الثورة / افتكار القاضي
بعد مرور أكثر من شهرين على إنشاء الاحتلال الإسرائيلي، لما يسمى “المراكز” المزعومة للمساعدات الأمريكية، التي حصدت أرواح المئات، بل الآلاف من الجائعين الفلسطينيين الذين يتهافتون إلى هذه المراكز بغية الحصول على حفنة من المساعدات الغذائية ليتفجأون بمصائد موت وضعت لقتلهم ، فكل يوم يمر يرتقي عشرات من طالبي المساعدات بالقرب من هذه المراكز بعد أن تقوم قوات الاحتلال وقوات الحماية الأمريكية بإطلاق النار عليهم وقتلهم قبل أن يصلوا إلى المساعدات أو بعد حصول بعضهم على حفنة مساعدات، لكنه لم يصل بها إلى أطفاله ، بعد أن اغتالته رصاصات الموت الصهيونية محملاً بكيس طحين اختلط بدمه.
خيارات مرة
ورغم خطورة الحصول على مساعدات يُجبر الجوع عشرات الآلاف من المجوّعين للتسابق يومياً على كمية محدودة من الطرود الغذائية في مراكز المساعدات الأمريكية، وهناك يجد المواطن الفلسطيني نفسه أمام خيارات مرة إما أن يعود لعائلته ببعض الزاد، أو يتعرض للقتل أو الإصابة الحرجة.
أكثر من ألفي فلسطيني استشهدوا في مصائد الموت داخل مراكز المساعدات الأميركية أو في محيطها، في حين أصيب أكثر من 14 ألفا آخرون برصاص قوات الاحتلال أو المرتزقة الأمنيين العاملين في مراكز توزيع المساعدات.
في نقطة التوزيع التي نصبها الاحتلال بالقرب من محور نتساريم وسط قطاع غزة لم تكتف قواته بتحويل المركز إلى مصيدة تطلق منه النار باتجاه المجوعين، فقد تسببت سياسة الاحتلال في تدمير آبار مياه الشرب جراء حفر عميقة في وادي غزة، تحولت إلى فخاخ تبتلع المدنيين الباحثين عن المساعدات، حيث يضطر المواطنون للجري وسط الظلام وإطلاق النار من المسيرات والدبابات الإسرائيلية للتوجه إلى مركز المساعدات، ليسقط العشرات منهم داخل هذه الحفر العميقة.
عالقون في حفر عميقة
عشرات العالقين داخل هذه الحفر العميقة، يواجهون ظروفاً مروعة فبعضهم أحياء يُصارعون من أجل البقاء بدون طعام أو شراب ووسط قصف إسرائيلي لا يتوقف، بينما فقد آخرون وعيهم بعد أن أنهكهم الجوع والعطش والخوف ومحاولات النجاة المتكررة، في حين تحول عشرات العالقين إلى جثامين متحللة، ومازال الأحياء منهم ينتظر يد العون لإنقاذهم من الموت.
في هذه السطور ننقل تفاصيل مروعة لأشخاص سقطوا في حفر آبار المياه بعد تعرضها لعنف القصف الإسرائيلي.
بساقيه الهزيلتين كان عماد البلبيسي (55) عامًا يسابق خطاه ليلاً نحو بوابة مركز توزيع المساعدات دون اكتراث لأصوات الموت حوله فأصوات بكاء أطفاله الأربعة الجوعى تعلو كل صوت، حاول التقدم بحرص وجلس ينتظر انخفاض حدة الرصاص المتهاوي. وفقاً لـ”الجزيرة”
ويقول: ” بينما كنت قاعد انتظر فتح باب المركز سقطت وأنا في وضعية الجلوس مباشرة داخل حفرة عمقها 3 أمتار، ورغم الألم الشديد حاولت الصعود للأعلى وبعد محاولات عدة نجحت في الخروج من الحفرة، وعند وصولي لمستشفى شهداء الأقصى في دير البلح تم تشخيص إصابتي بكسر في الحوض”.
ويضيف “الحمد لله نجوت من الموت، ولكنني مضطر للبقاء في المنزل بسبب الإصابة، ولا أعرف كيف سيحصل أطفالي على الطعام الآن”.
قصة أخرى مع الشاب أحمد، الذي خرج فبيل الفجر مسرعاً إلى مركز التوزيع دون إضاءة ترشد طريقه خاصة في تلك الطرق غير المعبدة والمعرضة للقصف الشديد تحت ضغط الحاجة الملحّة لإطعام أطفاله وأبناء إخوته الأيتام بعد أن فقد 3 من إخوته مؤخراً في استهدافات إسرائيلية.
يقول: “عندما اقتربت من البوابة، فُوجئت بنيران الاحتلال تنطلق تجاهنا وافترشت الأرض فوراً، لكني فوجئت أن كل من حولي إما استشهد أو يصرخ من شدة الألم، حتى وجدت نفسي أصرخ ألما من شدة السقوط في عمق وادي غزة، حتى فقدت وعيي”.
ويضيف: “حاول أصدقائي البحث في عتمة الليل عن أي وسيلة للإنقاذ، ولم يجدوا إلا أسلاك كهرباء مهملة فشكلوا منها حبالاً للرفع، واستمرت محاولتهم لإنقاذي نحو ساعتين تحت نيران قناصة الاحتلال، أما أنا فلم أستيقظ إلا على سرير المستشفى ورائحة ملابسي مختلطة بجثث الشهداء المتحللة تحتي”.
دفنت ساقي
محمد عويدات (35) عاما اضطر لدفن ساقه النازفة في الرمال خوفاً من هجوم الكلاب الضالة.
يقول عويدات -وهو أب لـ5 أطفال- “طلبت طفلتي الصغيرة وتبلغ عاماً ونصفاً تناول الخبز”، ويضيف بصوت متهدج “هذه الكلمة دفعتني للتوجه لمركز المساعدات لاجلب لهم الطحين.
في تلك الليلة، خرج محمد باحثًا عن بصيص أمل في “مراكز المساعدات” المزعومة، لكن ما تفاجأ به كان الأهوال المحيطة به بكامل صورها، كان من الممكن لمشاهد الموت أمامه أن تدفعه للعودة، لكن لم تمضِ خطوات قليلة حتى وجد نفسه ملقى على ظهره في حفرة.
ويضيف: ” بعد سقوطي وجدت بجانبي شاباً مصاباً في صدره، وعلى يميني شهيدان سقطا للتو، وعلى الفور شعرت بسخونة تسري على ظهري، وأدركت الصدمة التالية أني غارق بدمائي بعد إصابة فخذي الأيمن بقذيفة دبابة إسرائيلية فصلت نصف ساقي عن باقي جسدي، إلا من طبقة رقيقة من الجلد”.
رغم الوجع الذي ألمّ به، سارع عويدات إلى دفن ساقه النازفة بالرمال المتواجدة حوله، خوفًا أن تسلل الكلاب الجائعة لرائحة الدماء وتبدأ بنهش جسده، يقول “في تلك اللحظة، بدأت أتمنى الموت بأسلحة جيش الاحتلال قبل أن تسترشد الكلاب الضالة إلي، وبعد مرور ساعتين من النزيف والخوف، حضر من أنقذني ونقلني إلى المستشفى، وكان نقل قدمي الملتصقة بالجلد بعد انفصال العظم منها تمامًا هو الأشد وجعا”.