محمد وردي.. فنان السودان وأفريقيا الأول .. رحيل صامت بعد عطاء زاخر


الثورة –
رحل عنا الموسيقار السوداني المعروف محمد عثمان وردي يوم السبت الموافق 18 فبراير 2012م بعد عمر طويل قضاه في خدمة وطنه ونشر الأغنية والفنون السودانية خارج الحدود وحقق شهرة ونجاحاٍ كبيرين على مستوى الوطن العربي.
والحديث عن الموسيقار الراحل وردي ذو شجون ويحتاج إلى صفحات ولكن نختصر الحديث بهذه الواحة والفنان الراحل محمد وردي من مواليد قرية صواردة في (19 يوليو 1932 – 18 فبراير 2012) جنوب مدينة عبري بشمال السودان. نشأ يتيما وتربى في كنف عمه وأحب الأدب والشعر والموسيقى منذ نعومة أظافره. رحل لمدينة شندي في أواسط السودان لإكمال تعليمه وعاد لمدينة حلفا بعد أن درس بمعهد تأهيل المعلمين وعمل كمعلم بالمدارس الوسطى ثم الثانوية العليا.
بداية مشواره الفني
في عام 1953 م زار الأستاذ محمد وردى العاصمة الخرطوم لأول مرة ممثلا لمعلمي شمال السودان في مؤتمر تعليمي عقد آنذاك ثم انتقل للعمل بالخرطوم بعد ذلك وبدأ ممارسة الفن كهاوُ حتى عام 1957 م عندما تم اختياره بواسطة الإذاعة السودانية- (هنا أمدرمان) بعد تجربة أداء ناجحة وإجازة صوته ليقوم بتسجيل أغانيه في الإذاعة.
وتحقق حلم طفولته في الغناء في الإذاعة بين الفنانين العمالقة أمثال : الراحلين عبد العزيز محمد داوود وحسن عطية وأحمد المصطفى وعثمان حسين وإبراهيم عوض وغيرهم وخلال عامه الأول في الإذاعة تمكن وردى من تسجيل 17 أغنية مما دفع مدير الإذاعة في ذلك الوقت لتشكيل لجنة خاصة من كبار الفنانين والشعراء الغنائيين كان من ضمن أعضائها إبراهيم الكاشف ابرز المطربين في ذلك الوقت وعثمان حسين وأحمد المصطفى لتصدر اللجنة قرارا بضم وردي لمطربي الفئة الأولى كمغنُ محترف بعد أن كان من مطربي الفئة الرابعة.
من محطاته الغنائية
لم يكن وردي فناناٍ للأغنية العاطفية فقط وإنما شمل فنه الأغنية الوطنية.. غنى للاستقلال قصيدة ( اليوم نرفع راية استقلالنا) للشاعر عبد الواحد عبد الله يوسف..
وعندما سقط نظام عبود في أكتوبر 1964 فاجأ الجمهور بأغنية الشاعر محمد الفيتوري الخالدة ( أصبح الصبح) .. والحديث عن هذه الأغنية يطول ويطول.. فإلى جانب الكلمات الجميلة والغناء العذب أدخل وردي لأول مرة كورس طلبة المدرسة ليأتي صوتهم البكر البريء كالهدير يزلزل قواعد الطغيان.. فأصبحت هذه الأغنية مرتبطة ارتباطاٍ جذرياٍ بثورة أكتوبر الشعبية..

فأغنية ( أصبح الصبح) كتبت لمحمد وردي تاريخاٍ جديداٍ في الأغنية الوطنية السودانية وأضافت إلى فنه رافداٍ وفير العطاء في مسيرة (الطرب الأصيل) لهذا الفنان الخالد.. فهو امتداد رائع لرائد الأغنية الوطنية خليل فرح ابن المنطقة التي جاء منها وردي .. ومن المدهش حقاٍ والمثير للدلالة الإيحائية أن يولد (محمد عثمان حسن صالح وردي) في نفس العام الذي رحل فيه فنان السودان العظيم خليل فرح..

وعندما قام جعفر نميري بانقلابه العسكري في 25 مايو 1969 جعل من أهداف ثورة أكتوبر 64 أساساٍ لمنهجه السياسي الذي يبرر به انقلابه على السلطة فانحاز لليسار السوداني والتقدمية العربية بقيادة مصر عبد الناصر..

