الحوار من وجهة نظر الديمقراطية الليبرالية 2-2

ثالثاٍ: الحوار وآفاقه في المنظور الديمقراطي الليبرالي:
جدل الإنسان هو قانون تطوره وجدل المجتمعات هو قانون تطورها والإنسان لا يتقدم ولا يتطور بما يكتسب فقط بالدراسة وما يرتبط بها من علم ومعارف وخبرات تكنولوجية وإدارية متقدمة بل أن علاقته بالآخرين تعد أيضاٍ من أساسيات تقدمه وتطوره ففيها محاكمة لأفكاره مقارنة بأفكار الآخرين وهو ما يعرف “بالديالوج” وهناك كذلك ما يسمى ويوصف بالمونولج وهو حوار وجدل النفس للنفس وفيه يحاكم الإنسان نفسه بينه وبين نفسه وفيه أي “المونولوج” تطهير لعقله وفكره يستعيد فيه ما قاله للناس وما سمعه من الناس عن طريق غربلة وفرز لما هو منطقي وما هو غير منطقي من جانبه ومن جانب الغير.
وكلمة الجدل هي كلمة يونانية الأصل يراد بها الحوار وهو فن المناقشة والحوار والجدل السلمي هو أحد مظاهر التباين والاختلاف أو الاتفاق مع الغير والرأي وسماع الرأي الآخر هو التجسيد العملي لمبدأ الديمقراطية ويعبر عن الحرية وممارسة الحرية بلا شتائم وبلا مزايدات أو تجريح وفيه محاولة للتوفيق بين حريات الفرد وحريات الآخرين على أساس مبدأ المسؤولية الاجتماعية وفي الدول الديمقراطية المتقدمة والمستقرة يتميز ويمتاز المواطن فيها بالنضوج الاجتماعي والثقافي وينشأ من خلال الثقافة الديمقراطية المشاعة بين الناس وفي المجتمع على تعلم وتقبل قيم الحوار والنقاش والاختلاف بروح التسامح والتعايش السلمي مع الغير كما يمتاز ويتميز العاملون والمشاركون والمشتغلون بالحياة السياسية العامة كذلك بنفس هذه الروح وأكثر من ذلك وهذا ما نراه سائداٍ بوجه عام في المؤسسات العامة وبين الأحزاب والتنظيمات السياسية وما يثور بينها من جدل سياسي وحتى داخل كل حزب سياسي على مستوى القيادات وفي علاقة القيادات بكوادر الحزب المختلفة.
وما كنت أعرفه من خلال دراساتي وتدريسي للنْظم السياسية في الدول الديمقراطية المتقدمة هو أن هذه النظم قد تجاوزت منذ مدة طويلة مرحلة المراهقة السياسية وابتعدت نهائياٍ عن أسلوب الخلاف والحوار القائم على العاطفة والمسائل الشخصية والتعصب الحزبي المقيت والميول المناطقية والطائفية المتطرفة فالمشاركة فيها والنقاش والخلاف بين أبنائها يتم حسمه وتجاوزه سلمياٍ وعن طريق صناديق الاقتراع العام والاحتكام لإرادة الشعب وليس من خلال العنف ورصاص البنادق فسويسرا على سبيل المثال دولة فيدرالية ديمقراطية مستقرة ومتقدمة يدخل في مكونات شعبها تباينات واختلافات عديدة دينية ومذهبية وطائفية وسلالية ولغوية ولا أحد من أبنائها يخرج على سقف الوطن والدولة والأولوية هي دائماٍ للدولة والوطن على جميع الاختلافات السياسية والحزبية والمذهبية ولا أحد يخرج أو يسعى للخروج على النظام العام والسلام الاجتماعي أو يعمل على تهديد كيان الدولة الجميع ينظرون للدولة ومواردها وثرواتها على أنها لكل أبنائها والدستور والقانون فوق الجميع والجميع يعملون من أجل تقدم وأمن واستقرار البلاد والنهوض بها وتنمية مواردها المختلفة.
