عطاء الشهداء العظماء لا يحده حد، ولا يوصفه واصف، عطاء غير مشروط، عطاء خال من أي مطامع أو مصالح أو مكاسب دنيوية، عطاء لله وفي سبيله، يجودون بأرواحهم الطاهرة الزكية، وهي أغلى ما يملكون، دفاعا عن الأرض والعرض والشرف والكرامة والسيادة، لا يبحثون عن مناصب ، ولا رتب ، ولا مرتب ، كل همهم القتال والاستبسال في سبيل الله، إما النصر وإما الشهادة ، ولا خيار ثالث لهم مطلقا ، ومن أجل ذلك تحركوا بكل فاعلية ، من منطلق الواجب المقدس ، واجب الجهاد ، ذروة سنام الإسلام، وأحد أبواب الجنة الذي أعده الله وجهزه لخاصة أوليائه .
ما من شهيد قدم روحه الطاهرة من أجل أن يحظى بمنصب سياسي أو رتبة عسكرية أو من أجل وظيفة هنا أو هناك ، الشهيد قدم روحه الطاهرة في سبيل الله من أجل أن نعيش أعزاء كرماء ، من أجل أن نحيا الحياة التي خلقنا الله من أجلها، حياة العبودية والخضوع والاستسلام لله ولرسوله ، والعمل بمقتضى كتابه الكريم، حياة الشموخ والإباء ، التي لا يمكن القبول بسواها مهما بلغ حجم الأخطار، ومهما وصلت التضحيات ، وليس له أي رغبة في هذه الدنيا ، فهو يراها على حقيقتها، حياة فانية حقيرة ، أشبه بمحطات الترانزيت يتزود منها الإنسان بالزاد النافع له في الآخرة، التي تعد الحياة الحقيقية التي يجب أن يتنافس الجميع على الفوز بها .
لا يرى الشهيد في الدنيا ما يغريه للانغماس خلف ملذات الدنيا وترك واجب الجهاد المقدس، ولذلك لا أهمية لها بالنسبة له، وهو بذلك يجسد أسمى وأرقى صور العطاء والتفاني التي لا نظير لها، كلنا استمعنا إلى وصايا العديد من الشهداء الخالدين العظماء، الأحياء عند ربهم يرزقون، هل سمعنا في وصية أحدهم أنه يطالب الدولة أو الحكومة بمنح ابنه أو شقيقه أو قريبه وظيفة مرموقة أو رتبة عسكرية كبيرة؟ أو أنه طالب القيادة والحكومة بالعناية والاهتمام بأولاده وأسرته وتقديم كل سبل الدعم والعون لهم؟!
كلنا نعرف الإجابة مسبقا ، فما سمعنا ولن نسمع ذلك على الإطلاق ، لأن الشهيد لديه اهتمامات أخرى متجردة من المصالح والمكاسب الدنيوية ، اهتمامات جاهد من أجلها ، وأستشهد في سبيل الله من أجل تحقيقها ، اهتمامات لا علاقة لها بمعايير الربح والخسارة الدنيوية ، لذا تكاد تنحصر وصايا الشهداء العظماء في دعوة أهلهم وذويهم بالسير على خطاهم والالتحاق بركب المسيرة القرآنية ، والانخراط في صفوف المجاهدين وعدم التقاعس والتكاسل في أداء هذا الواجب ، ولسان حالهم يتجسد في قوله تعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين).
بالمختصر المفيد عطاء الشهداء هو أرقى صور العطاء، وإخلاصهم وتفانيهم وزهدهم في الدنيا وملذاتها ومغرياتها مدعاة للزهو والافتخار والاقتداء والتآسي لأهلهم وذويهم، للسير على ما ساروا عليه، والعمل بمقتضى وصاياهم التي تجسد طلاقهم البائن للدنيا وعدم اكتراثهم بها، وسعيهم من أجل الفوز بالشهادة والظفر بها، والتي تمثل العطاء الرباني الذي حباهم الله به، مقابل العطاء الذي قدموه، والذي لا عطاء ولا جود أغلى منه .
قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ووالدينا ووالديكم وعاشق النبي يصلي عليه وآله.