حركة الواقع اليوم من حولنا دالة على تهيئة مناخ حتى يكون صالحا لقبول فكرة جديدة في اليمن، فالاشتغال الإعلامي بلغ ذروته في سوالف الأيام وهو يسير وفق برامج واستراتيجيات بالغة الدقة والعناية، وضعها خبراء في علم النفس الاجتماعي وخبراء في علم النفس السياسي، وخبراء في سيكولوجية الجماهير وتلك علوم معاصرة تقوم على مناهج علمية تراكمت عند العلماء عبر قرون من الزمان، هذه العلوم والمعارف خرجت من عند المسلمين وربما كان العالم ابن خلدون هو مؤسسها الأول ثم تلقفها الغرب فتطورت على يديه تطورا عجيبا في حين ظل المسلمون عند نقطة البداية دون أن يتجاوزوها إلى النقطة التالية، فالعرب يمتازون بالثبات في التفكير ولا يكادون يتجاوزن الماضي إلا في حالات نادرة .
الغرب منذ بدأ التفكير في استعمار المنطقة العربية أرسل العلماء والخبراء لدراسة المجتمعات العربية، ولعلنا نتذكر فكرة الاستشراق كمصطلح شاع استخدامه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلادي، فالمستشرق جاء كي يقرأ المجتمع العربي والمسلم قراءة علمية وقد خرج بمصفوفة من الدراسات العلمية جعل مصالحه ومصالح الدول التي يستعمرها ترتبط ارتباطا عضويا لا فكاك له، وحين خرجت الشعوب ثائرة في منتصف القرن العشرين على المستعمر خرج المستعمر شكلا من خلال المظاهر العسكرية لكنه ظل يدير المنطقة من خلال مجموعة من العوامل منها الاقتصادي ومنها الإنساني والحقوقي واستبدل القوة الصلبة في السيطرة على الأنظمة والشعوب بالقوة الناعمة، لأنه كان يدرك طبيعة المجتمعات العربية وعوامل تحريكها من خلال المعرفة .
وبالعودة بالذاكرة إلى بداية الألفية الجديدة نتذكر جميعا الاشتغال المحموم على فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي كانت تديره وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، والتي أصبحت مستشارا للأمن القومي الأمريكي فيما ببعد “كوندليزا رايس “، ذلك الاشتغال لم يكن عبثا ولا كان ترفا، بل كان استراتيجية تشتغل عليها دوائر صنع القرار الأمريكي يومذاك، وصلت فكرة الشرق الجديد إلى حالة الفشل وانسداد الأفق بعد نتائج حرب تموز في لبنان عام 2006م .
بعد فشل فكرة الشرق الجديد خرجت من مراكز البحوث الأمريكية فكرة الإسلام المعتدل، وتم استبدال فكرة الشرق الجديد بفكرة الخلافة، وتم اختيار تركيا بحكم عوامل تاريخية وحضارية وثقافية كي تقود المشروع الجديد تساندها قطر، وقد تم لها ذلك، بعد القيام بعدد من التغييرات في بنية النظام التركي حتى يتسق وظروف المرحلة والمشروع المزمع تنفيذه في الجغرافيا العربية، ولم تكن الانقلابات والاضطرابات التي حدثت في تركيا إلا سيناريوهات تم رسمها والتخطيط لها بعناية بهدف حركة الإقصاء التي نالت الكثير من الأسماء ذات التأثير في النظام التركي أو المتوقع إعاقتها لفكرة المشروع، وكانت منتقاة بجهد استخباري واضح بعد عمليات الانقلابات المزعومة في تركيا، هذا فضلا عن التغيير في بنية النظام من البرلماني إلى النظام الرئاسي، والترويج للمواقف الكبيرة من القضايا الكبيرة للرئيس التركي، وهي مواقف كانت مرسومة سلفا بهدف توسيع دائرة التأثير في نفوس المسلمين حتى تكون فكرة الخلافة وعودتها ذات معنى في الوجدان العام ومقبولة من المزاج المسلم .
لم يكن المسار السياسي وحده من يخطو الخطوات باتجاه أهداف مشروع الشرق الجديد القائم على أسس إعادة تقسيم الخارطة العربية على أسس طائفية وثقافية وعرقية حتى يشرعن للصهيونية الوجود في الخارطة العربية، وقد تظافر المسار السياسي مع المسارات الأخرى، ولعل المسار الثقافي هو الأبرز- كقوة ناعمة – يليه المسار الاقتصادي الذي شهد تحولا وأصبح نموذجا يروج له تيار الإخوان .
اشتغل الأتراك على البعد الثقافي اشتغالا كبيرا ومكثفا، ووصل حجم التأثير إلى مراتب عالمية فاقت التوقع، وتركز خطابهم الثقافي على فكرة الصناعة في التفكيك للمنظومات الاجتماعية كمسلسل “مهند ونور ” أو المنظومات السياسية كمسلسل ” مراد علمدار ” الذي كان يرسم موجات الربيع العربي في الوجدان العربي العام، وصولا إلى فكرة الخلافة التي بدأت الدوائر التركية بمساندة الاستخبارات العالمية في الاشتغال عليها بدءا من مسلسل ” آرطغرل ” وجميع تفرعاته التي تناقش فكرة الخلافة وتاريخها ومواقفها، وصولا إلى المسلسلات التي تناقش البعد الطائفي، هذا المهاد الذي يعمل على تفكيك التصورات التي صاحبت العقل العربي إبان حركة النهضة مطلع القرن العشرين وإحلال بدائل عنها عن طريق الدراما لم يكن عفو الخاطر، بل جاء وفق خطط واستراتيجيات مدروسة بعناية، وهو يفضي إلى تجزئة الأمة وتمزيقها وإحداث حالة الشلل التام في مختلف البناءات، وصولا إلى التمكين الكبير لدولة إسرائيل الكبرى التي يجدها اليهود في كتبهم كوعد يعملون على تحقيقه بشتى الطرق والوسائل .
فالرأسمالية تريد دولاً ضعيفة وغير فاعلة تعاني التشظي والانقسام حتى يسهل عليها فرض ثنائية الخضوع والهيمنة، ولذلك تدير حركة الانقسامات والحروب في المنطقة العربية وهي من خلال تفاوضها مع ايران وعقوباتها المتكررة عليها لا تريد ايرانا قويا متفوقا تقنيا وعسكريا بل تريد ذلك لإسرائيل فقط، وتريد التعامل مع ايران بالقدر الذي يخدم مصالحها ويوفر لها الحماية وتدفق الأموال .
ما يجب التفكير به واستيعابه هو أن هناك خبراء في العلوم الإنسانية المختلفة يحاربون إلى جانب جيوش دول الاستكبار العالمي، فالحرب ليست عسكرية كما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى فهي حرب ثقافية، وحرب تهجين، وتسطيح، وتعويم، وتفكيك، وتشكيك، ولا بد من تفعيل الجبهة الثقافية وتعزيزها بالرؤى والاستراتيجيات والإمكانات حتى تواجه عدوا لا يتصف بنزاهة الضمير ولا يتصف بشرف الخصومة.