تفكيك ” مكر التاريخ ” بين الحتمية الفلسفية وتأويلات التاريخ…!!

سامي عطا

 

كتب قيادي محسوب على اليسار وقف منذ اليوم الأول مع تحالف دول العدوان مقالاً ارادهُ أن يكون مقالاً إحتفائياً باستقلال الجنوب (30 نوفمبر) وفسر من خلاله أسباب انتكاسته، وأسباب هزائم وخيبات شرعية العمالة، حيث وظف فيه مقولة فلسفية هيجيلية ” مكر التاريخ “. ويستحق مقاله هذا نقداً وتحليلاً، وسأحاول تفكيكه وفحصه من عدة زوايا.

بدءاً ذي بدء يقدم المقال ” مكر التاريخ ” كما لو كان رؤية فلسفية لمحاولة فهم التناقض الصارخ بين نوايا الفاعلين في التاريخ والنتائج التي تترتب على أفعالهم.

يستند فيه الكاتب إلى مفهوم ” مكر التاريخ ” الهيغلي والماركسي ليقرأ من خلاله أحداثاً تاريخية قديمة وحديثة، مركزاً في النهاية على التجربة اليمنية. وعلى الرغم مما يبدو للقارئ غير المتخصص بأن الكاتب يستخدم فكرة عميقة، وأن لديه جراءة في الطرح، إلا أن المقال يقع في عدة مآزق منهجية وتأويلية تجعل من ” مكر التاريخ ” سردية استعراضية مغلقة أكثر منها أداة تحليلية مفتوحة.

ـ إشكالية المفهوم: قفاز فلسفي على يد أيديولوجية.

المشكلة الأولى تكمن في استخدام المفهوم نفسه. ” مكر التاريخ ” أو ” دهاء العقل ” عند هيجل هو جزء من منظومة فلسفية مثالية معقدة، تهدف إلى تفسير كيف أن ” العقل الكلي ” يحقق ذاته في العالم عبر استخدامه لأهواء ومصالح الأفراد المحدودة، ليصل في النهاية إلى تحقيق ” حرية الروح المطلقة “. هذا المفهوم مجرد في أساسه. لكن المقال يقوم بـ ” تسطيح ” هذا المفهوم وتحويله إلى أداة سحرية لتأويل التاريخ.

الأخطر من ذلك هو تحويل ” مكر التاريخ ” إلى ذريعة أيديولوجية. ففي معظم الأمثلة التي قدمها، خاصة تلك المتعلقة باليمن وسوريا، يبدو ” مكر التاريخ ” وكأنه مجرد تسمية أخرى لـ ” عدالة التاريخ ” أو ” انتصار رؤيتنا السياسية على المدى البعيد “. عندما يُعلن أن (انقلاب الحوثي) ” أحيا قيم الثورة والجمهورية ” أو أن ” برسترويكا ” جورباتشوف كانت ” استسلاماً ” وليست إصلاحاً، فإن ” مكر التاريخ ” هنا لا يحلل، بل يُصدر أحكامًا قيمية مطلقة. إنه الكاتب يمنح نفسه سلطة ادعاء معرفة ” الغايات الخفية ” للتاريخ، معرفة تكرس وعياً زائفاً يتوافق مع موقفه السياسي.

ـ انتقائية القراءة التاريخية: حين يصبح ” المكر ” انتقائياً

يقع المقال في فخ الانتقائية التاريخية. فهو يختار أحداثاً تثبت فرضيته ويتجاهل ما عداها. لماذا كان ” مكر التاريخ ” ضد العباسيين عندما انفتحوا على غير العرب، بينما لا نطبق نفس المنطق على الدولة العثمانية متعددة الأعراق التي استمرت لقرون؟ ولماذا كان ” مكر التاريخ ” مع أمريكا في أفغانستان ثم انقلب عليها، بينما لا نذكر كيف أن هذا ” المكر ” نفسه قد يكون وراء صعودها كقوة عظمى بعد الحربين العالميتين بطرق غير متوقعة؟

هذه الانتقائية تجعل ” مكر التاريخ ” مفهوماً مرناً إلى درجة الإفراط. إنه يشبه ” نظرية المؤامرة ” لكن بفاعل مجرد اسمه ” التاريخ “. أي نتيجة يمكن تفسيرها لاحقاً على أنها ” مكر “، مما يُفرغ التاريخ من سياقه المعقد ومن تداخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والصدفة البحتة، ليحل محلها قصة أخلاقية أو سياسية مقصودة سلفاً.

