مهن الأرياف حاضرة في المدن

لم أكن أتوقع يوماٍ أن انتظاري الطويل لتعبئة القليل من الماء سيقودني إلى عراك نسوي واسع أمام إحدى محطات تعبئة المياه.. وجدت نفسي داخل ذلك العراك أمام مرأى ومسمع جمع كبير من الناس.. انتظار طويل وطابور لا يكاد ينتهي وعراك وصياح.
بهذه الكلمات الأليمة تبدأ المعلمة سوسن أحمد قصتها مع أزمة المياه في العاصمة صنعاء.. سوسن والتي تعمل مدرسة بإحدى المدارس الحكومية وجدت نفسها مضطرة إلى ممارسة العديد من المهن الشاقة التي تمارس في الأرياف اليمنية وربما قد تكون انقرضت في بعض الأرياف لتجد نساء المدن أنفسهن مجبرات على ممارسة هذه الأعمال الشاقة المقترنة بالقرى وكأن الحياة قد عادت بهن إلى الماضي وإلى قديم الزمان..
لباس المدن ومهن الأرياف
حمل الحطب وجلب الماء على رؤوسهن وتجميع الكراتين وكل ما يساعد على الوقود.. في منظر غير مألوف في العاصمة اليمنية صنعاء تجد النساء والفتيات بعمر الزهور يخرجن يومياٍ وفي طابور طويل أمام محطات الماء أو بقرب أحد الوايتات «الخزانات» المليئة بالماء التي يتبرع بها بعض الميسورين.
يشدك المنظر هنا وهناك وانت تسير في شوارع وأحياء العاصمة صنعاء وترى أسراباٍ من النساء وقد وضعن الماء على رؤوسهن وأخريات محملات بالحطب والقش يخيل للناظر بأنه في إحدى القرى النائية ولكن سرعان ما يتبدد ذلك عندما يرى شوارع العاصمة الواسعة والنساء والفتيات يرتدين الحجاب وليس زي القرى.
العدوان السعودي المستمر
الأزمة الراهنة والحصار المفروض على الشعب اليمني منذ ستة أشهر والعدوان السعودي المستمر على البلاد أدى إلى انعدام المشتقات النفطية مما أثر على الحياة الاجتماعية بشكل كامل وخاصة المرأة والتي وجدت نفسها أمام تحديات كبيرة مما جعلها مجبرة على ممارسة مهن كانت تختص بالأرياف كتعبئة الماء وجلب الحطب في ظل آمال كبيرة بداخلهن أن تمر الأزمة وتعود الحياة إلى طبيعتها وتنعم اليمن بالأمن والاستقرار.
جمع الحطب
ماريا حسن 17 عاماٍ قالت إنه بعد توقيف الدارسة والتعليم لم يعد امامها سوى ان تذهب مع والدتها لتجميع الحطب من بعض المناطق المجاورة لمنزلهم في منطقة شملان حتى يستعينوا به في طهي الطعام وخاصة أنه لا تتوفر لديهم قيمة «دبة غاز» والتي ارتفع ثمنها بالإضافة إلى انهم لا يملكون قيمتها فوالدها قد توفي وليس لديهم عائل سوى والدتها التي تقوم ببيع بعض أنواع الخبز.
وتضيف ماريا: احس وكأني أعيش في قرية فلم نمر بهذه الظروف من قبل وما كنت اعتقد أني سأترك المدرسة وأحمل الحطب على رأسي فكل همي في السابق استذكار دروسي والتفوق في المدرسة ولكن مع مرور بلادنا بهذه الأزمة وجدت نفسي مضطرة إلى الوقوف بجانب والدتي التي تعمل طوال الوقت لتوفير ما أمكن من احتياجاتنا أنا واخوتي الصغار ووجدت نفسي أذهب بكل رضا واقتناع لأجمع الحطب والكراتين وكل ما ينفع للوقود حتى يتسنى لأمي صناعة الخبز ثم بيعه.
