غزة لم تكن أبدا مشروع هزيمة بل مدرسة للصمود والتضحية والأعداد، ومع أن الأعداء كثر، وقد يكونون عتاة، ومع ذلك لا يجوز إغلاق العيون أمام حقائق خطرة؛ فالعدو وحده ليس الأخطر دوما، فالخطر الأكبر يكمن فيمن يعملون على تفكيكنا من الداخل، ينهبون خيرات الأمة ويهدرون طاقتها ومواردها؛ حكام بلا شرعية أو مشروعية صاروا يبتاعون بلا ثمن، يتحالفون مع مشروعات الاستكبار ليهزوا عماد الصمود، ويشرّعون التفريط بمقاييس باطلة، فواجب الأمة اليوم أن تكشف هؤلاء وترد عليهم بضاعتهم وبالاً عليهم عبر وحدة الكلمة والموقف.
الاحتلال وأتباعه، لما عجزت قوتهم عن كسر إرادة غزة، لجأوا إلى المكائد والدسائس، فأطلقوا حملات إعلامية تستهدف نزع الشرعية عن مقاومتها وشيطنتها، وترويج رسائل توحي بأن المدافع عن الحق “إرهابي”، وأن الجزّار صاحب حق، هذه الحملات لم تكن مجرد كلام، بل نتاج خطط مدروسة تسعى لإحداث شق داخلي يمهد لتطبيق مخططات الوصاية والتحكم، لكن الله مع الصابرين وبشائر الفرج في اقتراب.
التجارب التاريخية تعلمنا أن الأمم تنجو حين تتحد، وتهزم حين تشتت وتتفرق كلمتها، ولم يحدث في التاريخ أن صار أهل الوطن سدا منيعا بوجه أبنائه، وحصنا حصينا لعدوهم، إلا نادرا وفي لحظات حالكة من التاريخ، وما يحدث اليوم هو تكرار لتلك اللحظات؛ حين انزلقت الأمة إلى هذا القاع، فصار القاع وطنا لانكسارهم وخنوعهم، ونعترف اليوم بكل مرارة، أن الأمة تمر بأزمة لم يسبق لها مثيل؛ فقد بلغ الذل والمهانة لدى قادتها وأبنائها مبلغا عظيما، ولم يأت هذا من فراغ، بل بفعل سياسات من يفترض أن هم أهل الحل والعقد، أولئك الذين بدلوا دينهم وقيمهم بمقابل بخس.
لكن الهم أن لا يقتل الأمل، والمؤامرة – مهما بلغت – لا تغلب الصبر، كما لا يغلب عسر يسرين؛ فواقع غزة اليوم يكشف أمرا جوهريا؛ الصمود ليس مجرد مظهر مادي أو مقاومة مادية، بل أخلاقية وروحية، ومن يظن أن نزع سلاحها، سواء الرمزي أو المعنوي، سينجح فهو مخطئ؛ لأن رصيد المقاومة وسلاحها الأقوى هو إيمان عميق بالحق، وانتماء للثلة القليلة الباقية على الحق، وهذا انتماء لا يوزن بميزان، ولا يقدر بثمن، وفي هذا دعوة لكل من يريد بالأمة خيرا، أن يرمم جدار الشرعية، ويرفض أي محاولة لإدانة المنافحين عن الحق، أو تحميلهم تبعات هذه الجريمة.
المعادلة العملية تفرض خطوات عاجلة وواضحة، تبدأ بتوحيد الخطاب الوطني، وقطع الطريق على الحملات الدعائية المدفوعة، التي تضلل الرأي العام المحلي والعالمي، وقبل هذا وبعده، دعم غزة ماديا ومعنويا، دعما غير مشروط، وإعادة التركيز على الإنسان وحقه في العيش بكرامة، ثم الانخراط الجاد لكشف الحقائق أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، وعلى علماء الأمة والدعاة والمثقفين والإعلاميين أن يهبوا هبة رجل واحد، لإعادة صياغة خطاب يحيي الأمة، ويؤكد أن من قاتل في سبيل حرية شعبه لا يمكن أن يكون “إرهابيا”، والتركيز على الشباب، رصيد الأمة، ليكونوا قوة بناء ومناصرة تقف بوجه حملات التضليل وتدعم غزة، فعلا لا قولا أو بالشعارات.
نزع الشرعية من أخطر الأسلحة التي يتشبث بها حلفاء الاحتلال وداعموه، ويجدون السعي في ذلك، وفي اللحظة التي ينجحون فيها – لا قدر الله – بإقناع شعوب الأمة، بأن المقاومة بلا حق، فقد صارت طريق تفكيكها ممهدة.
لذا يفرض الواجب الوطني أن نجعل من حماية شرعيتها خطا احمر، لا مساومة فيه، فغزة تعلمنا أن الحق لا يتراجع، وان الأمة التي تحفظ كرامتها لا تستسلم للمكر والدسائس.
ولذا نقول بثقة إيمانية وتاريخية؛ لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة، فتجدهم اليوم، وبعد قرابة عامين من الإبادة والتجويع، يلجأون إلى المكائد والخديعة، وهذه ليست مجرد عبارة، بل باتت من واقع غزة وتجربتها حقيقة روحية وإيمانية؛ فالقلة اذا كانت على الحق، فلا يغلبها باطل، مهما عظم، والكثرة اذا تخلت عن دينها وقيمها، فمصيرها الضياع، فلتكن غزة منارة امل تبعث البشائر في قلوب من يوقنون ان الفجر قادم؛ هذا وعد الله، فلا ظلمة دائمة إذا اجتمعت العزائم، ومن رحم الابتلاء والثبات تنبلج بشائر الفرج؛ فالنصر – وإن تأخر – لا محالة، هو وعد الله للمستضعفين في أرضه.