فلسطين.. قضية بين عَاْلَمين..

طه العامري

 

بين عالم ينهار بكل قيمه الاستعمارية وثقافة الهيمنة التي شكلتها الغطرسة الإمبريالية على مدى ثلاثة عقود منذ منحت أمريكا نفسها لقب عاصمة ( العالم الحر)، وعالم يولد بتعدد أقطابه تشكله مدافع الحرب الأوكرانية واقتصاد الحزام والطريق، بين هذا وذاك يقف العربي الفلسطيني الباحث عن الحرية والكرامة والسيادة والدولة بعاصمتها القدس الشريف، ليدفع بدماء أطفاله ونسائه وشيوخه وبنيته التحتية ثمن التحولات الجيوسياسية في لحظة تاريخية مجبولة بقيم الانتهازية الدولية وبسقوط أخلاقي مقيت تميز به المجتمع الدولي بكل محاوره وصناع القرار فيه الذين يترقبون أن يُحملوا لمواقعهم المرجوة في ظل النظام الدولي الجديد والمرتقب على جماجم أطفال فلسطين وضحايا المذابح الصهيونية التي تحركها الرغبات الاستعمارية الأمريكية، رغبات حملتها أمريكا من العراق وسوريا ومن أفغانستان وأوكرانيا، تاركة خلفها تداعيات بحر الصين والمحيط الهادي وحلفها الآسيوي الذي ولد مشوها وغير قابل للحياة، وسط هذا الكم من التداعيات المتناقضة، يقف العالم بكل محاوره وحساباته وعواصمه وأهدافه يترقب نهاية مباراة دامية غير متكافئة، طرفاها كيان استعماري صهيوني استيطاني مدجج بأسلحة الدمار والموت، أسلحة لم تجد طريقها إلا لأجساد الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير كل مقومات الحياة، فيما هناك في المواجهة شعب محتل ومقاومة تواجه أعتى وأكبر جيش احتلالي استيطاني عنصري، مقاومة سلاحها إنتاج ذاتي وصناعة محلية، لكنه محشو بالإرادة والعزيمة والحق وبقوة العزيمة والرغبة الجامحة بالحرية والانعتاق من براثن الاحتلال..
في هذه المعادلة يتساءل المراقب عن دور ومواقف أولئك الذين يرفعون بيرق العالم الجديد، عالم متعدد الأقطاب، الذين يفترض بهم أن يكونوا عونا لمن شاءت الأقدار أن يكونوا وقودا لمحركات قطار العالم الجديد، أقصد هنا تحديدا – وبكل شفافية ووضوح -روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية ومجموعة دول البريكس، وهي الأطراف التي تعود اليها مكاسب الصراع الجيوسياسي والمستفيدة من أنهار الدماء التي تجري في شوارع غزة ومدن فلسطين، تلك الدماء التي يستغلها البعض لتكون وقودا لقطار العالم الجديد دون أن يكلف نفسه بالمقابل التعامل مع المشهد الدامي حتى الألم، من الإقدام على فعل شيء يجسد رغبته وحماسه في الانتصار للعالم الذي بشر به وهو من سيجني ثماره ومكاسبه..؟!
بيد أن الموقفين الروسي والصيني للأسف الشديد لا يبدو عليهما الاستعداد لتحمل مقاليد ومهام العالم الجديد الذي ما انفكا يتحدثان عنه، خاصة وأن واشنطن ولندن وباريس وبرلين ألقت بكل ثقلها لتأييد ودعم عدوان الصهاينة في فلسطين، والهدف هو تأكيد بقائهم كسادة لعالم تحكمه القيم الأمريكية بأبعادها الإمبريالية وأهدافها الاستعمارية، وليس أدل على ذلك من توافد البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات والغواصات النووية الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وهرولة زعماء الغرب إلى الكيان الصهيوني وتسجيل حضورهم في حفل تعميد أو تجديد النفوذ الأمريكي الغربي بدماء أطفال فلسطين وأمهاتهم وآبائهم وأجدادهم، حفلة تريد واشنطن ولندن من خلالها إرسال رسائلهما الواضحة لكل من موسكو وبكين مفادها أن هذه المنطقة هي مسرح نفوذنا بما لها من أهمية جيوسياسية، ناهيكم عن أنها تشكل أهم مصادر الطاقة وسوقا مهما لأنشطتنا الاقتصادية إضافة إلى موقعها الجغرافي المتحكم بالممرات المائية، إلى جانب المميزات التاريخية والحضارية والدينية والثقافية، والأهم من كل هذا أن فيها أهم قاعدة عسكرية استعمارية متقدمة وجدت لرعاية وحراسة المصالح الإمبريالية وهي ( الكيان الصهيوني)، والسيطرة على المنطقة تسقط فكرة العالم متعدد الأقطاب وتعطل مشروع الحزام والطريق وتخنق بالتالي تطلعات روسيا والصين والبريكس ويصبح كل ما تم إعداده في هذا الاتجاه غير ذي جدوى إن لم تعمل روسيا والصين على وقف هذه المذابح التي تجري على يد الصهاينة برعاية أمريكية غربية، تدرك موسكو وبكين جيدا أهدافهما والغاية المرجوة منها أمريكيا، ويعد الصمت الروسي والصيني أو المواقف الخجولة وكأنها مواقف انتهازية، الغاية منها تسجيل نقاط سلبية ضد واشنطن والغرب إثباتا لرؤية روسيا والصين تجاه أمريكا والغرب، التي نعلمها جيدا لكننا بالمقابل لا نحبذ أن تدشن عاصمتا العالم الجديد مسيرتهما بهذه الطريقة التي لا يمكن وصفها بالانتهازية وإن كان فيها شيء من هذا..!
إن وضع روسيا في مواجهة أمريكا والغرب في أوكرانيا، ربما يشفع لها بعضا من مواقفها، لكن ليس هناك ما يشفع لبكين مواقفها وهي القادرة على لعب دور محوري مؤثرا إن لم تكن هناك صفقات مساومة وتقاسم نفوذ وتبادل مصالح جيوسياسية مع أنه لا أمل لبكين في أي صفقة تبرمها مع واشنطن وهي المصنفة العدو الجيوسياسي والاستراتيجي ليس لأمريكا بل وللمنظومة الاستعمارية الغربية برمتها التي تنظر للصين كعدو وجودي قبل أن تكون عدواً اقتصادياً..!!
إن دماء أطفال فلسطين منحت كلاً من روسيا والصين فرصة ذهبية للتعبير عن تطلعاتهما الجيوسياسية والبدء في تدشين مرحلة العالم الجديد، وأي تردد سيفقدهما الفرصة ويدفعهما إلى دفع المزيد من الأثمان والتبعات التي قد تكون مؤلمة لهما معا، ليس أقلها فرض واشنطن من جديد نفوذها الصارم المشفوع بقوة حضور أساطيلها في المنطقة وتعزيزها بالمزيد من التفرد والاستقواء على دول المنطقة وتخويفها بالمجازر الصهيونية، التي ترى واشنطن أنها ليست مجرد تصفية المقاومة العربية في فلسطين بل هي أحد عوامل الردع ورسائل ترسلها أمريكا لكل دول وأنظمة المنطقة، مفادها أن لا قوى يمكن أن تحد من نفوذنا أو تتجاوز نطاق حضورنا الجيوسياسي، وما حالة الانفتاح التي سمحت لبعض دول المنطقة بالتوجه شرقا إنما كانت برغباتنا ونحن من سمح به لأسباب خاصة بنا، هذا سيكون منطق واشنطن إن لم تتحرك الآن روسيا والصين ودول البريكس لتسجيل موقف يتجاوز الإدانات وبيانات الشجب والتنديد أو التحدث بلغة إنسانية في محاولة مسك العصا من المنتصف.
فهل تنتهز روسيا والصين ودول البريكس الفرصة التي قدمتها لهم دماء أطفال فلسطين، واستغلال هذا التحول في المزاج الشعبي عالميا ضد أمريكا والأنظمة الغربية؟
هذا ما نأمله ونتوقعه ونترقبه.

قد يعجبك ايضا