القانون يواجه الماضي ويضع حلولا تتفق والخصوصية اليمنية لمعالجة العنف السياسي



يضع التدابير اللازمة لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني مستقبلاٍ

يعالج أهمية البحث عن الحقيقة وجبر الضرر كما يقر الحاجة إلى إصلاح المؤسسات

بما أن أغلب الشعوب العربية بما فيها اليمن ما تزال منذ زمن بعيد وحتى اللحظة تبحث عن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني كمتطلبات أساسية للحياة في ظل توسع دائرة الأيديولوجيات العربية المختلفة والتي أوصلت المجتمعات بسياساتها إلى طريق مسدود سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا .. رغم ذلك قطعت اليمن شوطاٍ لابأس به من خلال التأسيس لقواعد العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية ــ التي تحتاجها في الوقت الراهن ولا مفر منها للانتقال من مربع الصراع بكل أشكاله إلى آفاق الاستقرار والسلم وبما يضمن للشعب الحياة الكريمة بكافة أشكالها خصوصا وأن اليمن تعد من أكثر الدول التي تجرعت محنة الصراعات .
مؤخرا وبالتحديد خلال الأعوام الثلاثة الماضية فرض الواقع على الساحة السياسية اليمنية ضرورة البحث عن حلول جذرية تقطع صلة اليمن المعاصر بالماضي وإخراجه من وضعه المضطرب الذي يعيشه حاليا بعد أن تراكمت الأخطاء تباعا منذ قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر وحتى الوقت الراهن إذ لم يلمس الشعب تحقق أهداف الثورتين بشكل كامل تلك الأهداف التي تصب في التزام الدولة بخلق حياة كريمة آمنة مستقرة للمواطن اليمني عن طريق إحداث نهضة تنموية شاملة وقد عانى الشعب اليمني منذ ذلك الحين صراعا على السلطة وسع من دائرته البحث عن الولاءات القبلية والجهوية من جهة والاعتماد على الولاءات الخارجية من جهة أخرى وذلك لاستخدامهما كعصا للاتكاء عليها في البقاء على كرسي السلطة كما عمل هذا الصراع طيلة الفترة على تعميق ثقافة الصراعات القبلية والمذهبية والطائفية التي أصابت المجتمع اليمني بتصدعات وتشققات في نسيجه الاجتماعي ودخلت اليمن معها في حروب طاحنة متقطعة بين فترة وأخرى ودفع ثمن هذه الحروب المواطنون الأبرياء .. تلك الأوضاع ألقت بظلالها ــ مع الوقت ــ على التنمية المستدامة والحياة المعيشية للمواطن على وجه الخصوص والتي زادت سوءا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وزادت معها حدة الصراعات بين القوى السياسية والاجتماعية وبلغت أوجها خلال الثلاثة الأعوام الأخيرة .
إيمان ناقص
لقد كان اليمنيون خلال فترات صراعاتهم يؤمنون أن العدالة والمصالحة هي الطريق الوحيد لنجاتهم من وحل الصراع والتناحر ولهذا فقد مروا بعدة محطات تصالحية وفي كل محطة يبتهل الشعب ويتضرع إلى الله أن يكون حليف تلك الصفقات النجاح بغية الانتقال إلى مربع الشراكة لبناء الدولة وإخراجهم من دوامة المعاناة وبالتالي القضاء على الثلاثي المرعب “الجوع والخوف والجهل” غيرأن المجتمع اليمني غالبا ما كان يفاجأ بالعودة مجددا إلى ساحات الصراع ومن ثم الدوران في الحلقة المفرغة التي لاخلاص منها “وظلت الدولة المدنية هي الغائب الحقيقي عن كل ما حدث ويحدث من تصالح أو ما يسمى ظلماٍ وعدواناٍ مصالحة وطنية” ولعل أبرز محطات التصالح بين اليمنيين تلك التي حدثت في مطلع السبعينيات , وفي مطلع الثمانينيات مع الجبهة الوطنية, وما حدث في الجنوب في 13 يناير 1986م, وكذلك ما حدث بعد الوحدة في العام 1994م .
إنصاف
وبما أن المصالحات التي بين اليمنيين سابقا كانت صورية وتفتقر للمصداقية فضلا عن فقدانها للضمانات فقد كانت سرعان ما تنتهي وقد تنبه اليمنيون لتلك التجارب بعين البصيرة في الوقت الحالي وبالتحديد في مؤتمر الحوار الوطني الشامل وحاولوا البحث عن قانون يتضمن حلولا بإمكانها صناعة المستقبل ونسيان الماضي وكان هذا القانون هو “العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية” على أن يطبق كحزمة واحدة ولذلك فقد جاء هذا المشروع أي “العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية” أولا لفهم مجمل الأخطاء التي ارتكبت في الماضي من أجل تكوين مستقبل أفضل كما يحلم به الجميع ولضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوقهم مستقبلا وذلك “بتسليط الضوء على تصرفات الأطراف السياسية التي أدت إلى انتهاكات لحقوق الإنسان مثل: القتل خارج نطاق القانون الإختفاء القسري التعذيب والمعاملة اللا إنسانية حجز الحرية الاغتصاب الممنهج الإعتداء على الأملاك العامة والخاصة والحقوق الوظيفية وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وضمان جبر الضرر لمن تضرروا من تلك الانتهاكات أو ورثتهم من أجل إنصافهم والمصالحة معهم وعلى أن يتم إشراك الضحايا أو ورثتهم في الإجراءات المحققة لجبر الضرر وتجنب أخطاء الماضي ” وبذلك يكون قانون العدالة قد وضع حدا فاصلا مع الماضي التعيس وبدأ جولة من النهوض بالحاضر والمستقبل بعد ان تقرر التأكيد على ضرورة المساهمة في تنمية وإثراء ثقافة وسلوك الحوار وإرساء مقومات المصالحة وبناء الدولة المدنية دولة القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان ومحو آثار انتهاكات حقوق الإنسان التي تعرض لها الكثير من المواطنين بسبب الصراعات السياسية والحيلولة دون تكرارها مستقبلاٍ .
