* الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها ومن ذلك انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ” كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره .
وقولها ” وشد مئزره ” كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد ومعناه التشمير في العبادات .
وقيل هو كناية عن اعتزال النساء وترك الجماع .
وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يدل على اهتمامه بطاعة ربه ومبادرته الأوقات واغتنامه الأزمنة الفاضلة .
فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة والجد والاجتهاد في عبادة الله وألا يضيع ساعات هذه الأيام والليالي فإن المرء لا يدري لعله لا يدركها مرة أخرى باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا جاء أجله وانتهى عمره فحينئذ يندم حيث لا ينفع الندم .
ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر قال الله تعالى : ( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراٍ من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) سورة الدخان الآيات 1-6
أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر.
وقوله ” فيها يفرق كل أمر حكيم ” أي تقدر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة .
والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم – أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ قال ابن عباس ” أن الرجل يْرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات ” أي انه كتب في ليلة القدر انه من الأموات . وقيل أن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة .
ومعنى ( القدر ) التعظيم أي أنها ليلة ذات قدر لهذه الخصائص التي اختصت بها أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها وقال الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة من ( القدر ) وهو التضييق قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) سورة الفجر /16 أي ضيق عليه رزقه .
وقيل : القدر بمعنى القدِر – بفتح الدال – وذلك أنه يْقدر فيها أحكام السنة كما قال تعالى : ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) . ولأن المقادير تقدر وتكتب فيها .
فسماها الله تعالى ليلة القدر وذلك لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ).
وقد خص الله تعالى هذه الليلة بخصائص عديدة
1- منها أنه نزل فيها القرآن كما تقدم قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلاٍ بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . تفسير ابن كثير 4/529 .
2- وصúفها بأنها خير من ألف شهر في قوله تعالى : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3
3- ووصفها بأنها مباركة في قوله تعالى : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .
4- أنها تنزل فيها الملائكة والروح ” أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلِق الذكúر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماٍ له ” والروح هو جبريل عليه السلام وقد خصِه بالذكر لشرفه .
5- ووصفها بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد أنظر تفسير ابن كثير 4/531 وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .
6- ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) الدخان /4 أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير انظر تفسير ابن كثير 4/137138 وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ولكن يْظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم ” شرح صحيح مسلم للنووي 8/57 .
7- أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناٍ واحتساباٍ ما تقدم من ذنبه كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من صام رمضان إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناٍ واحتساباٍ غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناٍ واحتساباٍ ) أي تصديقاٍ بوعد الله بالثواب عليه وطلباٍ للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه . فتح الباري 4/251 .