د/ خالد عبدالرحمن الهادي
ذكر الكثير من الرواد الاقتصاديين بأن رسالة ووثيقة عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر هي المفهوم التام والشامل للإدارة، أي إدارة الدولة الإسلامية، وهو ما جاء به في رسالة الإمام علي عليه السلام إلى أحد عظماء المسلمين وهو مالك بن الحارث الأشتر النخعي أحد رؤساء اليمانيين في الكوفة الذي كان يعد ساعد أمير المؤمنين الأيمن في حروبه وجهاده.
وكان فارساً شديد البأس حليماً وشاعراً فصيحاً وتوفي رحمة الله عليه شهيداً مسموماً على يد معاوية والذي أرسل إليه من بني أمية من سقاه السم قبل أن يصل إلى مصر لتوليه ولايتها تنفيذاً لأمر الإمام علي عليه السلام.
يخيل لي لو أننا عملنا بجزء بسيط من تلك الرؤية العلية وطبقت في مؤسسات الدولة لما وصل حالنا في اليمن وسائر الدول العربية كهذا الحال المزري والذي اعتمدنا على تلك الرؤى المستوردة من الغرب اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقياً فكانت نكالا على شعوبنا وأمتنا الإسلامية والعربية للأسف الشديد فأصبحنا نطبق قوانينهم العبثية وكأننا أمة لا تاريخ لها ولا منهج. لابتعادنا عن المنهج الإسلامي القويم وتعاليم رسول الله وعثرته الاطهار.
ومن منطلق ما جاء في رسالة الإمام علي للصاحبي الجليل مالك الأشتر نؤكد بأننا لو تمسكنا بها كقاعدة أساسية لإدارة الدولة. والتي تضمنت وثيقة عهد الإمام علي كرم الله وجهه لمالك الأشتر كرؤية قرآنية تعبر عن منهج الله الحق فيما يتعلق بإقامة القسط ويتعلق بالسياسات والتوجيهات والضوابط التي ينبغي أن يلتزم بها الإنسان في أي موقع من مواقع المسؤولية وفي أي وظيفة كانت في الدولة فكانت تلك الوثيقة من الإمام علي لمالك الأشتر بمثابة العهد ليكون دستوراً يعتمد عليه في إدارته لشؤون مصر وهي تمثل دستور حياة لإدارة الدولة الإسلامية حتى يرث الله الأرض ومن عليها والتي تطرقت أيضاً إلى تحديد كيفية العلاقة بين الرئيس والمرؤوسين من منظور علاقة العمل يسوده الإخلاص والتفاني والاحترام المتبادل.. ولن تجد ممن يتذمر من الإحباط والاستبعاد.
تعالوا نبحر قليلا في فضاء هذه الوثيقة التي شهد لها الغرب أنفسهم بأن صاحبها أعظم رجل في التاريخ بعد الأنبياء وهو الإمام علي عليه السلام.
واليكم بعض مقتطفات مفهوم الإدارة في عهد الإمام علي عليه السلام
وفي قراءة سريعة اخترت لكم تلك المقتطفات:-
مفهوم الإدارة في عهد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
جاء فيها:-
* التأكيد على العنصر الإنساني:
كتب أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر والي مصر فقال:
«أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة..
فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول بين القسوة والرأفة وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء إن شاء الله». فكان على الرئيس ملاحظة الأوضاع النفسية لمرؤوسيه وأن يضع استراتيجيته الإدارية على ضوء هذا الواقع وأن يوازن بين ضرورات الضبط والتنظيم مع الضرورات الواقعية التي تفرزها الحالات الإنسانية والنفسية، فمن الخطأ أن تقوم النظرية الإدارية التنظيمية على قواعد صارمة وثابتة لا تراعي العامل الإنساني ولا تراعي تأثيرات الظروف وكأن التنظيم الإداري لأي مؤسسة أو منظمة أو حركة أو حزب أو جمعية أو نادٍ… إلخ يتحرك في فراغ بمعزل عن التأثيرات الخارجية والداخلية.
* عامل الخبرة والعلم:
في هذا السياق يؤكد أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه، على أهمية أن يكون المسؤول صاحب خبرة وعلم فإذا كان كذلك فله حق الطاعة وإلا فإنه لا طاعة له، يقول أمير المؤمنين: عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته.
فإذا كان جاهلاً فإنهم معذورون فلا طاعة للجاهل لأنه يأخذهم إلى الهلاك ويقول أيضاً: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والجاهل غير العارف بالأمور ينتهي أمره إلى معصية الخالق بأمر مخالف.