ولضمان تنفيذ قانون العدالة فقد تقرر إنشاء هيئة تتمتع بالصفة الاعتبارية تتولى مهام تنفيذ خطوات قانون العدالة الانتقالية بدءا بقراءة الماضي ومعالجته ووضع الحدود المتينة لمنع تكرارها ومن ثم الانتقال إلى الوجه الآخر للعدالة الذي يبحث عن المستقبل .
تجارب
في الوقت الذي يجمع فيه كل المحللين والاكاديميين والخبراء على أن العدالة والمصالحة أنجع الحلول للانتقال إلى وضع إيجابي مغاير للسابق .
ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية من نظام لآخر ومن دولة لأخرى فالعدالة الانتقالية في دولة يحكمها نظام دكتاتوري تعني الانتقال من نظام الحكم الفردي التسلطي إلى حكم ديمقراطي يقوم على أسس الحكم الرشيد كما تعني العدالة الانتقالية في دولة تعاني من انهيار كامل في أجهزة الدولة الانتقال من حالة انهيار إلى إعادة بناء الدولة وفي اليمن تعني العدالة الانتقالية الانتقال من واقع متأزم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا إلى حالة انفراج يمهد لإعادة بناء الدولة الحديثة وفقا لأسس علمية ومنهجية .
وكما تبين للتو أن مفهوم العدالة الانتقالية يختلف من بيئة لأخرى فإن مبادئها كذلك تختلف نوعا ما وذلك حسبما تمليه طبيعة وبيئة المجتمع الذي يراد الانتقال اليه وبما لا يخل بعملية الانتقال الكامل إلى واقع ايجابي مغاير للسابق كما حدث في بعض البلدان مثل لبنان .. وهو ذات الأمر الذي يجب مراعاته في اليمن فلم ينظر اليمنيون إلى تعريف الباحثين والمختصين للعدالة الانتقالية إلا بقدر ما تحتاجه الحالة اليمنية إذ يعرفونها بـأنها ” كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية أو عدم وجودها مطلقاٍ ومحاكمات الأفراد والتعويض وتقصي الحقائق والإصلاح الدستوري ” .
ويعرف قانون العدالة الانتقالية في اليمن ــ باختصار ــ الحالة اليمنية بأنها ” كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركته من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية تحقيق العدالة التصالحية للكشف عن الحقيقة وجبر ضرر الضحايا وحفظ الذاكرة الوطنية ومنع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل وهذا الاختصار لا يعني أن هناك قصورا في مشروع العدالة الانتقالية بل أن قانون العدالة اليمني بلور الفكرة وفصلها على الواقع اليمني فقد استفاد اليمنيون من التجارب التي خاضتها الكثير من الدول في موضوع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية بمعناها الحقيقي والتي خاضتها أكثر من أربعين دولة على مستوى العالم ابتداء من الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم ومن تلك الدول ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية وتشيلي بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال بيوتشيه في الحادي عشر من سبتمبر من العام 1973م وكذا البرتغال وأسبانيا والمغرب ولبنان وقد لمست تلك الدول بعد تطبيقها للتجربة نجاحات كبيرة بدءاٍ بالاصلاح السياسي ومروراٍ بإصلاح منظومة الحكم في تلك الدول وانتهاءٍ بتحسين الحياة لدى مواطنيها في مختلف الأصعدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا و..الخ كما لمست تلك الدول تغيير كامل في قدرتها على المناورة في الساحة الدولية وفرض قراراتها بما يخدم مصلحة شعوبها.
مربط الفرس
إن وجود قانون للعدالة الانتقالية دون وجود مساع حثيثة نحو المصالحة الوطنية فإنه يمكن اعتبار الأمر مجرد أحلام لن يتمكن اليمنيون من تحقيقها وذلك على اعتبار أن المصالحة الوطنية مربط الفرس في وضعها للحد النهائي لأسباب الانقسام والصراع بين أفراد المجتمع اليمني وستعمل أيضا على وقف كل أشكال الانتقام والمتابعة والملاحقة ونبذ دعوات الثأر والحروب وكافة أشكال الصراع
إجماع وتفاؤل
إن إقرار تلك الأطراف باتخاذ خطوات نحو المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية وضمان الالتزام بمعايير الحكم الرشيد وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وانسجاماٍ مع قيم العفو والمصالحة المتأصلة في ضمير ووجدان الشعب اليمني يضع اليمن نفسه على بعد خطوة من معانقة المستقبل المشرق ولعل ما أجمعت عليه القوى السياسية من إجماع على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل وكذا إجماعها في الحادي والعشرين من شهر سبتمبر من العام الحالي على تغيير حكومة تسعى لتنفيذ المخرجات بشارة خير على مضي اليمنيين نحو عدالة انتقالية ومصالحة وطنية صادقة تضمن للأجيال الأمن والاستقرار والرفاهية .

قد يعجبك ايضا