أمهات نحتن في الصخر.. وقهرن المستحيل..!

دفعتنا الحاجة إلى ميدان العمل بعد أن فقدنا معيلنا ولاشيء سيمنعنا من ذلك

في 21 من مارس من كل عام نعود جميعنا للتأمل بكل ما قدمته لنا الأم مفتتح الحب وخاتمة العطاء ظل السماء الذي يظلنا والحضن الدافئ الذي يحتوينا.. حين يذكر الحب و العطاء تكون الأم عنوان لهما وحين يحين الصبر تكون الأم من رجاله  مهما أسهبت في حديثي عن صفاتها وتضحياتها فلن أوافيها حقها فهي نصف المجتمع وهي من أنجبت وربت تصفه الآخر الجنة تحت إقدامها ووجب طاعتها مؤكد في كتاب الله وسنة نبيه  ولم يستثن الله منه أحد… الاستطلاع  التالي يبين بعض من الملاحم البطولية التي سطرتها أمهاتنا في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر بها بلادنا إلى التفاصيل:
في يوم عيدهن ومن خلال قصص واقعية يعرض هذا التحقيق نموذجاٍ من الأمهات مغرقاٍ في المثالية إنهن أمهات فجعهن الدهر بفقدان أزواجهن تاركين من خلفهم ذرية ضعافاٍ لا يقدرون على شيء فوجدن أنفسهن في مواجهة الحياة ليكنِ الأمهات والآباء في آن واحد ويتحملن على كواهلهن مسؤولية توفير متطلبات الحياة لأطفالهن بالإضافة إلى مسؤوليتهن في تربيتهم والقيام بشؤونهم المنزلية فضربن أروع الأمثلة في التفاني والكفاح واستحققن عن جدارة أن تنحني لهن الرؤوس إجلالاٍ وإكباراٍ.
لسنا بحاجة للذهاب بعيدا كي نستعرض نماذج لأولئك العظيمات وكما أننا لن نرجع إلى صفحات التاريخ التي خلدت ذكر أسماء معينة فهن بيننا ومن حولنا ولا أشك في أن كل من سيقرأ هذا التحقيق سيجد الكثير من أولئك الأمهات من حوله في ثنايا هذا الواقع المعيش بكل ما يعج به من هموم وأعباء تحاكي الصخر في ثقلها حيث تقف الأم وحيدة بعد أن فقدت شريكها لتتحدى كل ذلك كي تقي أطفالها ذل الحاجة وهوان العوز والفاقة فتتحمل تلك الأعباء والهموم مستمدة من مناجم الصبر التي تختزنها ما يعينها على حمل ذلك الثقل الذي تنوء الجبال تحت وطأته.
سيدة الحقل
أم محمد الحبيشي ابنة الريف وامرأة الحقل توفي عنها زوجها ولهما من الأطفال ستة أربع من البنات وولدان لم يتجاوز عمر أكبر البنات حينها 12 سنة فيما لم يبلغ عمر أكبر الولدين خمس سنوات  لتجد الأم نفسها أمام اختبار عسير وفي مواجهة صعبة مع الحياة ومتطلباتها وبما تملكه تلك المرأة من الإباء وعزة النفس قررت أن لا تمد يدها إلى أحد قريبا كان أو بعيدا وأن لا تمرغ وجوه أطفالها بوحل الحاجة واستجداء المساعدات.. لقد قررت أم محمد أن تخوض التحدي بعزيمة لا تلين وصبر منقطع النظير فنفضت معطف الحزن واتجهت للمزرعة التي كانت كل ما يملكه زوجها ليعيل أسرته من خيراتها لقد اختارت أم محمد أن تسلك طريق الجد والمثابرة برغم ما يحفل به من العناء والمتاعب فكانت تغدو مصبحة إلى مزرعتها قبل أن تفارق الطيور أعشاشها وتعمل مختلف أعمال الزراعة حتى وقت الظهر لتعود إلى منزلها كي تضم أطفالها إلى صدرها وتعد لهم الطعام وفي ساعات قليلة تحاول أن تفيض عليهم من الحنان ما يعوضهم عن ساعات غيابها في المزرعة ليأتي وقت العصر وهو موعد عودتها إلى المزرعة لمواصلة العمل حتى غروب شمس يومها فتعود لأطفالها لتعتني بهم وتقضي معهم الليل وهي تعد نفسها ليوم جديد من الكد والتعب الذي رأت ثماره خلال أشهر حيث غدت مزرعتها حديث المنطقة كلها إذ أنها أصبحت الأكثر إنتاجا والأوفر محصولا نتيجة لما توليه لها أم محمد من اهتمام ورعاية ما جعل المزرعة تدر على الأسرة المال الوفير الذي يغطي كل احتياجات الأسرة ويسمح بالادخار فلم يمض عامان إلا وقد بنت المرأة بيتا جديدا.