لماذا لا يوجد مثل هذا التوجه في لبنان التي تتشابه ظروفها الاجتماعية والدينية والمذهبية بسويسرا وبالمعادلة السويسرية السحرية¿ والسبب كما نرى ونعتقد يعود إلى أن المجتمع اللبناني لم يصل بعد هو وأبناؤه إلى مرحلة النضوج والوعي السياسي الذي وصلت إليه سويسرا والشعب السويسري رغم أن الشعب اللبناني مقارنة ببعض الشعوب العربية  وشعوب عربية وإسلامية أخرى هو أكثر وعياٍ وحساٍ وإدراكا منها بوطنه ومصالحه ومشاكله والمهم في هذا الموضوع هو الإجابة على السؤال القائل: هل يتعين على أبناء الدول العربية وأبناء الدول المشابهة لهم الانتظار لعقود طويلة حتى تتجاوز بلدانهم مرحلة عدم الاستقرار ووضعية المراهقة السياسية والاجتماعية وتصل بعدها إلى مرتبة الدول الغربية الديمقراطية المتقدمة والمستقرة¿ ألا يمكن اختصار عامل الوقت والزمن في ظل الحياة السياسية المعاصرة وفي ظل عصر المعلومات والثورة المعلوماتية ومعرفة الدول المختلفة بالتجارب والمعاناة التي مرت بها المجتمعات المتقدمة وصولاٍ إلى أوضاعها  الحالية المتقدمة والمستقرة¿
الحرية والحوار والنقاش المحترم المهذب وأخلاقيات الحوار الإنساني كلها مبادرة عن كل و احد لا يتجزأ ويجب النظر إليها على أنها أوجه لقيمة واحدة والحوار يختلف عن المناظرة التي ترتبط عادة بسعي كل طرف فيها إلى إبراز تفوقه وظهوره المميز على الطرف الآخر وقد تتداخل في المناظرة بعض صور وجوانب المهاترة مما قد يؤثر سلباٍ على بعض أطرافها وربما على جميع الأطراف المشاركين فيها بينما الحوار السياسي الوطني المسئول -على سبيل المثال- يقوم على الاحترام المتبادل وعلى الودية المتبادلة وإذا صدقت نيات المتحاورين فسوف يصلون إلى قسمات وقناعات مشتركة والى تحديد للمشاكل التي يتحاورون حولها وإلى معرفة المواضيع المثارة في الحوار والنقاش بينهم وما هي مواضيع أو نقاط الاتفاق أو الاختلاف وكيف يمكن الوصول إلى حلول ناجعة وناجحة لها وهذا ما يحدث في حياة الدول والمجتمعات السياسية الديمقراطية المستقرة ومسيرة تطورها السياسي والاجتماعي ومن خصائص وتقاليد العملية السياسية والنهج السياسي الديمقراطي في مختلف النظم السياسية والتجارب السياسية المتقدمة الخصائص والمؤشرات والتقاليد التالية:
-. كل الممارسات السياسية والإدارية التي تتم داخل تلك المجتمعات في إطار السياسة العامة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني تهدف عامة إلى تحقيق الديمقراطية والرفاهية والتقدم للوطن والدولة.
 -. يلتزم قادة النخب والصفوات السياسية في حواراتهم في مناقشة القضايا السياسية والاجتماعية العامة وفي حواراتهم الحزبية بالنهج السلمي المتسامح في التعبير عن الرأي وسماع الرأي الآخر بصبر وموضوعية وفي مجال الحكم فإن الأغلبية تستمع للأقلية وترد على نقد الأقلية بالمعلومات والبيانات والحقائق والأرقام المتاحة والأقلية تحترم حق الأغلبية في إدارة شؤون الدولة لأنها جاءت بإرادة ومشيئة الناخبين والشعب هو الذي يراقب ويقيم ويحاكم ويعاقب وهو لا ينتخب في الانتخابات الدورية العامة إلا من يراه أهلاٍ لثقته وتحقيق طموحاته وتطلعاته في مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعه السياسي والفرد أو المواطن يعرف ماله وما عليه وكيف يزاوج بين حرياته والتزاماته في حدود النظام والقانون والمسؤولية الاجتماعية.
– انطلاق جميع النْظم السياسية في دول الديمقراطية الليبرالية المتقدمة من مقولة أن حرية الفرد هي الأساس وأن دور الدولة المحوري هو في تنسيق وضبط حريات الإفراد وفعاليات ونشاط الأفراد وحراك الأفراد السياسي والاجتماعي وفي مختلف أوجه الحياة في حدود النظام والقانون.
– تنظر الدول الديمقراطية الليبرالية المتقدمة إلى الديمقراطية ذاتها على أنها نظام للحياة قبل أن تكون نظاماٍ للانتخابات والاستفتاءات العامة أو عملية الوصول إلى الحكم.
– جميع المجتمعات السياسية الديمقراطية المتقدمة سبق لأبنائها أن جربوا في حياتهم وفي علاقاتهم الاجتماعية والسياسية منطق القوة وأساليب الحيل والمكر دفاعاٍ عن حقوقهم الفردية ومصالحهم الشخصية وقد توصلوا إلى أن فوائدها ذات طابع وقتي يفتقر إلى الديمومة وللاستمرار وأن السلم والنظام العام الذي يندرج ضمنه كل أبناء البلاد في إطار نظام سياسي محدد السلطات وبإرادة أبناء المجتمع جميعاٍ ولمصلحتهم جميعاٍ هو           الأجدى بالإتباع والقبول العام.
– لا خطر ولا خوف من وجود التزاحم والتنافس والصراع بين أفراد المجتمع السياسي فهو من دلائل الحيوية المجتمعية ومن أسباب وأساسيات التطور والارتقاء وبناء الدول والحضارات والمهم أن يتم الحراك والعراك السياسي والاجتماعي والعملية السياسية على أساس سلمي ووفقاٍ لقواعد الشرعية والدستور والقانون وتحت سقف ثوابت الوطن ومصالحه العليا.
– وفي ختام الحديث عن الحوار والجدل والنقاش السلمي المتحضر والإنساني نشير إلى عبارة المفكر الفرنسي القديم- فولتير- التي يقول فيها «قد أختلف معك في الرأي ولكني على استعداد أن أدفع حياتي ثمناٍ لحقك في أن تقول رأيك» وعند الشاعر بول فاليري أن الخلاف المتحضر فيه إثراء لعقول ونفوس المتحاورين وعندنا أن مشاكل الدول في المنعطفات الصعبة وفي أجواء توتير وتأزيم أوضاعها السياسية والاجتماعية لأسباب داخلية وخارجية إنما تخل بوحدة وتوافق أبنائها وتكامل جهودهم الوطنية المسئولة والمخلصة من مختلف المستويات والمراتب وعلى رأس الجميع قياداتها السياسية فالوطن وخيراته وثرواته هي لكل أبنائه والوطن هو الحزب الأكبر للجميع.
• أستاذ العلوم السياسية جامعة صنعاء

قد يعجبك ايضا