
يرى جيرار جينيت أن بنية العنوان ودلالته لا تنفصل عن خصوصية العملº فهو يتضمن العمل مثلما أن العمل يتضمن العنوان. وأما جان كوهين في كتابه “قضايا الشعرية” فقد اعتبر العنوان جزءاٍ من التشكيل اللغوي للنص. وتأسيساٍ على ما تقدم تعد البنية التركيبية للعنوان هي أول ما يعالجه الناقد السيميوطيقي.
وبالعودة إلى العنوان الرئيس لمجموعة دماج “المدفع الأصفر” سنجده عنواناٍ يتم انتخابه لتمثيل المجموعة جزئياٍ لأنه سيتموقع مرة أخرى داخل العمل كعنوان فرعي. كما سنجد هذا العنوان الذي يسم المجموعة وقد اندرجت تحته ستة عناوين فرعية وبالنظر إلى بنيتها التركيبية النحوية واللغوية سنجد أن هناك تداخلاٍ في مستوياتها المختلفة فمنها ما تؤلفه كلمة واحدة مثل: “النذر” “الهيلوكس” ومنها ما تجاوز المفردة الدالة الواحدة إلى بنية المفردتين أو الدالين: “المدفع الأصفر” و”قطط الأيام” ومنها ما تجاوز ذلك كله إلى بنية الجملة كما في “أزمة البنت بشرى” و”أرملة الفرن الجميلة” و”قصة مهاجر حقيقي”. وجميع هذه العناوين لا تخرج عن كونها اسماٍ أو مركباٍ وصفياٍ أو مركباٍ إضافياٍ.
غير أن ما يلفت الانتباه في البنية النحوية لعناوين دماج السبعة هو اشتغالها على آلية الحذف النحوي وبالذات حذف الخبرº هذا الحذف يترك ثغرة في العنوان تصدم المتلقي وتخلق لديه تساؤلات مما يحثه على ردم الثغرة أو الفجوة التي سببها الحذف. وهذا “النقص الدلالي الذي يجتاح العناوين بحذف الخبر من شأنه أن يحقق الوظيفة الاستراتيجية للعنوان باستقطاب اهتمام المتلقي وإثارتهº ولذلك يعد الحذف خاصية مكونة للعنوان”.كما أن الحذف يؤدي وظيفة الإغواء أو الإغراء التي تجذب المتلقي “نحو اقتناء الكتاب وقراءته وهذا لا يتحقق إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة تركيباٍ ودلالة ومجازاٍ”.
ومن أكثر عناوين دماج التي اعتمدت على الحذف دلالةٍ ورمزيةٍ قصة “الهيلوكس” وهي مفردة تحتل موقع المبتدأ ولا خبر لهاº هذا من الناحية النحوية أما من الناحية البلاغية فإنها مفردة تمتاز بالفقر اللغوي والتكثيف الشديد الذي يوازي التكثيف في السرد وفي المنظور القصصيº فهذا العنوان استطاع أن يشكل معادلاٍ رمزياٍ مع النص وهو على الرغم من أنه اسم يدل على جماد (مركبة) إلا أنه يكشف عن المعنى الرمزي الذي يحيل إليهº فاستحضار مفردة “الهيلوكس” عنواناٍ للنص يعبر عن وعي القاص بواقع الصراعات السياسية وعن رؤيته الخاصة تجاه الآثار التي ولدها استخدام هذه الآلة في القمع والملاحقة ومطارد السياسيين حد الموتº فجاء السرد مشحوناٍ بالخوف والهلع والهروب طلباٍ للنجاةº لأنه قد وقر في ذهن السارد والطبيب أن هذا النوع من المركبات التي ظلت تلاحقه من شارع إلى آخر لا يْستخدم إلا لغرض الاغتيال السياسي ولم يدر بخلده أن الملاحقة كانت بغرض الاستشارة الطبية ليس إلا الأمر الذي جعل العنوان يعمل على خرق أفق التوقع لدى المتلقي الذي استقبل كلمة العنوان كما وقر في الوعي الجمعي “أداة للملاحقات والاغتيالات السياسية” وهكذا تصبح مفردة “الهيلوكس” بمثابة “النواة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص”.