حب العلم
تقول أم محمد كنت أعمل في المزرعة معظم ساعات النهار وفي المقابل لم أكن لأهمل أولادي فقد كنت أحثهم على الدراسة وزرعت فيهم روح التعاون بحيث يعتني كل منهم بالآخر ويراجع له دروسه وذلك ما جعلهم يحرزون تفوقا في دراستهم.. كما أني كنت أرغبهم في العمل والجد والمثابرة..
بقدر بالغ من الرضا المرتسم على وجهها تضيف أم محمد: فقد أبنائي أبوهم وهم أطفال وفي أمس الحاجة إليه فحاولت أن أعوضهم عن ذلك الفقدان وأكون الأم والأب والحمد لله الذي وفقني وأعانني على القيام بواجبهم خير قيام.
ما يقرب من عشرين عاماٍ قضتها أم محمد في العمل الدؤوب لتقف اليوم وترى ما أنجزته لقد تمكن أبناؤها من مواصلة تعليمهم وأصغرهم تخرج من الثانوية العام الماضي بنسبة 94% ومنهم من تزوج واتجه لتكوين أسرة فيما تعيش هي مع من تبقى منهم مستمرة في البذل والعطاء فلا تزال المزرعة هي عالهما الصغير ولا يزال أولادها هم قضيتها الذي تتفانى في سبيلها.

