصون ولا مصادر مطلعة أثناء كتابة الخبر . النسقية :يقف الحصادي على شروط الاختلاف في طرح الرؤية التي يراها مغايرة , بعد مناقشة الفكرة المركزية , كما في الحديث عن البحث العلمي , وأهمية العلم في العالم المعاصر , وربط نشوء العلم بالبيئات الثقافية , وتطور البحث العلمي , فقد ناقش النظرة الى البحث العلمي العربي في الجامعات العربية من تجربة التدريس في الجامعات (الإمارات العربية أو ليبيا )ورأى الاختلالات في الخطط والبرامج التي لا تتكئ الى البحث . وإنما الى تغطية المسافة الشاغرة في الجامعات , وهو بحث غير وظيفي . وبرزت النسقية بشكل ملحوظ في تقديمه لترجمة كتاب جدل التنوير لهوركهايمر , وأدورنو, ترجمة جورج كتورة , إذ وقف امام عبارات جديدة في الكتاب , ورصدها , بعد ان اخذها من سياقها التأليفي , ليحولها الى نسق جديد في الثقافة العربية , على أن هذه الأفكار قد تحدث تحولا في قراءة الثقافة , مثل ” كل نسق أخلاقي يوجب الامتثال للسلطة ” أو التاريخ البشري تاريخ تطور السيطرة المتماسكة على الطبيعة ” أو ” القناع الاقتصادي يشف عما تحته” ص69. وهذا يدل على القدرة في ضبط الأفكار وتحويلها الى أنساق جديدة في الثقافة . وما لاحظناه أن الحصادي يتحول الى نسق نقدي داخل الثقافة العربية بعيدا عن ضجة المراكز الثقافية في العالم العربي , بجانب النقاد الثقافيين , الذين اهتموا بشؤون الثقافة ونقدها , والأعمق في الأمر أنه ترك رطانة “الأكاديمية ” جانبا وكتب باللغة السهلة الممتنعة , موظفا اللغة وفق الحاجات اللازمة لها , دون إسهاب أو ملل , ففي كل سطر مع