مواقف طريفة
العديد من المواقف الطريفة تصاحب النساء أثناء ذهابهن للحصول على الماء أو البحث عن الحطب حيث تقول أم حسان إنها تذهب باكراٍ كل صباح لجلب الماء لأطفالها ولا تعود إلا في وقت الظهيرة وأنها تقضي وقتها في طابور الانتظار مع نساء جيرانها اللاتي لم يكن يلتقين أبداٍ من قبل بسبب الانشغال وذهاب البعض منهن إلى وظائفهن ولكن الآن على غير العادة فهن يقضين وقتاٍ طويلاٍ معاٍ ويتبادلن الحديث والدعاء للبلاد وتضيف أم حسان: المضحك في الأمر أننا نعود ونحن نحمل دبات المياه على رؤوسنا ومنا من يتعثرن في الطريق لعدم التعود على حمل الماء بهذه الطريقة.
أما الحاجة فاطمة وهي في العقد الخامس من عمرها فقالت إنها ذات صباح انتظرت طويلاٍ إلى أن جاء دورها ثم قطعت مسافة طويلة وهي تجر عربتها المليئة بدبات الماء وبعد أن شارفت على الوصول إلى منزلها تعثرت وسقطت هي وعربتها والماء وذهب كل تعبها هباء.
وأخرى قالت إنها قامت بشراء كمية كبيرة من الحطب وجمعته على رأسها كما كانت تفعل بالسابق في قريتها ولكنها عند وصولوها إلى المنزل لم تجد غير شيء بسيط من الحطب فقد تساقط عليها طوال الطريق دون علمها.
ويصاحب التجمع أمام محطات تعبئة الماء الكثير من الشغب والعراك والصياح وقد تجد المرأة نفسها داخل العراك ومشاركة فيه كما حصل لأم فهد والتي انتهت من تعبئة الماء ثم وجدت خلفها امرأة فاقدة الذاكرة ما لبثت أن ضربتها وطرحتها أرضاٍ وأخذ كل ما بحوزتها من ماء عنوة.
تحديات وآمال
آمال كبيرة تحملها قلوب كثير من الأمهات اللاتي يحاولن توفير لقمة العيش لأطفالهن وخصوصاٍ أنهم حرموا من التعليم وضاعت أبسط حقوقهم في مهب الريح ويوماٍ بعد يوم يسلب العدوان والقصف المستمر فوقهم أمنهم واستقرارهم.
تطلعات نحو القادم هذا ما تنتظره نساء اليمن عامة وخاصة من طالت الحرب مناطقهن أو فقدن أبناءهن أو أزواجهن ولم يعد لديهن من يتحمل مسؤولية الأسرة والمنزل ليجدن أنفسهن وحيدات في مصارعة أعباء الزمن والحرب والصراعات.. تقول نجاة يحيى سالم صديق من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل: إن النساء في المدن اليمنية اضطرتهن صعوبة الحياة إلى القيام بكثير من الأعمال الشاقة والتي لم يعتدن على القيام بها نظراٍ لطبيعة المدن اليمنية ولكن مع أزمة المشتقات النفطية بسبب الحصار والعدوان المفروض على الشعب اليمني وجدت النساء أمامهن طرقاٍ وعرة وصعبة جداٍ ولم يعد يتوفر لهن كل شيء بتلك السهولة فقمن بصناعة الخبر على الطريقة القديمة بالحطب والتوقيد بدلاٍ عن التنور والأفران كذلك عليهن إحضار الماء من مناطق بعيدة فمشاريع المياه في المدن لم تعد متوفرة وشراء الوايتات المليئة بالماء صعب جداٍ في مثل هذه الظروف فما على المرأة إلا أن تقوم هي وفتياتها بالذهاب يومياٍ لتوفير وجلب الماء من المحطات وخاصة النساء اللاتي لا يوجد لديهن عائل أو زوج يساعدهن في ذلك.
وتؤكد نجاة صديق أن النساء جميعاٍ يأملن أن تنفرج هذه الأزمة عن الشعب اليمني ويرفع الحصار وتنتهي مأساتهن ويعم الأمن والسلام كل ارجاء اليمن.

قد يعجبك ايضا