مراراٍ عديدة وأنا أزور مدينة عدن ثغر اليمن الباسم, وفي كْل مرةُ أرمْقْ قلعة صيرة عن بْعد, ولم يتسنِ لي زيارتها إلا مؤخراٍ قبل أشهْر من اندلاع الحرب الظالمة للعدوان السعودي ومرتزقته وأذنابه على بلادنا الحبيبة اليمن.. رغم الزيارات المتتالية لعدن والقراءات المتكررة عن هذه القلعة الحصينة التي لاتزال تمثلْ مفخرةٍ لكل اليمنيين الذين يفاخرون بهذا البناء الشامخ الذي يحكي حقبةٍ من تاريخ اليمن المشرق, وصفحة ناصعةٍ لا تزال ماثلةٍ للعيان على رغم السنين الطوال منذ تأسيس هذا المِعúلِم التاريخي الهام.
في هذه المرِة وأنا أجلس على ضفاف ساحل أبين بمنطقة خور مكسر بمدينة عدن تراءت لي قلعة صيرة فاتنة ساحرة, فما كان مني إلا أنú عزمتْ الصعود إليها تسبقني أشواقي ومعلوماتي السابقة التي كانت تدفعني بشدة نحو هذا الأسد الرابض على تلة جزيرة صيرة, وإنú لم تِعْدú تسميتها بالجزيرة تنطبق على واقع الحال بعد الردم الذي ألصق جزيرة صيرة بساحل منطقة حْقِات المواجه لها من جهة مدينة عدن الأصلية أو القديمة التي سْميِتú منذْ عهد الاحتلال البريطاني بمدينة كريتر التي تعني فوهة البركان نتيجة شدة الحرارة فيها مقارنةٍ ببقية مناطق محافظة عدن الحالية. والعامة يطلقون عليها تسمية عدن الكبرى تمييزاٍ لها عن بقية المناطق وبالذات مدينة البريقة التي تْسمى عدن الصغرى.
حين قطعتْ سوق السمك بساحل حْقِات مْتجهاٍ نحو أسفل جبل صيرة لم أكنú أعرف أني سأرى ذلك الكم من الزخم التاريخي الذي كنتْ وإياهْ على موعدُ أعلا جبل جزيرة صيرة, حيثْ تنتصب تلك القلعة المهيبة.
في بداية الجبل أسعدني مارأيتْ من عملية الترميم للطريق المؤدية إلى القلعة والتي أْنجزتú بشكل جميل, وإنú كان لا يتطابق مع الطريق القديم للقلعة. وأعمال الصيانة لا تزال غائبة عن بقية مرافق القلعة التي هي بأمس الحاجة اليوم إلى إعادة تأهيلها تأهيلاٍ كاملاٍ باعتبارها واجهة مدينة عدن السياحية, وأهم معالمها التاريخية إلى جانب الصهاريج.
القلعة تتميز ببوابة بْنيِتú على نفس النمط الأوربي, بحيث لايمكن الولوج إليها إلا بواسطة الحبال التي تتدلى فتهبط الأخشاب للمرور عليها, وحين تْسحبْ الحبال ترتفع الأخشاب فلا يستطيع أحد الدخول إلى القلعة الحصينة بموقعها ونمط بنائها الفريد.
وبالعودة للمصادر التاريخية نجد أن قلعة صيرة تْعدْ أبرز قلاع وحصون مدينة عدن القديمة, وقد لعبت دوراٍ دفاعياٍ في حياة المدينة حيث تشكلت من خلالها التحصينات الدفاعية في الجبل وتم صد الكثير من الهجمات والغزوات التي سعت للسيطرة على المدينة حتى صارت رمزاٍ للصمود أمام هجمات الغزاة الطامعين في السيطرة على الميناء. كان آخرها معركة التصدي التي قام بها سكان عدن في الدفاع عن المدينة بأسلحتهم المتواضعة في وجه الاحتلال البريطاني في 19 يناير 1839م أثناء غزوة القبطان هينس لمدينة عدن بعد حادثة نهب السفينة البريطانية التابعة لشركة الهند الشرقية التي اتخذتها بريطانيا ذريعة لغزو عدن والاستيلاء عليها.
وبالاعتماد على بعض الشواهد والمصادر التاريخية ومقارنتها والدراسة المتأنية لها يمكن أن نصل قدر الإمكان إلى تحديد زمن بناء القلعة والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يكون بناؤها مرتبطاٍ ارتباطاٍ وثيقاٍ بنشوء وتطور الميناء والذي لا يمكن أن يتطور ويذيع صيته كأهم ثلاثة موانئ في العالم القديم إن لم يكن أهمها – كما ذكرت ذلك الكتب اليونانية والرومانية القديمة – دون أن يكون لها حماية (قلعة) وتحصين تطرز بها الجبال المطلة على هذا الميناء.
من خلال هذا يتبيِن لنا أنه كان هناك منذ الزمن القديم حصن تاريخي فوق جبل صيرة وهناك من الطامعين والغزاة من قام بتوسعتها وآخر قام بتخريبها ومن سعى لإعادة ترميمها وإصلاحها وهكذا دواليك. أما الغرض من إنشاء القلعة إضافة إلى موقعها الاستراتيجي الذي يتحكم في ميناء عدن القديم فقد كان عسكرياٍ بحتاٍ وذلك من أجل الدفاع عن المدينة ويدل على ذلك مواقع عدد المدافعين عنها وانتشارهم في حجراتها المتعددة ووجود المتاريس المنتشرة فيها لتنفتح غالبيتها على البحر.
وقد أكدت الكتابات التراثية – حينها – على أهمية القلعة عند وصفها للجبل حيث تشير إن في ذروته حصناٍ قديماٍ فيه رتبة عسكرية وبئر. وعلى الرغم من هذا الوصف المقتضب إلا انه يوحي بأنه قديم وله مهمة عسكرية لحراسة المدينة والدفاع على مينائها..وهذا ما أكدته الكتابات الأجنبية حينها بأنه توجد على جبل صيرة قلعة وحامية كلاهما قوي منيع. وعلى الرغم من شحة وصمت المصادر اليمنية والأجنبية عن ذكر دور قلعة صيرة العسكري قديماٍ وهي وإنú تجسدتú فاعليتها بانتشار استعمال المدافع في العهود الوسيطة إلا أنه من المنطقي أن يكون لها دور لا يستهان به قبل استعمال المدفع من خلال الدفاع بالحجارة والمنجنيقات ورمي السهام فهذه الوسائل الدفاعية المبكرة يمكنها رد أي غزوة على المدينة من هذا الجانب إذا اتخذت الدولة الحيطة والاستعداد.
حين وصلتْ مبنى القلعة الرئيسي أذهلني روعة المنظر للبحر ولمدينة عدن التاريخية من الأغلى فقد بدا البحر متسعاٍ للغاية من الجهة الجنوبية والجهة الشرقية بمحاذاة ساحل أبين وخور مكسر فيما تراءتú شواطئ حْقات وجبالها كأجمل لوحة فنية صاغها فنان ماهر لكن الصورة الأكثر إدهاشاٍ حين دنا الليل وبانتú أنوار مدينة عدن وخور مكسر وعدن مول وبقية المتنزهات المنتشرة على الشاطئ. لقد بدتú كلوحة ساحرة لا يمكن للأبصار مقاومة جمالها والافتتان بها.
دنا الليلْ لكني آثرتْ البقاء على سطح القلعة للاستمتاع بتلك اللوحات البديعة بعد أنú استأنستْ ببعض الشباب والعْشاق الذين كانوا يتناجون على ضوء الشفق في حالة سْكرُ تجعلهم لا يشعرون بمِن حولهم.
وبقدر ما آنسوني بقدر ما بعثوا فيِ الشجن ولواعج القلب الذي يحن لكل لحظة عشقُ صافُ لا يشوبها أي تعكير.
قبل أنú يبادر الشباب بالنزول كنتْ قد آثرتْ أنú أسبقهم لأعطيهم فسحةٍ من الوقت لقضاء لحظات في ملكوت العشق النقي على مشارف مدينة العشق والجمال.. لحظات لا يكون فيها سوى الهدوء ونْسيماتْ البحر وسماءَ صافية تقترب لتحتضنهم برفقُ ومحبة.
نزلتْ من القلعة عائداٍ نحو مدينة عدن وأنا أردد في ذاتي: ستبقى قلعة صيرة خير شاهد على عظمة الآباء والأجداد الذين شادوا مثل هذا الصرح التاريخي الشامخ الذي لايزال يناطح السْحب بأِنِفِةُ وشموخ رغم العْمر المديد. وستبقى رمزاٍ لكل البطولات والتضحيات التي قدمها أسلافنا من أجل صد الغْزاة الطامعين عن ثرى أرض اليمن الطهور.
فسلامَ عليك صيرة.. سلامَ عليك عدن.. سلامَ على كْل سْكانك الطيبين.