ثقافة الجنون

هناك العديد من الظواهر التي تعيشها نسبة من البشر ويعدها الاختصاصيون بالتحليل النفسي نوعا من «الطفرات» الذهنية التي لا تنتمي إلى السلوك العقلاني الاعتيادي بل فيها هذه الدرجة أو تلك من الهذيان.
هكذا يجد البعض أن هناك علاقة بين الألبسة التي يرتدونها وبين انتصار الفريق الرياضي الذي يؤيدونه ويحسب آخرون أنهم موضوع رقابة مستمرة من قبل الآخرين الذين يحيطون بهم من أهل وأصدقاء أو أنهم ملاحقون من قبل مجهولين لا يبرحون رقابتهم لحظة واحدة.
الأخوان جويل وايان غولد هما: طبيب ومحلل نفساني وأستاذ في جامعة نيويورك بالنسبة للأول جويل وعالم نفس وفيلسوف وأستاذ في جامعة ماكجيل في كندا بالنسبة للثاني ايان. الاثنان يقدمان معا كتابا تحت عنوان «أدمغة تسكنها الشكوك» يحاولان فيه الإجابة على السؤال التالي: «كيف تصوغ الثقافة الجنون» كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.
ويقوم المؤلفان بتحليل العديد من حالات الاضطرابات الذهنية التي يصنفانها في خانة «الاضطرابات ذات الطابع الهذياني». وفي مقدمة تلك الاضطرابات ما تطلق عليه «أعراض حالة ترومان». وهذا بالتحديد هو عنوان فيلم سينمائي أخرجته هوليود في عام 1998 والذي تتخيل الشخصية الرئيسية فيه ــ شخصية رجل مريض ــ أنها تخضع لرقابة العالم أجمع بكل ما تفعل وتتصرف.
ما يؤكده المؤلفان هو أن الأمر لا يتعلق بمجرد «عقدة» في فيلم سينمائي ولكن بـ «حالة مرضية نفسية» وبـ«وهم حقيقي» كانا قد عرفاه ودرساه عن قرب لدى العديد من المرضى النفسيين. ويسردان الكثير من «الحكايات الحقيقية» عن أنماط الهذيان الذهني وأشكال انفصام الشخصية. كما يقدمان بالتوازي «لمحة تاريخية» للجنون عامة ولظاهرة الهذيان والانفصال عن الواقع بشكل خاص.
 وهما يؤكدان فيها أن أنماط الهذيان المعروفة «قديمة قدم الوثائق المكتوبة التي عرفتها الحضارة الإنسانية». ويشيران أن حضارات ما بين النهرين من بابليين وغيرهم كانت قد اعتبرت الجنون بمثابة عقاب على «عمل شرير» اقترفه المعني به.
ويعيد المؤلفان جزءا كبيرا من الأسباب العميقة لـ«الهذيان» و«انفصام الشخصية» للمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه المعنيون بها. ومن هنا يعارضان بشدة تلك الأطروحات التي يكررها الاختصاصيون النفسانيون من أطباء وباحثين عندما يقصرون مصدر المرض العقلي على «مجرد خلل دماغي» ذي «منشأ بيولوجي بحت».
بهذا المعنى يرى المؤلفان أنه يراد من خلال التركيز على الجانب البيولوجي إعطاء الدور الفاعل في كل ما هو نفسي للعلوم العصبية حصرا ذلك في سياق مسعى جرى انتهاجه منذ فترة طويلة ويرمي إلى فرض الطب النفسي كـ«فرع حقيقي من العلوم الطبية».
بالمقابل يؤكد المؤلفان على أهمية «العامل الثقافي» بمعنى «الضغط» الذي يمارسه الوسط المحيط. لكنهما يحاولان بالوقت نفسه «التنقيب» عن الطريقة التي «تتقاطع فيها العلوم العصبية والمجتمع وحقائق البيولوجيا» من خلال الحالات الحقيقية التي يقومان بدراستها.
وهذا ما يعبران عنه بأن تلك الأوهام ــ مثل تصور أن يكون المرء ضحية رقابة عالمية عليه ــ يمكن أن تعود لخلل في الجهاز العصبي لكن ينبغي أن لا تستبعد النظريات البيولوجية الخاصة بالمرض العقلي المكون الاجتماعي بل «عليها أن تأخذ بالحسبان دور العالم الاجتماعي في ذلك المرض» كما يكتبان.
ولا ينسى المؤلفان تبيين أن العالم الرقمي يشكل «تهديدات كثيرة مثيرة للقلق بالنسبة للحياة الخاصة للبشر». نقرأ بهذا الصدد: «يمكن للتسارع الذي يشهده التطور التكنولوجي وما ينجم عليه من تشوش الحدود بين الخاص والعام والمخبوء والمعلن والكتيم والشفاف أن تكون له آثاره على الحالة النفسية للبشر. وهنا نجد أنفسنا أمام السؤال:» هل يمكن لثقافتنا أن تدفع بنا نحو الجنون¿”.

قد يعجبك ايضا