ـ إغفال الإرادة البشرية والمسؤولية: هل نحن مجرد دمى؟

ينجح المقال في تسليط الضوء على فجوة النوايا والنتائج، لكنه يفشل في تقديم مساحة حقيقية للإرادة البشرية والمسؤولية. إذا كان ” التاريخ ” يلعب بنا كبيادق على رقعة شطرنج، فما هي مسؤولية القادة عن أخطائهم؟ ما هي مسؤولية النخب عن فشلها في بناء الدولة؟ تحليل انهيار الوحدة اليمنية أو سقوط الاتحاد السوفيتي عبر ” مكر التاريخ ” يخفف من وطأة المساءلة عن القرارات الخاطئة والإدارة الكارثية، والفساد، والصراعات الشخصية والإرتماء في نهاية المطاف في حضن العمالة والإرتزاق.

إن تحميل ” التاريخ ” مسؤولية الخراب يخلق وعياً زائفاً يكتنفه العجز. بدلاً من أن يكون السؤال: ” أين أخطأنا؟ وكيف نصلح؟ ” يصبح السؤال: ” كيف خدعنا التاريخ؟ وماذا يخبئ لنا من مفاجآت؟ “. هذا تحويل للصراع من مجال الفعل البشري المسؤول إلى مجال القضاء والقدر الحتمي.

ـ ازدواجية التطبيق: المكر عندما يكون معنا وضدنا في نفس الوقت.

تبدو ازدواجية تطبيق المفهوم جلية عند مقارنة المثال السوري باليمني. ففي سوريا، يرى الكاتب أن ” مكر التاريخ ” ربما كان يعد لـ” شروط التحول الجذري ” عبر المعاناة، مما يوحي بأن الدمار الحالي قد يكون مقدمة لنهضة مستقبلية ( وهو تبرير خطير للمأساة ). بينما في اليمن، فإن الدمار نتيجة حتمية لـ” مكر التاريخ ” ضد الحوثيين ومن ” انقلب على الجمهورية ” حسب زعمه.

هذه الازدواجية تكشف أن ” مكر التاريخ ” في هذا المقال ليس قانوناً موضوعياً للتحليل، بل هو إطار خطابي لتأكيد رؤية الكاتب السياسية والأخلاقية ذات الأبعاد الأيديولوجية الواضحة. ما هو ” مكر ” عندما يحدث لخصومنا، يصبح ” منطقاً تاريخياً حكيماً ” عندما يخدم أهدافنا.

وأخيراً يبرز سؤال هل هناك مخرج من المتاهة؟

” مكر التاريخ ” فكرة ثرية إذا ما استخدمت كـتحذير من تعقيدات الفعل البشري وعدم القدرة على التنبؤ بنتائجه، وليس كـتفسير شامل وجامد. الفائدة الحقيقية من مفهوم هيجل ليست في تبني ” العقل الكلي “، بل في إدراك أن أفعالنا تحمل دائماً إمكانية أن تتحول ضد مقاصدنا، مما يستدعي التواضع، والحذر، والمراجعة المستمرة.

للخروج من هذه المتاهة، نحتاج إلى استبدال نموذج ” المكر الحتمي ” بنموذج “. الفعل المسؤول في سياق معقد “. التاريخ ليس مخادعاً بقدر ما هو معقد، تتدافع فيه قوى لا حصر لها. بدلاً من البحث عن ” عقل كلي ” يختبئ خلف الأحداث، قد يكون من الأجدى تحليل البنى الاقتصادية، والتحالفات السياسية، والصراعات على الموارد، وعيوب المؤسسات، ودور الأفراد في صنع اللحظات الحرجة.

في النهاية، يذكرنا المقال بأن التاريخ مليء بالمفارقات، لكن خطورته تكمن في أنه قد يحوّل هذه المفارقات إلى أسطورة تعفي البشر من مسؤوليتهم في صنع تاريخهم، أو الأصح، في خرابه.

قد يعجبك ايضا