تعريف كل مصطلح يُستخرج من معناه الُّلغوي والدَّلالي، وسواء كان معنى العولمة مأخوذاً من العلم أو من العالمية فكلاهما مكملٌ للآخر ، وأيّاً كان الأمر فالواضح أن كلمة عولمة في العربية على وزن فعللة، وعولمة العالَم السعي إلى محاولة قولبته وتشييئه أي التعامل مع الإنسان كشيء أشبه بالآلة والتحكم في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية دون اعتبار لحقه في التنوع والحرية والكرامة مهما رفع من شعارات مناقضة فما أكثر الأنظمة التي ترفع شعاراً وتعمل عكسه ، ومن المؤسف أن من يقود العالم نحو البحث عن نظام عالمي فيه قدر من العدالة يسعى بدلاً من ذلك إلى فرض أنظمة أبعد ما تكون عن العدالة لتكون بمثابة الوكيل لمصالحه وتهيئة الظروف لتدخله السلبي في حياة الدول والشعوب لدعم عملائه والتعامل معها كحقول للتجارب والسيطرة على مواقع ثرواتها ، والمطلوب من السلطات والشعوب اليقظة الكاملة ومعرفة الذات للتعامل مع الآخر بشفافية ووعي إذ أن الانطلاق إلى العالمية إنما يتم من قاعدة صلبة لديها الوعي والقدرة على الحوار الخلاق.
لا يجب أن نسمح للعولمة المتوحشة ولا لأي قوة أن تسحق عقولنا أو تدوس على أجسادنا وأرواحنا وضمائرنا فتحولنا إلى آلة صماء.
نعم هناك من البشر أو من هم على صورة البشر من يسعى إلى تحويل إخوانهم في الإنسانية بل وكل شركائهم في الحياة من حيوان ونبات وكلما يتنفس إلى مادة طيعة مستمتعاً بما يصنع غير مدرك لخطورته على نفسه أولاً ثم على من يطوعه ثانياً.
هذا ملمح من ملامح الوجه المظلم للعولمة في نسختها الغربية التي تأخذ وجه الحداثة وما بعد الحداثة وهي بالمجمل ترجمة للغزو والتوسع وإبادة شعوب بأكملها وإحلال أخرى مكانها باستخدام مختلف فنون العنف التي مارسها المستعمرون والغزاة في مختلف بقاع الأرض وعلى مدى التاريخ القديم والحديث سواء باسم الدين أو بعناوين سياسية وثقافية مختلفة أو خيالات لبعض مرضى النفوس من المستبدين الطغاة، واسمحوا لي أن ابقي الأمر مجرداً لأن من غير الممكن الإحاطة بكل أسماء ممارسات الطغاة أو حتى بأبرزهم نظراً لكثرتهم عبر التاريخ وما زالوا يتناسلون، والأخطر من ذلك أن الطغيان والفساد والاستبداد قد طور أساليب تخفيه حسب شاعرنا المبصر الحي أبداً عبد الله البردوني من حالة الاحتلال والغزو المادي المباشر باستخدام السيف والرمح والبندقية والمدفع والصاروخ والطائرات الحربية والقنبلة الذرية والصواريخ العابرة للقارات وكل فنون القوة المادية العاتية الجبارة القادرة على الوصول من أي نقطة إلى أي نقطة أخرى في العالم، وفي سرعة تفوق التصور أي القوة التي قهرت الزمان والمكان وانتهكت الحدود والأسوار، لتنتقل إلى حالة (الغزو من الداخل) حسب عنوان قصيدة البردوني الذي جسد أعمق صورة للمستعمر المتخفي في قوله:
(فضيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
وهل تدرين يا صنعاء من المستعمر السري
غزاة لا أشاهدهم وسيف الغزو في صدري
فقد يأتون تبغاً في سجائر لونها يغري
وفي صدقات وحشي يؤنسن وجهه الصخري)
إلى آخر القصيدة التي سرد فيها الشاعر الجزء الأكبر من ملامح العولمة المتوحشة اليوم.
وهنا قد يسأل سائل:
وهل للعولمة وجه مشرق؟!
والجواب ببساطة نعم ولكن تفاصيل نعم أوسع من أن يحتويها مقال بهذا الحجم فليس كل الطغاة ولا كل الغزاة والمستعمرين على قلب رجل واحد وإن جمعهم استخدام القوة الخشنة أو الناعمة في إكراه الناس على قبول حكمهم وهذا كاف لرفضهم، ولكن ما أقصده أن النسخة الماكرة للعولمة الحديثة المعتمدة على المكر والخداع وسحق التعدد الثقافي باسم التعددية وحقوق الإنسان، هذه النسخة بحاجة إلى وعي وإدراك يواجه مستوى المكر والخداع، ويمد اليد والعقل للتفاعل مع عقلاء العالم الذين تسحقهم العولمة بكل أشكالها ربما أكثر من الدول المتخلفة المستوردة للعولمة عن طريق المعدة والعقل.
تداخل الغزو لدرجة أعجزت الإنسان عن الاختيار على أ ي وجه يحيا وعلى أي وجه يموت، واستعادة التوازن تقتضي العودة إلى منطق التراحم بين أبناء الوطن الواحد والتعاون على فهم تفاصيل العولمة المتوحشة وكيفية الخروج من نفقها ليس بمنطق الانغلاق وإنما بمنطق البحث عن نظام عالمي يحترم حقوق الإنسان ويرفض المعايير المزدوجة ويؤمن فعلاً بتعدد الأديان والأفكار والثقافات.
أنت والعالم صنوان
قل أين أنت متكئٌ فوق جفن القمر
أم ترى تحت نهر الحياة
Prev Post