يأتي اهتمام الأديب الدكتور جابر عصفور بالهوية الثقافية في كتاباته وإبداعاته وهو يمثل لوحده مدرسة نقدية وخطأ شديد الاستقامة في مواجهة الأفكار المتطرفة سواء أكانت أفكاراٍ شرقية أم غربية.
ومن خلال كتابه “النقد الأدبي والهوية الثقافية” يطل القراء على تحليل في غاية الروعة للواقع الثقافي ومدى تأثره بالأدب العالمي ويحتوي الكتاب على أربع مواضيع رئيسية وهي مفهوم الثقافة الوطنية وعلم الاستغراب ومسألة سواء وعالمية الأدب.
ويستشهد الكاتب في كثير من مواضع الكتاب بآراء وتحليلات المثقفين من مختلف المشارب الثقافية ويحمل استشهاداته بأبيات من مأثورات الشعر العربي.
ومن خلال هذا العمل الذي قدمه لنا الكاتب بشقيه النقدي والأدبي طارحاٍ السؤال الأكثر شيوعاٍ في أدبيات الصحافة العربية عن غياب نظرية عربية خالصة للنقد ثم الصيغ المعادة أو المتولدة عن هذا السؤال التقليدي في استبدال الصيغة الدينية بالصيغة القومية للسؤال لخلق هوية دينية للنظرية ويحلل الكاتب الأصوليات بأنواعها المتباينة التي أوجدتها ظروف سياسية أو اقتصادية وكيف تعمل تلك الأصوليات عملها عبر الثقافة لتكرس فكراٍ مهيمناٍ يفرض حضوره ولو بالقوة ويحارب أي فكر نقدي يتعارض مع قيمه وأفكاره ومعتقداته وينزل العقاب بمن لا يشاركه الرأي أو يحاول الخروج عن نطاقه الفكري والنقدي.
ويعتبر وثيقة لما يحويه من تحليل وعمق وجرأة في الطرح والتناول ذلك الطرح الذي يفتح المجال أمام الباحثين ليدلي كل مفكر أو باحث أو ناقد بدلوه في قضية شديدة الأهمية بالنسبة إلينا نحن العرب.
في مقدمة الكتاب يتحدث المؤلف عن عصر العولمة وما تفرضه من توحيد قسري في مجالات مختلفة وما صاحبها من ثمار ثقافية ومعرفية إيجابية من أهمها الثورة الجذرية غير المسبوقة في مجال الاتصالات وآليات إنتاج المعرفة فالأولى جعلت من العالم قرية كونية صغيرة بالفعل والثانية أتاحت من وسائل المعرفة وأدوات انتاجها ما لم يكن مسبوقاٍ وكانت النتيجة تغير علاقات الإنتاج المعرفي عبر الكوكب الأرضي ويؤكد أن هذا البعد الثقافي الإيجابي من العولمة لا يخفي بعدها الآخر السلبي وهو البعد الذي يوازي البعد الاقتصادي ويتصل بما تفرضه العولمة من نمط ثقافي واحد.
ويضيف: وكما فرضت العولمة حضورها وهيمنتها الاقتصادية والصناعية والسياسية على الكوكب الأرضي بالفعل عابرة القارات لاغية حدود السياسة مهددة الدولة الوطنية ومتقلصة بنفوذها أخذت العولمة تفرض حضورها قسراٍ وهيمنتها الثقافية والمعرفية بوسائل عديدة ووسائط متعددة عبر أدوات ايديولوجية جديدة ووسائل اتصال ما بعد الحداثة.
ويشير المؤلف إلى أن مجموعة من دول العالم الثالث في خلالها تجمعها مع دول الجنوب التي تسعى إلى وضع إنساني عادل قد نجحت من خلال اليونسكو وأصدرت كتاباٍ عن “التنوع البشري الخلاق” الذي يدافع عن التنوع الثقافي الأوحد الذي تسعى العولمة إلى فرضه على شعوب العالم والدعوة لنقضه ومواجهته بنمط ثقافي مضاد يقوم على التتويج الخلاق الذي يحترم الخصوصيات الثقافية والهويات الحضارية بوصفها مصادر لا ينفد معينها.
ويتصور المؤلف أن طريق التنوع الثقافي الخلاق هو السبيل الواعد للخروج من بين شقي الرحى: العولمة الوحشية والأصوليات المناقضة لها والمضي في طريق واعد للإنساني التي أصبح من الحتمي على مثقفي العالم الثالث منها تحديداٍ.
ومقالات الكتاب ليست بعيدة عن التوجه العام الذي يتناسب ومتغيرات الزمن الذي تعيشه ويفرض علينا شروطه وتحدياته وتهديداته في آن فهذه المقالات كلها منطلق من رغبة المساءلة التي تهدف إلى إعادة النظر في مفاهيم تسيدت وثانية استحدثت وثالثة ما بين هذه وتلك وكل ما ورد في هذا الكتاب مكتوب من منظور الناقد الأدبي الذي يتسع بدائرة النقد الأدبي بمعناه المحدود ليصبح نقداٍ ثقافياٍ بالمعنى الأوسع من المعنى التقني المباشر للنقد الأدبي.