زوج عاجز
الحاجِة مريم أو “أم الخير” كما ينادونها امرأة خمسينية تقتعد جانبا من رصيف المشاة أمام باب اليمن عارضة بضاعتها من المشاقر والزهور والنباتات العطرية تقول أنها امتهنت هذا العمل منذ 12 سنة وذلك بعد أن ألجأتها الظروف المعيشية إلى ذلك لكي تعيل أسرة تتكون من زوج عاجز عن العمل بسبب المرض وابنتين.
تقول أم الخير: وجدت نفسي مطالبة بأن أوفر متطلبات أسرتي خاصة بعد أن تزوج ابني وانتقل ليعيش في بيت آخر مع زوجته وأولاده فهو عامل بسيط وبالكاد يستطيع القيام بشؤون أسرته وأصبحنا بلا معيل وكانت ابنتاي لا تزالان تدرسان في المدرسة وطوال هذه المدة وأنا أكسب من هذا العمل ما يوفر حاجياتنا والحمد لله ابنتي الأولى تخرجت من الجامعة وتنتظر الحصول على فرصة عمل أما الثانية فهي في السنة الأخير من دراستها الجامعية.
تضيف: أنا مرتاحة جدا لما حققته ولن أترك هذا العمل إلا إذا أصبحت عاجزة.
غياب الضمان التامين
في مجتمع كمجتمعنا الذي لا نظام تأمين يكفل للناس حقهم في الحصول على ما يعينهم على الحياة سواء في حال فقدت الأسرة عائلها أو في حالة عجزه تحت أي ظرف فيما الضمان الاجتماعي لا يتعدى بضعة آلاف من الريالات تصرف كل ثلاثة إلى أربعة أشهر وفي الأغلب لا تذهب إلى الأسر المستحقة ممن لا عائل لهم ولا مصدر دخل.. في وضع كهذا يكون فقدان معيل الأسرة أو عجزه عن العمل لإصابة ما أو مرض أو كبر وشيخوخة بمثابة كارثة تحل بهذه الأسرة تفقد معها الفرصة في الحصول على أهم متطلبات الحياة الأساسية كالمأكل والمشرب والمسكن والدواء والتعليم وكثيرة هي الأسر التي فقدت معيلها وصار هذا هو حالها لولا أن أمهات عظيمات عز عليهن أن ينظرن إلى وجوه أطفالهن وهم يتضورون جوعاٍ أو يقعون ضحايا الفقر والحاجة يتشردون في أرصفة الحرمان يسألون الناس إلحافاٍ ويقعون ضحايا لأي من أنواع الاستغلال فآثرن تحمل المسؤولية والبحث عن عمل يكسبن منه ما يسد فاقة أسرهن.. فحققن نجاحاٍ منقطع النظير.
قصة نجاح
السيدة محاسن نعمان التي أخذ القدر منها زوجها الذي كان يعمل في البناء ولقي حتفه نتيجة انهيار السقالة وسقوطه من أعلى المبنى.. كان الخبر بمثابة صاعقة حلت بالأسرة التي تعتمد على الأب في توفير كل احتياجاتها تقول محاسن: كان الأمل كبيرا بأننا سنعيش سويا أنا وزوجي لنتقاسم مسؤولية تربية بناتنا ولم أكن يوما أتصور أنني أنا وبناتي الأربع سنفقد رب الأسرة ونكون بلا معيل غير أن قدر الله كان أسرع إلى تبديد ذلك الأمل.
بشيء بالغ من الأسى تسترسل محاسن في سرد قصتها قائلة: بمجرد أن توفي زوجي يرحمه الله شعرت بثقل الأمانة التي تركها لي وحجم المسئولية التي عليِ تحملها لقد رحل عنا ونحن لا نملك من المال ما يغطي تكاليف الدفن ولولا أن المقاول الذي كان يعمل معه تكفل بالدفن لعجزنا عن توفير تلك التكاليف.
تعويض بسيط
وتردف محاسن بالقول: بعد أن عرف المقاول وضعنا المادي الصعب أرسل إلينا بمبلغ 200 ألف ريال كمواساة لنا فأدركت أنها كل ما سيعطينا هذا المقاول الذي كان زوجي يعمل معه باليومية وأنه لن يدفع لنا أي تعويض.. فقررت الاحتفاظ بالمبلغ والبدء في البحث عن عمل يقينا أنا وبناتي مرارة الحاجة وبعد أيام قليلة عرفت من قريبة لي أن جمعية خيرية في صنعاء القديمة ستعقد دورات تدريبية للنساء في مجال الخياطة والتطريز فسارعت إلى الالتحاق بالدورة التي استفدت منها كثيرا وبمجرد انقضائها كنت قد نسقت للعمل في مشغل الخياطة التابع للجمعية حيث مارست العمل حتى أتقنته خلال ثلاثة أشهر كنت خلالها أحرص على الاستفادة في جوانب التصميم والتفصيل والتطريز وكذا التسويق حتى اكتسبت الخبرة الكافية والثقة في قدراتي وحينها تركت العمل مع الجمعية واشتريت متطلبات العمل من ما كينة خياطة وغيرها من الأدوات وعدت لأعمل في البيت وتوزيع البضاعة من خلال الخبرة التي اكتسبتها في الجمعية.. وأنا الآن في صدد التوسع بالعمل وفتح مشغل منزلي بعد أن علِمت اثنتين من بناتي الصنعة وصرن قادرات على إتقانها.
وتختتم محاسن حديثها قائلة: أنصح كل أم قسى عليها الزمن وفقدت شريك حياتها من يقاسمها مسئولية البيت والأطفال أن لا تستلم ولا تفقد الأمل وأن تحاول شق طريقها في توفير فرصة عمل ومصدر رزق يكفل لها ولأطفالها لقمة العيش الكريمة.
خرج ولم يعد
أم حمزة وهي المرأة التي فقدت زوجها الذي المنزل وانقطعت أخباره منذ سبع سنوات تاركا لها أربعة من الأطفال لم يبلغ أكبرهم العاشرة لتجد نفسها هي وأطفالها بين مخالب العوز والحاجة دون معيل ولأنها لم تكمل تعليمها فكان من الصعب عليها الحصول على عمل مناسب نظرت أم حمزة حولها فوجدت أن لا يدا يمكن أن تمتد لمساعدتها وإن حصل فإن تلك المساعدة لن تفي بمتطلبات الأسرة كما أنه لا عطاء دون مقابل إلا ويصحبه قدر كبير من الذل والمهانة لم تجد المرأة في الجوار سوى الحاجِة خيرية العدنية تلك المرأة المثابرة التي تمتهن صناعة البخور منذ سنوات وتكسب من عملها هذا ما كتبه الله لها من الرزق قررت أم حمزة أن تتجه إلى جارتها الحاجة خيرية لتكون هي معلمتها وقدوتها فتعلمت منها صناعة البخور بحيث صارت تتقن تلك المهنة لتتولى الجارة الطيبة مهمة توزيع البضاعة حتى راجت بضاعتها وأصبحت معروفة وصار الكثير من الزبائن يأتون إلى البيت لشراء ما تنتجه من البخور.
العمل شرف
تقول أم حمزة: العمل شرف للمرأة وليس عيباٍ أن تعمل المرأة عملا شريفا بل العيب هو أن تظل تنتظر ما يتصدق به عليها الآخرون أو أن تتكفف الناس وتمد يدها لهم.
هي الأم إذن.. حين يخذلها الدهر وتضمحل الإنسانية من قلوب البشر تنهض لتعلمهم أجلِ الدروس وأبلغ العبر.. وكثيرات هن أولئك الأمهات اللواتي تلقي بهن الأيام أمام تحدُ كبير بعد فقدان أزواجهن أو عجزهم عن العمل فيثبن إلى تحمل تلك المسؤولية بعزيمة وإصرار في مشهد لا نملك معه إلا الوقوف أمامها لننزع قبعاتنا وننحني لهذه الأم التي ضربت أروع الأمثلة في البذل والتفاني والعطاء وحققت ذلك المستوى من النجاح في مهمتها التي قامت بها خير قيام.

قد يعجبك ايضا