أقبل أبناء الطبقة الوسطى السودانية يرفعون من شأن هذه ( الثورة) الوليدة التقدمية خاصة وأنها جاءت بعد نكسة 1967 مما يعني أن الثورة العربية لم تنل منها الهزيمة..

وأضحت ( ثورة مايو) كأنها إحياء لثورة أكتوبر 64.. وهنا تجلى محمد وردي بأجمل أغنياته الوطنية الرائعة فغنى للشاعر علي عبدالقيوم ثم محمد المكي إبراهيم.. كانت قصيدة ود المكي ذات أثر بالغ الروعة:

كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل
كان خلف الصبر والأحزان يحيا
صامداٍ منتصراٍ حتى أذا الصبح أطل
أشعل التاريخ ناراٍ واشتعل

وبعدها جاءت رائعة سيد أحمد الحردلو (يا بلدي يا حبوب)
يا بلدي يا حبوب
جلابية وتوب
ومن جمال هذه الأغنية الشاملة للسودان ما أدِت إلى ظِنِ البعض الذي اعتبرها النشيد الوطني للسودان لأنها تناولت السودان وأهله من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.

ويستمر عطاء الفنان وردي ليرتبط في مسيرة الأغنية الوطنية بالشاعر محجوب شريف في كثير من أعمال الغناء الثائر .. ويدخلا السجن معاٍ بعد فشل انقلاب يوليو 1971م على نميري.. وقد وجدت قصائد محجوب شريف في غناء وموسيقى وردي وادياٍ سهلاٍ كثير الغدير النمير .. ودوحة كثيفة الظلال..
لم يتوقف عطاء وردي في الأغنية الوطنية على تلك الأغنية المباشرة وإنما تعاطى بذائقة فنية رائعة مع الأغنية الوطنية الإيحائية والرمزية مثل قصيدة الشاعر عمر الدوش (بناديها).. بل بذكائه اللِماح وموهبته الفذِة حول أغنية ( نور العين) العاطفية للشاعر إسماعيل حسن إلى قصيدة وطنية رمزية.. ويرجع ذلك لحسن بديهته التي وظِفها كرد جسور على الطغيان.. وقد حدث أنه عندما خرج من السجن بعد فشل انقلاب هاشم العطا في يوليو 1971 والإفراج عن أغانيه سأله المذيع ماذا تقدم لمحبيك¿ قال في جسارة وذكاء : أقدم للشعب السوداني أغنية ( نور العين) لأن الشعب السوداني في العيون.. وبهذا جعل منها أغنية وطنية إيحائية..
أهم مميزاته
من لحظته الأولى كان وردي ظاهرة فريدة تجاوز من سبقوه بسرعة فائقة.. وتميز بإدخاله القالب النوبي والأدوات الموسيقية النوبية في الفن السوداني مثل الطمبور كما عرف عنه أداء الأغاني باللغتين النوبية والعربية. ويعتبره الكثيرون مطرب أفريقيا الأول لشعبيته غير المسبوقة في منطقة القرن الافريقي واثيوبيا.
كما عرف بثراء فنه وتنوع أغانيه من الرومانسية والعاطفية والتراث النوبي والأناشيد الوطنية والثورية التي أثرث حديث وجدان أهله السودان والدول المجاورة لنصف قرن ويزيد .
تعرض وردي للسجن عدة مرات بسبب أغانيه الوطنية وفى عام 1989 خرج من السودان بعد انقلاب الإنقاذ العسكري لعمر البشير ليعود بعد 13 عاما قضاها في المنفى.
منح الدكتوراه الفخرية من جامعة الخرطوم في عام 2005م تقديراٍ لمسيرته الفنية لأكثر من 60 عاما ولما يزيد عن 300 أغنية وباعتباره أسطورة فنية سودانية خالدة وموسوعة موسيقية.
وفاته
توفي الفنان محمد عثمان وردي يوم السبت الموافق 18 فبراير 2012. رحمه الله وأحسن إليه بقدر ما أسعد أهل وكل محبيه بالفن الأصيل والنغم الخالد.

قد يعجبك ايضا