وفي قصة “النذر” نجد العنوان مفردة واحدة وهي اسم معرف بـ ال التعريف. لكنه على المستوى النحوي يقوم على آلية الحذف حيث لا يكمله مسند إليه (خبر)º واستدعاء هذه المفردة عنواناٍ للنص يجعل العنوان يدخل في علاقة تناصية مع الموروث (العقدي)º وهو بهذه الإحالة إلى مرجعية خارجية يوسع من أفقه الدلالي ويفجر نشاطاٍ تأويلياٍ للعلاقات التي تربطه مع كائنات نصية مختلفة في الإطار السوسيو – ثقافيº فبطلة القصة تستغل ادعاءات الإمام قدرته على منح الناس الصحة والصلاح والهداية وطول العمر من خلال قراءته القرآن عليهم والدعاء لهم أو البصق عليهم زيادة في منح البركة مقابل مبالغ معينة من المال يجمعها جنوده من الناس طالبي البركة تستغل البطلة كل ذلك وتقدم له طفلها الرضيع لينفحه ببركته لكنها سرعان ما تختفي ولا تترك أثراٍ يدل عليها ولأن العنوان يحيل على النص والنص يحيل على العنوان فإن مفردة “النذر” -هنا- تقدم مدلولاٍ مباشراٍ: “تقديم الطفل للإمام كنذر ما دام يدعي الولاية” وآخر رمزياٍ يختزل معاناة الإنسان الفقير الذي قد يدفعه فقره إلى التخلص من ابنه لدى ميسوري الحال ليضمن له حياة لا يخالطها جوع ولا فقر ولا ذل. إن هذا النمط من العنونة الذي يتناص مع الموروث السوسيولوجي ثقافياٍ أو عقائدياٍ يقع “رهين اللا حسم الدلالي حيث الدال في العنوان يكتسب في جولته التناصية آثاراٍ دلالية من ذلك الركام الثقافي الذي يحاصره… “.
وإذا تجاوزنا العنوان ذا الدالة الواحدة (كلمة واحدة) إلى العنوان الذي سيقوم على استخدام دالتين اثنتين مثل: “قطط الأيام” و”المدفع الأصفر” سنجد أن آلية الاشتغال على حذف الخبر ما زالت تسم هذه العناوين إضافة إلى اشتغال العنوان على بنية الإضافة في “قطط الإمام” والوصف في “المدفع الأصفر”.
“قطط الإمام” عنوان القصة الخامسة في مجموعة “المدفع الأصفر” وهو في بنيته النحوية مركب إضافي (مضاف ومضاف إليه) حيث أضيف الحيواني (قطط) إلى الإنساني (الإمام) وهذه الإضافة تشكل صدمة للقارئº إذ الغرابة لا تكمن في إضافة الحيواني مجرداٍ إلى الإنساني مجرداٍ فهذا أمر مألوفº ولكن أن تضاف “القطط” لـ”الإمام” بما تحيل عليه المفردة من مكانة سياسية وقداسة دينية للإمام إذ هو الحاكم الأول في اليمن وهو ظل الله في الأرضº فإن ذلك قد جاء في بنية العنوان لغايات انزياحية على المستوى التركيبي الشعري للعنوان وغايات رمزية على المستوى الدلالي للنصº فالقاضي المخلوع عن قضاء ريمة وزملاء آخرون له طامعون في تعيينات وظيفية يقفون يومياٍ أمام المقام الشريف وجميعهم “ينظرون إلى الإمام ككلاب أو قطط تهز ذيولها تنتظر قطعة خبز” “إنهم قطط بعمائم” وعندما تتوزع لهم رسائل الإمام التي تحتوي تعييناتهم في مواقع رسمية يتلقفونها بسرعة واهتمام كما تتلقف القطط ما تحصل عليه من طعام وهذا ما فعله القاضي المخلوع عندما رمى له الإمام بورقة صغيرة تلقفها بلهفة فهي قرار تعيينه مشرفاٍ على قطط القصر.
إن المستوى البلاغي في قصة “قطط الإمام” يبدو في محورين: الاستعارة التي صورت تحلق ومسكنة وذل هؤلاء القضاة أمام الإمام وحاجتهم إلى رضاه فنقلتهم من الأنسنة إلى الحيوانية حيث تتجمد المشاعر وتلغى الأحاسيسº ومحور التورية التي تستحضر القطط الحقيقية التي يشرف عليها القاضي في ظاهر النص وتقصد –في الباطن– القطط الآدمية بكل ذلها وتبعيتها ومسكنتها لاسيما إذا قورن موقف هذه القطط الآدمية بموقف جماعة الأحرار التي برزت على سطح الساحة السياسية كقوة مناوئة للإمام.
“إن العنوان مع نصه تحكمهما علاقة استبدالية حيث يضيء كل منهما الآخر مما يعني أن العنوان لم يعد هو المعنى الوحيد الذي يحدده النص بل إن النص ساهم في خلق مرايا ومعان متعددة للعنوان”. وربما كانت العبارة السابقة هي المسوغ الذي جعل المستوى البلاغي بمحاوره الموضحة أعلاه يعمل على تعددية معنى العنوان.
أما قصة “المدفع الأصفر” فإنها تتناول بشعرية بالغة تفاصيل الحياة اليومية لأحد الجنود (الطبشي) الحافلة بتأملات نفسية ووجودية حول معنى بقائه وحيداٍ بعد موت زملائه السبعة تحت عجلات المدفع الأصفر حينما كانوا يدفعونه في الطريق الوعر ليصلوا به إلى الحصن/القلعة في قمة الجبل ولكنه كان يتراجع إلى الخلف وفي كل مرة يتراجع فيها يقتل شخصا أو اثنين… كان “الطبشي” الناجي الوحيد منهمº ويا ليته لم ينجْ! فقد افترسته الوحدة والعزلة والانزواء بعد موت زملائه واختفاء البعض الآخر منهمº وعندما تحول الحصن إلى “سجن واسع.. لكنه ضيق مطبق على أنفاسه كسجن انفرادي” º بل تحول إلى فضاء للحزن والشعور بالانفراد والفراغ والخواء حينها انطلق نحو المدفع يضربه بعنف… ثم أخذ يطلق منه طلقات الواحدة تلو الأخرى وأخيراٍ علق طربوشه على فوهة المدفع واختفى.
إن دراسة عنوان هذه القصة دراسة رأسية لمعرفة التعالق بين العنوان والنص السردي تكشف ـمن الناحية السيميائيةـ تلك العلاقة العضوية بينه وبين العمل لأنه جاء كجزء من الوظيفة الكلية للنص كما أنه شكل بنية تعادلية كشفت عن المعنى الرمزي للنص السردي.
إن “المدفع الأصفر” جملة اسمية تتكون من نعت ومنعوت وتفتقر في الوقت نفسه إلى الخبرº مما يجعل حدود معنى العنوان عند الصفة والموصوف فقط. وبالنظر إلى مفردة النعت (الأصفر) سنجدها تنتج دلالات تبطن النص بأكملهº فالأصفر لون يشير إلى انعدام الحياةº فأوراق الشجر المتساقطة على الأرض في فصل الخريف صفراء والشمس في غروبها وزوالها يكللها الاصفرار وتعلو الصفرة وجه الأموات من الناس. وهذه الصفة تمتد من بنية العنوان إلى بنية النصº ذلك أن المدفع كان سبباٍ في موت رفاقه موتاٍ حسياٍ نتج عنه موت معنوي للحياة في واقع “الطبشي”º فلا أكل ولا شرب ولا أصدقاء ولا حرية ولا سعادة ولا تواصل مع الآخرين في المدينة… لا شيء لديه سوى ذكريات حزينة ولا شيء سوى هذا المدفع الأصفر. وهنا يحاول “الطبشي” الثورة على المدفع فانطلق باتجاهه يضربه بعنف بوصفه رمزاٍ للموت في فاعلية أدائه (إطلاق قذائف الموت منه) أو في سحقه لزملائه أو في رمزية لونه الأصفر. وهذه الثورة في وجهها الآخر ثورة وتمرد على حياته الميتة بسبب الوحدة والعزلة والانزواء حيث أخذ يطلق من المدفع طلقات في الهواء الواحدة تلو الأخرى تعبيراٍ عن رفضه لواقعه وربما اعتقاداٍ منه بقدرته على هزيمة هذه الحياة المنفردة الميتة.
وفي هذا النص السردي “لم تعد علاقة العنوان بالنص علاقة تعيين بقدر ما صارت علاقة مساءلة وتأويل ممتدة من العنوان إلى النص ومن النص إلى العنوان”.
