نقرأ في كتاب الله العزيز عن نبي الله داود (عليه السلام) قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}ص:20 وأرى في اليمن مصداقاً لهذه الآية، وكأنّها تتحدّث عن هذا السيد الذي جاء عليه يوم وكان ذلك قبل قرابة العشرين سنة لا يجد مأوى له ولأهله ولأصحابه، وكانوا كما جاء في القرآن العظيم وهو ينطبق عليهم في حينه: { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ..}الأنفال:26، وبعد عشرين سنة ها هم يحق فيهم قوله تعالى تكملة لذات الآية: {.. فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}الأنفال:26.
ومن مظاهر هذا الشكر الذي يؤدّيه أنصار الله وقائدهم السيد العلم هو هذا الشكر العملي من خلال موقفهم من «فلسطين» أعدل قضية على وجه الأرض، وأوضح معركة في تاريخ الأمّة منذ قرون، حيث لا لبس فيها، ولا شك، ولا ضبابية، ولا خفاء، وكأنّها بالفعل حقيقة الحقائق، وبديهة البديهيات..
واليمن اليوم وقد شدّد الله ملكه ونصره على حلف الشيطان، وأحزاب العدوان، فقد أولاه المولى عزّ وجل الإيمان والحكمة، منذ أن قلّده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الوسام الذي لا يبلى على مرّ الدهور «الإيمان يمان والحكمة يمانية» ولا شك ولا ريب أنّ نصيب السيد القائد العلم من هذا الإيمان نصيب وافر لدرجة أنّه بات مجمع بحري الإيمان والحكمة في اليمن والأمة.
ومن هذه الحكمة جاء «فصل الخطاب» الذي تميّز به «سيّد القول والفعل»، وتبيّن للقاصي والداني أنّه ليس من نوع الرجال الذين يرفعون الشعارات في غير زمانها ومكانها، ليلفتوا إليهم الآخرين، أو ليسجّلوا موقفاً، أو ليحققوا مجداً ذاتياً ولو كان ذلك على حساب الحقيقة والأولويات، وليس من أولئك الذين قيل فيهم في الكتاب العزيز {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ..}البقرة:44، أو من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون وهم كثر في الأمة زعامات ومشايخ ومثقفين وساسة، بل هو رجل من طراز آخر، ومن معدن آخر ومن مشرب آخر، ومن منهاج آخر، ومن قناة أخرى تمتد في التاريخ إلى عين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها يستقي، ومنها يملأ دلوه، ومنها يفرغ في شعبه وأمته..
ومن هنا دخل السيد القائد العلم إلى ميدان فلسطين مدركاً أنه المدخل إلى جميع الميادين، حيث في ساحته تتكثّف جميع أسباب آلامنا وتخلفنا، وفرقتنا وضعفنا وتشتّتنا، كما أنّ فيه تنمو وتترعرع جميع عوامل خلاصنا ووحدتنا ونهوضنا الحضاري الإنساني، وأنّ من لا يعي هذه الحقيقة فهو لا يعي شيئاً على الإطلاق، إنّها الحقيقة التي أدركتها الثورة الإسلامية في إيران وأدركتها المقاومة الإسلامية في لبنان، والمقاومة الإسلامية في فلسطين، وجاء هذا الإدراك اليمني متوّجاً لكل هذه الإدراكات وزاد عليها أن جعله شعاراً يردّده في حركته ومشروعه كما يردّد الأذان للصلاة..
وهذا الإدراك وهذا الموقف التاريخي العظيم هو ما غفل عنه الكثيرون، وهو ما عاداه أولئك الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم، ورضوا بأن يكونوا في يد المشروع الاستكباري يضعهم حيث شاء، ويوظفهم كما يشاء، ويلزمهم بأن يكونوا كما يريد هو لا كما تريد شعوبهم، ولقد جاءت معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني أعقاب جولات السقوط المريع للنظام الرسمي العربي وللبنى الفوقية لهذا النظام لنرى ونسمع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، لدرجة أن اجتمعت سبعة وخمسين دولة عربية وإسلامية في قمّة كان سقف مواقفها التوسّل إلى أمريكا وإسرائيل لوقف الحرب في بيان وصفه السيد القائد العلم بأنّه يمكن إصداره من مدرسة ابتدائية وليس من قمّة تضم كل هذه الزعامات ووراءها كل هذه الشعوب التي تمثّل قرابة ثلث العالم، وبدا هؤلاء إلّا من رحم ربّي مثل قصة الأطفال الشهيرة «أليس في بلاد العجائب» التي خلاصتها أنّ على «أليس» أن تصغر وتصغر، إلى حجم الأرنب أو أقل، كي تدخل في جحور القوارض وتتخاطب وتتعامل معهم!!
وبالفعل وكأن هؤلاء (وهو ما حدث مع الكثيرين منهم) تضاءلوا حتى باتوا أصغر من حجم «إسرائيل»، ولذا تقاطروا عليها وعقدوا معها المعاهدات والاتفاقات وهم يرونها أكبر منهم جسماً وعقلاً وقدرة!!
وهؤلاء أنفسهم هم من شنّ على اليمن العدوان كرامةً لعيون أمريكا وإسرائيل، وليس لليمن من ذنب سوى أنّه رفض أن يكون صغيراً أمام (أمريكا وإسرائيل)، وأبى إلّا أن يكون كبيراً بهويته الإيمانية، وبمسيرته ومشروعه القرآني، وبالتفافه حول قائد المشروع وقائد المسيرة..
هذا الخطاب يأتي في سياق تصحيح مسار التاريخ ليأخذ كل فريق حجمه الحقيقي وقدره الحقيقي والكرامة كل الكرامة لمن لحق بهذا المشروع، والندامة كل الندامة لمن تخلّف عنه أو وقف في طريقه..
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
*كاتب وباحث -رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية