متى وكيف تسقط أمريكا ؟

مصطفى السعيد

كانت الولايات المتحدة تعتمد على عددٍ من أعمدة القوة وهي احتكار التكنولوجيا المتقدمة، واحتكار صناعة السلاح والسيّطرة العسكرية، واحتكار النظام المالي، واحتكار المخترعات والبحوث العلمية، واطمأنت إلى أن هذه الاحتكارات سوف تجعلها أكبر قوةٍ في العالم، تُفرض سطوتها وقُدرتها على نهب شعوب العالم دون أي مقاومة، ليس نهبًا للثروات الطبيعية فقط، بل قوة العمل أيضًا، من خلال التحكم عن بُعد أولًا بأدوات اقتصادية ومالية، تتُيح لها بيع منتَّجاتها بأضعاف قيمة إنتاجها، بينما تشتري منَّتجات الدول الأخرى بأقل من قيمتها، بما يُحقق لها فوائض كبيرة ومستَّمرة، وإذا أفلتت دولة من هذه المنظومة أو تمرّدت عليها، فإنها تُعاقبها بأدوات اقتصادية ومالية أولًا، سواء بإخراجها من منظومة التبادل التجاري، أو فرض أنواع من الحصار الاقتصادي، لتنهار عُملتها وإنتاجها، لأنه لا توجد دولة بمفردها قادرة على تحقيق استقلال اقتصادي كامل، يتُيح لها الاستّغناء عن التبادل التجاري مع باقي دول العالم، وإذا تمكنت دولة أو عددٍ من الدول من مواصلة التمرد فهناك عقوبات أخرى، وربما تدّخل عسكري، أو إثارة اضطرابات داخلية، بأدوات استخبارية.
لكن كيف تفقد أمريكا هذه القُدرات واحدة تلو الأخرى؟ كان تراجع الصناعات الأمريكية هو البداية لهذا الانهيار المتسَّلسل في القوة الأمريكية، وكان الإنتاج الصناعي الأمريكي يقترب من نصف إنتاج العالم كله في نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن إنتاج باقي دول العالم سواء التي كانت مشَّاركة في الحرب أو المتَّحررة من الاستعمار بدأت تستّحوذ على نسبٍ متزايدة من الإنتاج الصناعي والزراعي، ولأن الأيدي العاملة كانت رخيصة في دول الأطراف، فقد توجهت إليها استثمارات صناعية متزايدة، لاستغلال العمالة الرخيصة، تلك العمالة اكتسبّت مهارات، ومع اهتمام دول مثل الصين وكوريا الجنوبية والهند وماليزيا وغيرها بالتعليم، بدأت تنهض صناعاتها الوطنية، لتُصبّح آسيا مصّنع العالم، وكانت الرأسماليات الاحتكارية في الدول الرأسمالية المركزية تتّبنى فكرة “دعهم يعملون بدأبٍ ومشّقة، ونحن نأخذ منتَّجاتهم بسعرٍ بخّس” إننا نستعبدهم بطرقٍ سلمية، ونستغل التطور غير المتكافئ بين بلداننا وبلدانهم في القدرات التقنية والاقتصادية والعسكرية في تكريّس التبادل غير المتكافئ في قيمة ما ننَّتجه مقابل قيمة ما ينتَّجوه، ونُحافظ على الهوة الكبيرة بيننا وبينهم، بل نوسّعها، لكن الأمور لم تستمر على هذه التصورات، وانتقلت الصناعات في دول الجنوب المهمش من التقليد إلى التطور والتجديد، لكن ذلك لم يُزعج الدول الرأسمالية الكبيرة، طالما أن الفوائض المالية لتلك الدول تعود إلى المراكز الرأسمالية، سواء بشراء أذون خزانة، أو إيداعات في بنوكها، ومن هنا اعتمدت المراكز الرأسمالية على القطاع المالي الذي تحُكم السيّطرة عليه، ليتضخم رأس المال المالي وقطاع الخدمات في الولايات المتحدة، ليُصبّح القطاع الرئيسي بدلًا من قطاع الإنتاج الصناعي والزراعي، وتحول مواطنوها إلى أكبر مستَّهلكين، يتقاضون رواتب كبيرة جدًا، ولا يُحقّقون إنتاجًا حقيقيًا، لتتحول الولايات المتحدة من أكبر دائن في العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى أكبر مدّين في العالم، ومن أكبر منتَّج صناعي إلى أكبر مستورد ومستَّهلك، ومن دولة تُحقق أعلى فائض في الميزان التجاري إلى أكبر عجز تجاري، ومع ذلك اعتقدت أنها تسيَّطر على العالم بأدواتها الكثيرة المتبقية، وأن بلدان العالم تتسابق على التصدّير لها مقابل أوراق العُملة الأمريكية التي تحتكر طباعتها، وتُفرضها كعُملة تبادل عالمية، بل استخدمت كونها أكبر مستورد ومستَّهلك كأداة عقابية قوية، وتوقف الاستيراد من دولة، فتنخفض مواردها من الدولار، وتُعاني من أزمة اقتصادية.
