دروز بلغراد رواية جحيم متخيل
• محمد الغربي عمران

الرواية الثانية التي أقرأها للروائي اللبناني ربيع جابر, بعد روايته الرائعة أميركا التي روى فيها بداية موجات المغتربين الشوام إلى العالم الجديد. ولربيع أكثر من أربع عشرة رواية .
(دروز بلغراد ,حكاية حنا يعقوب) الرواية الأحدث له ,وهي الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية , لدورة عام 2012. وقد صدرت عن دار الآداب بالاشتراك مع المركز الثقافي العربي.في طبعتها الثالثة.
الراوي أورد أكثر من عشرة مراجع اعتمد عليها في دراسة أحداث الفترة الزمنية التي عالجها في روايته من 1860 إلى 1872.
ثم إنه نوه في الصفحة السابعة من الرواية إلى أن الرواية من نسج الخيال, وإن أي تشابه بين أشخاص الرواية وأحداثها وأمكنتها مع أي كان فإن ذلك مجرد مصادفة.
الرواية في مجملها محاكمة للظلم والتسلط الإنساني ممثل بالسلطنة العثمانية ونظامها. لكنها ومعا نهاية الرواية لا تعني للقارئ ذلك. قد يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يقرأ كل تلك الفظاعات أن تلك الدولة متوحشة , إلا أني أرى بأن كل زمن له وجهه الحالك والبغيض وذلك نتاج تطور الوعي البشري, ولا يمكن اسقاط مفاهيمنا المعاصرة على أي زمن غابر, فوعي مجتمعات ذلك الزمان ومفاهيم نخبها للظلم والقسوة والعدالة والمساواة, يختلف عما يعيشه العقل البشري, وغدا سيقرأ أحفادنا مانعيشه اليوم متبرمين مما صنعناه من فظاعات من وجهة وعيهم.
رواية أشبه بملحمة تمجيد العنف والظلم تدور من بدايتها وبشكل لولبي تصاعدي في عمود يطول ويطول من الغبن والسحق والعسف.
فحين كانت الإمبراطورية العثمانية تمتد على مساحة فوق ثلاث قارات من أواسط أوروبا إلى كل شمال إفريقيا وأطراف الجزيرة العربية وبلاد الهلال الخصيب. يساق البشر وقود للحروب بين قارات العالم في سباق محموم للسيطرة علية وتقسيمه بين دول أوربا , ويبرر كل ذلك تحت شعارات التحديث والتنوير, كما هي اليوم شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية… الخ تلك الذرائع التي تبيح لهم استغفال الشعوب , بينما الأصل هي المصلحة والاستغلال .
حنا يعقوب بائع البيض المسلوق كان في المكان الصحيح والزمان الصحيح لإتمام صفقة ناجحة بين أب درزي يسعى لفك أسر أبنائه مقابل الكثير من المال, لكنه ينجح بالعودة بأحدهم ليقاد حنا بدلا عن ذلك الولد.
ويساق مع عشرات الدروز المتهمين بالاشتراك في قتال مسيحيي جبل لبنان , تحت ضغط فرنسي حلفاء مسيحيي الجبل, ويتغير أسمه من حنا يعقوب إلى سليمان عفار عز الدين.
ضربه الجنود واقتادوه إلى ظهر المركب لتكملة العدد الذي غادر ميناء بيروت ولم يتوقف إلى في أحد مدن الهرسك الساحلية, مخلفا هيلانة زوجته وطفلته الصغيرة بربارة,ليتعرف على خمسة أشقاء يحملون نفس اسم عفار عز الدين من دروز الجبل.
لم يكن ليتوقع أن يستمر نفيه اثنتى عشرة سنة وهو الذي لا يعرف لماذا ضربه العسكر في المينا ولا لما ينفى بعيدا عن مدينته , لتتوزع سنواته اثنتى عشرة بين سجون البوسنة والهرسك وبلغراد وحتى ضفاف الدانوب في قلعة الجبل الأسود ومقدونيا وهنغاريا.. هناك حيث يسخرونهم لرصف الطرق وبناء الأسوار المجابهة لمجتمعات في حروب دائمة مع الهلال العثماني, لم تكن الحياة طبيعية حيث كان الآلاف يحجزون في أقبية تحت الأرض لشهور , وعند أي عقاب يفصل المعاقب ليوضع في بئر أو أخاديد منقورة في باطن الأرض, ليموت البعض من الجوع أو العطش أو الاختناق , وأحيانا ينسوا بعضهم تحت الارض فينفق بعضهم ويجن البعض, وفي أحيان يساقون مقيدين جماعيا لتنفيذ أعمال البناء وتسوية الأرض أو رصف الطرق في طقس قاس بين عواصف الأمطار والثلوج فيتجمد منهم أعداد ويتركوا ليواجهوا موت الزمهرير.
أن يعيش رجلا في الأسر اثنتي عشرة سنة بدلا عن آخر ولا يستطيع أن يخبر ساجنيه فهذا غير منطقي, خاصة وأن الكتابي لم يكن مكلفا بحمل السلاح في نظام السلطنة العثمانية, أن يظل شخص يتأرجح بين الحياة والموت من شدة الطقس وقسوة المعاملة ونقص الغذاء ولا يفصح عن هويته , التي بمجرد الإفصاح عنها سيعاد إلى بلاده , ما ظل يلح علي ذلك السؤال إلا إذا كان أبكم وحنا لم يكن أبكم.أو أهبل لا يعي ما يعانيه.
من الناحية الموضوعية أراد الكاتب أن يعيش القارئ في زمن غير زماننا بأدوات غير منطقية ,صحيح أن أمما كثيرة قد مارست ما لا يتقبله عقل, لكن في موضوع هذه الرواية التي كرسها عن آخرها في ترديد تلك الفظاعات وتكرار وصفها حتى أن القارئ يبدأ برفض ذلك التكريس والتكرار , عذاب من أجل العذاب, فلا يوجد الدافع لكل ذلك العذاب خاصة بعد أن طالت سنوات النفي ولم يعد يعرف أحد ما هي تهمة حنا, بل في الأيام الأخيرة لم يعد أحد يعرف ما هي هويته , تعذيب وكأن أولئك الخلق زبانية جهنم , قدموا من صخور جوفاء لا يفهمون ولا يحبون أن يفهموا.بل يصل بك أن تتخيل ذلك المجتمع لا يعيش إلا ليعذب سواه.