مفهوم الثقافة الوطنية
في الجزء الأول من الكتاب يتحدث المؤلف في عدة مقالات عن مفهوم الثقافة الوطنية ويؤكد بأنه مفهوم إشكالي ارتبطت نشأته العربية بالدفاع عن الهوية الوطنية في مواجهة الغزو الاستعماري الذي جسد الذروة القمعية لحضور “الآخر” الذي ظل يهدد الوجود القومي للأنا “الوطنية” على مستويات عدة من أهمها طمس ملامح الهوية الثقافية.
ويضيف: إن مفهوم الثقافة الوطنية تأسس منطوياٍ على علاقة ثلاثية الأبعاد بأطراف متباينة صارت هي المكونات الأساسية للمفهوم أولها علاقة التضاد التي غدا بها المفهوم نقيضاٍ لثقافة “الآخر” العدواني خاصة ما يتصل بالاستراتيجيات القمعية التي حاولت بها هذه الثقافة تأكيد التبعية.
الاستغراب وفهم التاريخ
وتوقف المؤلف عند كتاب علم الاستغراب للمفكر حسن حنفي وانتقد فيه تعامله مع فلاسفة الغرب ووضعهم في طوابير الأعداء على الرغم من كونه مفكراٍ ويدعو إلى المساواة والتحرر وينبذ التسلط والعنف.
ويقول المؤلف: في كتاب “الاستغراب” ليس الجديد زمن التطور الصاعد الذي يضيف فيه اللاحق إلى السابق أو يبدأ فيه المتأخر من حيث انتهى المتقدم في حركة ارتقاء لا يتوقف مسارها العام والزمن في هذا الكتاب هو زمن الدورة التي تكرر نفسها الحنين الذي لا يغدو معه التاريخ تطوراٍ بل بدءٍ فإن نتقدم مع هذا الزمن يعني أن نعود على بدء وتبدأ على عود ونرى النهاية في البداية والبداية في النهاية وبالتالي يتولد مفهوم الثقافة الوطنية من خلال علم الاستغراب بنفي وجود الآخر المقروء وتطرحه في زنزانة الثأر وتثبيته في صورة النقيض المحكوم عليه بالثأر مستشهداٍ بالعديد من المؤلفات والكتابات التي صدرت ذلك وجلعت ضرورة الثأر من العدو.
مساءلة سؤال
وفي جزء آخر من الكتاب يتحدث الأديب الدكتور جابر عصفور عن السؤال الذي يتم طرحه بصيغ مختلفة وهو “لماذا لا توجد نظرية نقدية عربية” ويتناول حول ذلك الكثير من النقد البناء وما قد يولد من ذلك من تعصب لدى الكثير وانعكس ذلك على المجال السياسي حيث تم السعي إلى تأصيل هوية سياسية خاصة اطلق عليها “الاشتراكية العربية” المغايرة حتى لغيرها من اشتراكيات الآخر الصديق وكان السعي إلى تأصيلها موازياٍ للسعي إلى تأصيل هوية فكرية نقية في مسعى البحث عن “فلسفة عربية” جديدة مستقلة بذاتها وليست نقلاٍ أو ترجمة أو تابعة لفلسفات الغرب الأوروبي والأمريكي الحديث ولذلك تصاعد الحديث عن نظرية عربية للنقد الأدبي في موازاة الحديث عن الاشتراكية العربية لا التطبيق العربي للاشتراكية في السياق نفسه الذي ظلت متوالياته ترد علاقات المركز في الحاضر على أصولها المتأولة في الماضي.
عالمية الأدب
في الجزء الأخير من الكتاب تحدث المؤلف عبر عدد من المقالات عن الأدب العربي والعالمية حيث يؤكد أن الأمر لا يقتصر في هذا الوضع على ثنائيات قديمة من قبيل “العلم والدين” أو “الغرب والشرق” وإنما يمتد ليشمل ثنائيات أكثر حداثة ربما كان أشدها جذباٍ للاهتمام في السنوات الأخيرة ثنائية العولة والهوية الثقافية وهي ثنائية تلفت الانتباه إلى احتمالات التعارض بين التنميط العام للعولمة والتفرد الخاص لهوية كل ثقافة على حده.
ويشير المؤلف إلى أن العالمية في الأدب تتجلى على ثلاثة مستويات متداخلة أولها تصورنا لهذه العالمية الأدبية بوصفها رتبة عليا نرجو لأدبنا الوصول إليها وثانيها يتصل بعلاقة صفة العالمية بآداب الأقطار التي لا تخلو علاقاتنا بها من معاني التبعية في المجالات السياسية والاقتصادية التي تفرض نفسها على بقية المجالات وثالثها فهناك ارتباط هذه العالمية بلغات لها هيمنتها الثقافية التي ارتبطت ولا تزال مرتبطة بهذا الجانب أو ذاك من جوانب الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
ويختتم المؤلف كتابه بالقول: يمكن نخلص إلى درس بالغ الأهمية وهو أن القضاء على هيمنة الآخر والتخلص من التبعية له لا يعني رفضه دون دراسة عميقة له ولا يعني الهرب من سطوته بالتوقوع في الذات والانغلاق على ما يسمى بالهوية الثقافية أو الثقافة الوطنية بمعناها العصابي فكلا الأ/رين لا يؤدي إلا إلى تعميق هوة التبعية لهذا الآخر والغوص في شباكه حتى تحت زعم البعد عنه والرفض المطلق له.
–