* العلاقة بين الرئيس والمرؤوس:
هذه العلاقة لا يرسمها التسلسل التنظيمي والتدرج الرئاسي بل ترسمها المصلحة المشتركة بين الرئيس والمرؤوسين يقول أمير المؤمنين علي لواليه عندما بعثه إلى مصر:
«ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك».
ونحن هنا أمام حالة أُلغِي فيها التسلسل الوظيفي إلغاء تاماً وإذا لم يقدر الوالي على القيام بهذه المهمة فإنه ينتدب بعض خلصائه لذلك فيقول: وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم وهذا تجاوز واضح على الإدارة البيروقراطية التي ترى أن كل شيء يجب أن يتم ضمن التسلسل الإداري، ولا حقّ لأحد في إلغاء هذا التسلسل ومن يلغي ذلك يعتبر متجاوزاً على التنظيم واللوائح في عصرنا الحالي، ثم بيَّن أمير المؤمنين مضارّ التقيّد غير المسؤول بالتسلسل الوظيفي: فقال فإنَّ احتجاب الولاة عن الرقابة الواعية:
الرقابة مهمة في كل تنظيم إداري، فقد نوه أمير المؤمنين – رضي الله عنه، إلى هذه الوظيفة فقال: – وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية فالرقابة عند أمير المؤمنين هي عطف ونصرة للمراقب لمواصلـة أداء الأمانة وليست تصيد الأخطاء غير المقصودة وتصويبها كما وأن الرقابـة لا بد وأن تتمَّ عبـر وسائط من أهل الصدق والوفاء المشهود لهم بالأمانة والنزاهة والإخلاص حتى يكون تقييمهم عادلاً لا تتلاعب فيه أهواؤهم، فالرقابة هنا عامل مساعد على التقدم وتدفع بالأفراد إلى الحركة والإخلاص في العمل فإن القوانين الصارمـة لا وجـود لها في الفكر الإداري لأمير المؤمنيـن رضي الله عنه عندما تعيق هذه القوانين حركة الأفراد داخل الدولة أو حتى المرفق الإداري وتصبح سبباً لإضاعة الحقوق.
* التوظيف يتم عبر الضوابط وليس عبر الروابط الشخصية والكيف وليس الكم:
في هذا المجال أكد أمير المؤمنين علي في عهده لواليه على مصر: ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة. فلا بد من إجراء الاختبارات الأولية على الشخص الذي يراد استخدامه في عمل ما ويجب أن يبتعد الرئيس عن المعايير الشخصية في توظيف أو ترقية الأشخاص إلى المناصب العليا ثم يقول: ثم انظر في حال كُتّابك فولِّ على أمورك خيرهم وليس أقربهم إلى قلبك وعائلتك فلا مجال للروابط والعواطف فالمعيار هو الحق وتتعلق هذه الميزة بخاصية أخرى هي الأمانة.
* الضبط:
ففي كتاب أمير المؤمنين – علي رضي الله عنه، إلى الأشعث بن قيس يتبين هذا المفهوم حيث يقول:-
وإن عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لمن فوقك، فقد اعتبر أمير المؤمنين العمل الإداري – في هذا النص- أمانة ويجب على المسؤول أن يرد هذه الأمانة كما هي وأن يحافظ عليها وأنه مسؤول أمام الله على أدائها ومسؤول أيضاً أمام رئيسه (من فوقه) اعترافاً بأهمية التسلسل الوظيفي، وهذا عامل مهم من عوامل إيجاد الضبط الإداري الذاتي الذي يمنع مظاهر التسيُّب والانحراف.
* المشاركة في صنع القرار:
إذا ما أعدنا قراءة النصوص عند أمير المؤمنين التي تحثُّ على المشاورة ومبدأ التشاور لوجدنا أن الغاية من هذا الحث هو إيجاد مقدار من المشاركة في صنع القرار وأن لا ينفرد رجل واحد في صنع القرار سواء كان هذا الرجل قائداً عسكرياً أو مالياً أو مديراً أو مسؤولاً في أي ميدان من الميادين..
* تلك رؤية قائد عظيم لإدارة الدولة الإسلامية فهل كنا بحاجة إلى العمل بما يفرضه علينا الغرب من قوانين ومصطلحات علمية ودراسات اقتصادية نسبوها لأنفسهم واستنبطوها من التاريخ الإسلامي ومن عظماء الأمة وعلمائها.
ألسنا الأولى بهم من تطبيق ما جاء في تراثنا الإسلامي وما جاء في كتاب الله القرآن الكريم وما جاء على لسان آل بيت رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ونحن أحق بذلك.
* وتعد كمسودة وخارطة طريق لكل مسؤول في اليمن وخصوصاً المرحلة الحالية للعمل بها من قبل أعضاء حكومة التغيير والبناء.