في عام 1929م لم يعلم الأب صالح البردوني أن ابنه الذي ولد في هذا العام سيكون مستقبلا مدرسة شعرية وأدبية متكاملة حيث ولد الابن عبدالله بن صالح البردوني في قرية بردون والتي ينسب لقبه إليها وتقع ضمن إطار مدينة ذمار التي تبعد عن العاصمة صنعاء قرابة 100كم .حيث عاش حتى الخامسة من عمره قبل أن يداهمه مرض الجدري وترك له ندبات على الوجه وأصابه بالعمى ليترك له ذكرى حملها معه بقية حياته. وكانت بداية دخوله في النص في الثالثة عشرة من عمره عندما أغرم وعشق الشعر وصار يقرأ ويكتب عنه بكل فنونه وإبداعاته حتى وفاته في 30 من أغسطس 1999م تاركا خلفه مدرسة فكرية وأدبية وشعرية كبيرة ..
وها هي الآن تحل الذكرى السادسة عشرة لرحيله وما زال الوطن يتنكر لأبنائه ويبخل عن إعطائهم ولو تذكارا قليلا أو تدوين أسمائهم في لوح المبدعين والذي ترك لنا ميراثا عظيما ولم نستطع تكريم صاحبه حيا ولا ميتا .. فعلى ركن منزلي وبين رفوف الكتب يومض يوميا شعاع تسلل من تشقق نافذتي المتعبة يصب جام جنونه على مجلدين للشعر يبدوانö من الصناعة القديمة كانت تحتضنهما مكتبتي بودö وحب متبادلين والجدران تقتنص فرصا لترتشف بعض القصائد منهما وتخفي روعتها في زواياها قبل حلول المساء.
انتقى الضوء هذين الكتابين بلهفة عاشق اللا متناهية ليراقص أيامه على وترها المنسي من أعوام يبادلها الهموم ومضغ الأحزان , يواسيها بقصائد الفرح ويبتسم بقصائد الجرح التي ارتسمت بغلاف الكتابين كمرور السفن فوق قطعة الثلج حيث يتألم كلاهما من الوضع الأدبي الزائف والمتهالك الذي ما زلنا نعيشه الى وقتنا الحالي لأجد نفسي ارتدي أحد الكتابين بعمق وأغوص بين ثناياه حيث تزيدني الكلمات والإحساس روعة كتلك الابتسامات التي تركت (لعيني أم بلقيس) والتي كان شاهدا عليها مهرجان الموصل وقصيدة (أبو تمام وعروبة اليوم) حيث امتزجت الفرحة مع باقات الفخر والتفاؤل في أروقة الكتاب تتنفسها بعشق الطفولة وعبق من (كائنات الشوق الآخر) والتي تركت فيها ملامح لن تمحى لسنين طوال تتوق دائما لمعانقة تلك الحسرات ونبضات الأمل التي تحلى بها أصحاب (وجوه دخانية في مرايا الليل) وهم يعدون ذاكرتهم لاستيعاب كل الشهقات المثخنة بالأحلام والتي أرسلت من (رواغ المصابيح) حين تساقطت كالشهب الجامحة تبحث بين كومة النسيان والإهمال عن (أحذية السلاطين) المفقود إلى وقتنا الحاضر.
ولعلها تعيد رائحة منه لنتنفسه معا ببطء قبل أن يستيقظ الحلم من جنبات الذاكرة ويقرر الرحيل سريعا والعودة إلى الخطوة الأولى (في أرض بلقيس) حيث امتدت معاناة الطفولة المسلوبة من شبح الفقر المتراكم فوق زفرات المرض وميلاد نبوءة الكوكب الأول من الكتاب ليقرر بعدها (السفر إلى الأيام الخضر) تاركا كل ذكرياته المؤلمة والقاتمة التي ظلت تلاحقه من ردهات اليأس .
واصل سيره في مكانهö القاتم (في طريق الفجر) متنكرا لكل لحظة بؤس وفرح لم ترافقه في محطات الحياة وعاد لكتابة مستقبل قد يأتي عما قريب وتمناه أن يأتي يوما ما فهو قد شارف على الوصول إلى (مدينة الغد) استراح هناك ينتظر بشغف كبير يشبه عودة النور إلى عينيه لحظة (رجعة الحكيم بن زائد) حاملا معه برقيات أشبه بزخات مطر هطلت كالكلمات من القصيدة إلى يدي وأنا أتفحصها لأجد بين القصائد (جواب العصور) ليحكي لي عن ماضيه المترهل وعن حاضره المحاصر ومستقبله المتشائم من قصائدهö وأمر منتشيا بكلماته لأصادف مع الزفرات الأخيرة للكتاب حكاية ليست الأخيرة تتحدث عن (زمان بلا نوعية) تضمخت بها الكثير من أبجديات اللغة لأجد نفسي وقد انتقلت دون أن أشعر بالكتابين أحدق كثيرا لأجده لشاعر النبوءات والحق وصوت المواطن المكنون في قصائده ويبوح الغلاف لي بلعثمة باردة أنا ما تبقى من كتابات الشاعر عبدالله البردوني.
هكذا يوميا استيقظ على تنهدات الكتابين وهما بخلوة مشروعة مع الضوء لأدنس هذا العرف المتعارف منذ ستة أعوام بأصابعي واقتحم الكتابين لأعيد القراءة من البداية وكأنني لأول مرة أقرأ قصائد البردوني.
*هامش/ ما بين القوسين أسماء دواوين عبدالله البردوني