هذا الوضع المقلوب في الاقتصاد العالمي استمر لعقود، لكنه غير قابل للاستمرار، فالديون الأمريكية تتراكم وتتجاوز كل الحدود المقبولة، ولا يوجد أي احتمال في قدرتها على سداد الديون، بل لا يمكن أن تتوقف عن المزيد من الإستدّانة، والمدهش أن أمريكا استغلت ضخ باقي الدول لفوائضها في أذون الخزانة والبنوك الأمريكية لتضغط بها على الدول الدائنة، تصَّادر أو تجمَّد أموال الدول، منها إيران وفنزويلا وحتى روسيا، بل راهنت على أن الدول الدائنة ستخشى على مدخراتها في أذون الخزانة والبنوك والأسهم في الشركات الأمريكية، ولن يكون في مصلحتها أن تُلحق الضرر بالاقتصاد الأمريكي، وإلا ضاعت عليها أموالها، وهنا بدأت الدول الدائنة والموردة لسلعها إلى السوق الأمريكية تنتّبه إلى الخطر، وبدأت في خطوات لتجنب العقوبات الأمريكية، وكانت أسهل الطرق إقامة منظومة تبادل تجاري بدائية بنظام “المقايضة” سلعة مقابل سلعة، ثم التبادل بالعُملات المحلية مقومة مرجعيًا بالدولار أو الذهب، ثم أخذت تتخلى تدريجيًا عن الدولار في احتياطيات بنوكها المركزية، ثم بدأت في تشغيل منظومات مدفوعات بديلة لمنظومة (سويفت) التي تتحكم فيها أمريكا، ولا تمَّر التجارة العالمية من خلالها إلا بالدولار، هنا انزعجت الولايات المتحدة وباقي المراكز الأوروبية، وبدأت سلسلة من الحروب لحصار الدول القادرة على التمرد، لمجرد أنها قادرة على كسر احتكار أمريكا لأدوات القوة، وفي مقدمتها الصين وروسيا، فخاضت حروب أفغانستان والعراق وأخيرًا أوكرانيا وإيران، لكنها أخذت تخسّرها تباعًا، وارتفعت خسائرها، لتشَّن على الصين حربًا تكنولوجية بمنعها من الوصول إلى الشرائح الإلكترونية، ومنع شركة (هواوي) من المنافسة، لتخسّر أيضًا السبّاق، وتتمكن الصين من إنتاج شرائح إلكترونية، وتنَّتج تقنياتها الخاصة، بل تنتج (40%) من الاختراعات الجديدة، وتُصبّح الأكثر تطورًا في البحوث العلمية، وترد أمريكا باستعراضات عسكرية، وتلويح بالقوة، وتُنشّيء تحالفات لحصار وهزيمة الصين، لكن الصين تمكنّت مع دول ساعية للاستقلال مثل روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا من تعزيز تحالف (بريكس)، ثم تتحول إلى الإنتاج العسكري بكل سرعة، لتُصبّح القوة البحرية الأولى، ثم أول دولة تنَّتج طائرات الجيل السادس، لتكسر التفوق الجوي الأمريكي، ثم الدفاع الجوي والطائرات المُسيّرة والصواريخ الفرط صوتية وحروب الفضاء، عندئذ تكشّف ضعف الاقتصاد الأمريكي، وظهرت عليه الأمراض، التي يستحيل علاجها إلا بأن تقبل أمريكا أن تتحول إلى دولة عادية، وتتخلى عن إنفاقها العسكري، وتُخفض رواتب عمالها، وتفرض نظام تقشف صارم يُخفض استهلاكها، أي أن تعيش على إنتاج شعبها، وهو ما لا يمكن أن تقبل به أمريكا بأحزابها ونخبُتها الحالية، والتي عليها إما أن تخوض حربًا طاحنة لن تفوز فيها، بل يمكن أن تدَّمر الجميع، أو تقبل بالدواء المر.
* كاتب مصري

قد يعجبك ايضا