ضحية لـ»حزب والده«

الصمت يعم القرية.. الحزن يكسو الجميع.. اللعنات تطارد الوالد.. الأيادي نحو السماء تدعو بإلهام الوالدة الصبر والسلوان ومساندتها للخروج من المحنة والمصيبة التي لحقت بأسرتها المتفاجأة مما حدث كون أغلبيتها لم تكن تعلم بذهاب الشاب نحو الموت.. لا سيما الجد “والد الأب” الذي لم يتماسك أعصابه حين علم بالحادثة.
على دراجته النارية وبرفقة شابين لا ينافسانه في العمر من مديريته, غادر تلميذ الأول الثانوي قبل خمسة عشر يوماٍ من الأربعاء الماضي محافظة حجة باتجاه محافظة مارب.. هناك حيث لقي مصرعه.

لا شك بأن والدته كانت مرهقة ومتعبة من حلول شهر رمضان المبارك وابنها ما يزال بعيداٍ عنها, المتواجد في ساحة الموت, حيث يكون النجاة منها معجزة بحد ذاتها.. وقبل أن يظهر هلال “رمضان” وصلها أسوأ نبأ في عامها أو ربما في حياتها.. إنه النبأ الذي سقطت على الأرض معلنة دخولها في غيبوبة دامت لساعات فور سماعه.
صباح الأربعاء الماضي, اليوم الذي تبعه أول أيام شهر رمضان الخير, تلقت الأم خبر وفاة ابنها بساحة المعركة التي لم يكن لولدها أي صلة أو ارتباط بها سوى التعبئة الخاطئة التي تلقاها منذ نشأته.
الشاب الذي غادر منزله وقريته واتجه نحو محافظة مارب بهدف الالتحاق بجبهة ما يسميها طرف بـ “المقاومة” ويطلق عليها طرف آخر بـ “القاعدة”.. خسر حياته ودفنت جثته هناك حيث تدار معركة بين طرفين أحدهما “الجيش مسنوداٍ باللجان الشعبية” والآخر عناصر تنتمي لحزب وتنظيم معين.
ما يزال دون السابعة عشرة.. وفي هذا العمر لم يسمح له القانون بممارسة السياسة ولم تقبله قوانين ومبادئ الشريعة الإسلامية وكافة الأديان السماوية بالتواجد أو المشاركة في معاركها.. لكن وفي وطن يعاني من الجهل والتخلف ويضرب فيه بالقانون عرض الحائط, يجد الطفل نفسه سياسياٍ ومتحزباٍ ومتشدداٍ ومتطرفاٍ وعنصراٍ في تنظيم أو مكون ينتمي له والده.
فقد الشاب حياته الأسبوع الماضي في المعركة.. دون أي ذنب يكاد أن يذكر.. دون أن يعلم من يقاتل ولماذا..¿! ودون أن يفكر في ماذا سيحل بوالدته بعد رحيله وينزل بوالده من التوبيخ والعتب..¿!.. لكن ما جدوى العتب بعد الرحيل وانتهاء الأمر.. لن يذكره أحد سوى أمه التي سيظل الألم يعصر قلبها وحياتها وكذا أسرته وأصدقاؤه, باستثناء والده الذي سيتظاهر بالفخر والعزة بتقديمه حياة ابنه في حرب يحاول الحزب المنتمي له حزمها وكسبها والانتصار فيها.
صراخ الجد يعلو في المنطقة.. لماذا حدث ذلك..¿ من أرسل حفيدي نحو الموت.. ومع من يقاتل ولأجل من..¿.. أسئلة عديدة عجز الحاضرون عن الإجابة عليها.. كان الصمت سيد الموقف بالنسبة للمتواجدين.. أقدم الجد على كسر كل نوافذ المنزل الزجاجية.. رفع يديه على ابنه ” أب الضحية” قائلاٍ له ” أنت قتلت حفيدي, ويجب أن تخرج من داري”.. إنها لحظات عصيبة يمر بها الأب الأكبر خاصة وأنهِ يحب أحفاده أكثر بكثير من أبنائه.. وهكذا هي النفس البشرية تفضل الأحفاد على الأبناء.
أصدقاء وزملاء الضحية.. اختلطت مشاعرهم بالحزن والفرح.. متألمين لرحيل رفيقهم في وقت مبكر من الحياة دون الاستماع بها لطالما وهو منذ نعومة أظافره مقيداٍ ومحاصراٍ بثقافة ومبادئ حزب والده.. وسعداء وفرحون لأنهم لم يقعوا في فخ صديقهم الذي فارق الحياة بسببه.. إنه فخ الانتماء للأحزاب السياسية المتلبسة بالدين أو التنظيمات المتشددة.
في عالم خارج حدودنا.. خاصة في الغرب.. يجد الشاب عناية مطلقة من جانب الأسرة والحكومة والمجتمع.. يحافظون على فكره وعقله من أن يلحق بهما أي تشويش أو أفكار سامة وقاتلة وملوثة قد تدفعه إلى الجحيم وخسران الحياة.. وذلك بعكس ما يحدث في وطنا الحبيب الذي يدفع المجتمع والأسرة بأفضل شبابها وأشدهم نحو الموت.. وأي موت¿! إنه الموت المتطرف غير الأخلاقي والشريف.
إنها قصة مؤلمة.. ومشهد مبكُ.. وفلم غير مرغوب مشاهدته.. لكن وفي الواقع يعيشها حالياٍ شعب بأكمله.. وطن بطوله وعرضه.. وفي كل قرية ومنطقة قصة مشابهة.. بطلها غبي وضحيتها أغبى..رواية فصولها محزنة.. ممتلئة بالجبن والعار.. ورغم ما تتضمنه تفاصيلها من مجازر ومعارك وقتلى وجرحى إلا أنه يعيشها الشعب اليمني في كل قراه ومدنه.
قد لا تخلو أي قرية أو مدينة من خسارة شاب أو أكثر من رجالها ونسائها جراء ما يتعرض له الوطن من عدوان خارجي بربري سيئ, بالإضافة إلى المعارك القائمة في عدد من محافظات الجمهورية اليمنية.
كل ذلك وأكثر بسبب ضعف الوعي لدى المجتمع الذي يكبر الطفل قبل وقته ويقحم في مشاكل السياسة وأوساط التشدد والمذاهب والتطرف دون أي رحمة أو خوف.. ما يحمل وسائل الإعلام مسؤولية عظيمة في توعية مثل هؤلاء الشباب لإخراجهم من عباءة آبائهم ومشاريعهم المدمرة والقاتلة.
وبعيداٍ عن التنظير والتحليل وبكل بساطة ووضوح, يعيش المجتمع اليمني بمختلف مكوناته السياسية والدينية وضعاٍ مأساوياٍ وأليماٍ بسبب العدوان الذي يتعرض له, والحروب الدائرة في كثير من المحافظات.
رحل الشاب ومثله العشرات والمئات من طرفي المعركة دون أن يعقلا أو يكفا ويضعا حداٍ لنزيف الدم الذي يهدر في العديد من المناطق اليمنية حتى خلال هذا الشهر الكريم.

قد يعجبك ايضا