ومن ظواهر العنونة الحديثة عند زيد مطيع دماج بروز عناوين تتجاوز بنية الدال المفرد والدالين إلى بنية الجملة وذلك كما في “أزمة البنت بشرى” و”أرملة الفرن الجميلة” و”قصة مهاجر حقيقي”. وهذه العناوين جميعها تقوم على آلية حذف المسند إليه (الخبر) الذي يخلق فجوة تؤدي إلى الغموض على المستوى التركيبي والدلالي. لكنها بطولها النسبي وبنيتها الشعرية تقدم دلالات إيحائية تردم تلك الفجوة. فـ”أزمة البنت بشرى” عنوان ذو طبيعة نحوية بدلية فالبنت هي “بشرى” والعكس هو الصحيحº فكأن القاص بهذه العلاقة البدلية يريد أن يؤكد ملازمة الأزمة لهذه الشخصية الطفلة والتي تطالعنا في النص بوصفها شخصية ثانوية هامة جداٍ اتخذها دماج عنصراٍ سردياٍ ينوب عنه –كسارد وكشخصية مشاركة في الحدث– في حمل رؤيته الفكرية لاسيما حول شخصية بطل القصة والد “بشرى” º ففي الوقت الذي لفظت فيه مقايل القات والد “بشرى” لصراحته في النقاش وجرأته في طرح قناعاته ومفاهيمه عن الوحدة والديمقراطية والعدالة كانت “البنت بشرى” أكثر من غيرها تصديقاٍ لوالدها وحباٍ له وإيماناٍ بهº فهو في نظرها “بطل وطني وعظيم ومحترم وشريف ونزيه…”. آمنت “بشرى” بموقف والدها ورفضه زملاؤه “لموقفه النشاز وتحمسه المعاكس لآرائهم”º فانزوى وحيداٍ في مقيله مما ضاعف إحساس ابنته بالأزمةº أزمة وجود والدها في زمن غير زمنه وواقع غير واقعه. ومن ناحية أخرى فإن بعده عن أصدقائه جعلهم يشعرون بمدى الحاجة إليهº للصوت الآخر للرأي الآخر الذي هو بالنسبة للكثير منهم -ولاسيما السارد- صوته ورأيه الذي يتحفظ عليه ولا يجاهر به “خوفاٍ من العسس والجدران”.
لقد استطاع العنوان بعلاقة الإضافة “أزمة البنت” وعلاقة البدل “البنت بشرى” أن ينتشر في مفاصل النص السردي برمزيته التي تعبر عن تفاقم الأزمةº أزمة استيعاب الآخر وقبوله وفهمه. فلم تعد البنت بشرى هي المأزومة وإنما المجتمع هو المأزوم ببعده عن الحرية والديمقراطية التي تنتج حواراٍ مثمراٍ مع الآخر. هذه هي الرسالة التي أراد دماج أن يرسلها إلى المتلقي عبر هذا النص السردي وهي “رسالة مسننة بشيفرة لغوية يفككها المستقبل ويؤولها بلغته الواصفة أو الماورالغوية”.
ولا يختلف عنوان قصة “أرملة الفرن الجميلة” عن العنوان السابق من حيث تجاوزه بنية الدال والدلين إلى الجملة أو من حيث اعتماده على التركيب الإضافي (أرملة الفرن) مضافاٍ إليه الوصف (الجميلة). وأما من حيث البنية الدلالية لهذا العنوان والتي تنسرب رأسياٍ إلى محتوى النص القصصي فإن هذا العنوان يتضمن انزياحاٍ تعبيرياٍ في إسناد الأرملة إلى الفرن وإضافة ما هو إنساني (الأرملة) إلى الجماد (الفرن) في علاقة إنسانية لا تكون إلا بين بني البشر: زوجة مطلقة أرملة… كما أنه يتضمن نِفِساٍ رومانسياٍ ودلالة مفارقاتية تأتي من ملازمة الجمال للفرنº بمعنى أن الجمال والنعومة والرقة تلازم كير الفرن ونيرانه اللاهبة.
كما أن صفة الجمال التي تمتاز بها تلك المرأه: بياضها نعومة يديها عينيها صوتها جسمها الفاتن صدرها البض نحرها الواسع الذي تزينه سلسلة ذهبية… هذه الصفة شكلت بؤرة دلالية اتجه إليها السرد ومجرى الأحداث وحركة الشخوص إلى درجة غدت فيها هذه المرأه حقاٍ جمالياٍ مشاعاٍ كل واحد في الفرن يدعي حق مشروعية الدفاع عنه وحمايته لاسيما من قبل الغلمان العاملين معها والذين كانوا ينظرون إلى بطل القصة وساردها “بخبث وحقد دفين”. وعندما تطورت الأحداث باتجاه خلق علاقة تقارب ومحبة بين البطل وامرأة الفرن الجميلة “كان غلمانها يزأرون لكنها كانت تنهرهم بقوة”. وتأخذ صفة الجمال في نهاية القصة منحى دلالياٍ آخر عندما يتحول من الداخل إلى الخارج وذلك حينما تقف المرأة الجميلة في مواجهة قوى التخلف والشر منتصرة لحقها الطبيعي في الحياة: حق البحث عن الحب والسعادة كقيم إنسانية أصيلة. وبهذا يكون العنوان أحياناٍ كما قال رولان بارت: “عبارة عن أنظمة دلالية سيميمولوجية تحمل في طياتها قيماٍ أخلاقية واجتماعية وأيديولوجية…”.
لما كان اختيار العنوان لا يخلو من قصدية معينة فقد جاءت القصة الأخيرة في مجموعة “المدفع الأصفر” تحمل عنوان “قصة مهاجر حقيقي”. والقراءة السيميوطيقية لهذا العنوان تحديداٍ من حيث تركيبته اللغوية والنحوية هي قراءة في المضمون أصلاٍ مما يؤكد احترافية دماج في اختيار عناوين بوصفها مدخلاٍ أو عتبة نستطيع الدخول منها إلى عالم النص واستكشاف مدلولاته.
يتكون العنوان من جملة اسمية تفتقر إلى الخبرº أي أن العنوان ينبني على آلية الحذف الذي يؤدي إلى الغموض الدلالي وهو غموض تزداد حدته مع وجود المبتدأ المضاف والمضاف إليه “قصة مهاجر” وإلحاق صفة “حقيقي” للمضاف إليه مما يثير في الذهن مباشرة استدعاء النقيض (غير حقيقي) ويخلق تساؤلات حول كون جملة العنوان تحقق الغاية من تحفيز القارئ إلى العبور من العنوان إلى النص لمعرفة قصدية المؤلف.
لا يختلف اثنان على أن الهجرة هي الغياب والبعدº لكن ثيمة الهجرة في هذا النص محملة بدلالات مركبةº فهي لم تعد تعني غياب الفرد عن أهله ومجتمعه باعتبار أن هذا “المهاجر” بطل القصة قد عاد من المهجر فانتفت -إذن– هذه الصفة عنهº ولكنه نفي ظاهري إذ يدخل معنى الهجرة في بعد دلالي آخر ويكتسب البطل صفة “مهاجر” مرة أخرى حتى وهو في وطنه وذلك عندما اتجه –محملاٍ بالهدايا– إلى مقيل الشيخ وانفتح الحوار بينه وبين الشيخ على الكيفية التي وصل بها إلى اليمن فأجاب: “جواٍ.. فوق السحاب.. وتارة أخرى تحتها.. على الطائرة”. لم يصدقه أحد. وأما الشيخ فقد اعتبر هذه الإجابة إهانة له أمام الناس وفي مقيلهº فأمر بحبسه. مما يعني أن الشعور بالاغتراب بين هؤلاء الناس والبعد أو الفرق الشاسع على مستوى الوعي والإدراك قد شكل محوراٍ ثانياٍ لغربة هذا “المهاجر” وأبقاه مهاجراٍ بينهم بوعيه وخبرته وانفتاحه على العالم الخارجي.
وعندما أمر الشيخ -بعدما رأى الطائرة بأم عينه- بإحضار المهاجر من حبسه اكتشف أن هذا المهاجر “قد هاجر من جديد إلى وراء البحار منذ مدة.. ولم يعد حتى الآن”. وهنا يتمحور البعد الثالث لثيمة العنوان حيث قضى المهاجر في حبسه الطويل وهو بهذا لن يعود أبداٍº فقد ظلت الهجرة ملازمة له في الخارج كما هي في الداخل وفي الموت كما هي في الحياة. ولعل هذا التكثيف الدلالي لمظاهر الهجرة هو ما جعل البطل يستحق صفة “مهاجر حقيقي” التي شكلت إحدى دوال العنوان الأمر الذي جعل عنوان هذه القصة وهو عنوان مواز يعد “مرجعاٍ يتضمن بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته”.
وظاهرة القصدية واضحة جداٍ في عناوين دماج. لكنه بالرغم من هذه الظاهرة التي اتسمت بها العناوين “الفرعية” في مجموعة “المدفع الأصفر” إلا أنها لا تعدم أن تقع في دائرة الرمزية والإيحائيةº فلم يعد العنوان تعبيراٍ نهائياٍ عن النص وإنما غدت استراتيجية العنوان عند دماج كينونة محتجبة بانتظار الكشف عنها باعتبارها تجربة ورؤية ولذلك كان العنوان بالنسبة لنص زيد دماج “يوجد في وضعية مفارقة إذ عليه أن يخبر وأن يبقى محدود الإخبار في الوقت نفسه”.